اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا كُلُّ خَتَّارٖ كَفُورٖ} (32)

قوله : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كالظلل } لما قال : إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكلّ صَبَّارٍ ذكر أن الكُلَّ معترف به غير أن البصير يدركه أولاً ومن في بصيرته ضعف لا يُدْرِكُه أولاً فإذا غَشِيَه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل للَّه{[42637]} ودعاه مخلصاً . وقوله : «كالظلل » قال مقاتل : كالجبال{[42638]} ، وقال الكلبي{[42639]} : كالسحاب .

والظلل جمع الظُّلَةِ شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها{[42640]} ، وجعل الموج وهو واحد كالظُّلَلِ وهو جمع لأن الموج{[42641]} يأتي منه شيء بعد شيء وقوله : { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي يتركون كل من دعوهم { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر } أي نجاهم{[42642]} من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة ووصفهم بقوله : «فَمنْهُمْ مُقْتَصِدٌ » أي عدل موف في البر بما عاهَدَ{[42643]} اللَّهَ عليه في البحر من التوحيد له يعني على إيمانه . قيل : نزلت في عكرمةَ بْنِ أبي جهل هَرَبَ عام الفتح في البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمةُ : لئن أنجاني{[42644]} الله من هذا الأمر لأرجعن إلى محمد ولأضع{[42645]} يَدِي في يده . فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه{[42646]} ، وقال مجاهد : مقتصد{[42647]} في القول أي من الكفار لأن منهم من كان أشد قولاً من بعض .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله في العنكبوت : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } وقال ههنا : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } ؟ ! .

فالجواب : لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الإنزجار{[42648]} ، ومقتصد في الإخلاص فيبقى معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص ، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معانيه مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أثر .

قوله : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا } في مقابلة قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ } يعني يعترف بها الصبار والشكور ، ويجحدها الختَّارُ الكفور فالصّبَّار في موازنة الختار لفظاً ومعنى ، والكفور في موازنة الشكور أمَّا لفظاً فظاهر ، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر ، أو شديد الغدر مثال مبالغة من الخَتْر وهو أشد الغدر ( قال الأعشى ) :

4060 - بِأَبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ *** حِصْنٌ حَصِينٌ وجارٌ غَيْرُ خَتَّارِ{[42649]}

وقال عمرو بن معد يكرب :

4061 - فَإِنَّكَ لَوْ رأَيْتَ أَبَا عَمرٍو *** مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ{[42650]}

وقالوا : «إنْ مَدَدَتْ لَنَا يداً مِنْ غَدْرٍ مَدَدْنَا لَكَ بَاعاً منْ خَتر »{[42651]} والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصبور إن لم يعقدْ مع أحد لا يُعْهَدُ منه الإضرار فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله ، وأما الغدار فيعاهدك ولا يصبر على العهد{[42652]} فينقضه وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى ظاهر .


[42637]:في "ب" الكل من الله.
[42638]:القرطبي 14/80.
[42639]:القرطبي 14/80.
[42640]:المرجع السابق.
[42641]:انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 25/162 بالمعنى منه.
[42642]:في "ب" أنجاهم.
[42643]:في "ب" بما عاهده الله.
[42644]:في "ب" أنجانا.
[42645]:في "ب" ولأضعن.
[42646]:نقله ابن الجوزي في زاد المسير 6/328.
[42647]:انظر: القرطبي 14/80.
[42648]:في "ب" بعض انزجاره.
[42649]:هو له كما أخبر أعلى من البسيط والرواية في اللسان والقرطبي: "بالأبلق" وهو قصر السموءل بن عادياء. وتيماء: موضع ورواية القافية في الديوان: "غير غدار" بدل من ختار محل الشاهد حيث جيء به استدلالاً على أن الختر هو أشد الغدر وأفظعه وانظر مجاز القرآن 2/29 والقرطبي 14/80 ولسان العرب: " ت ي م" 462 و"ب ل ق" وديوانه 69، وانظر كذلك صحاح الجوهرة: " خَ تَ رَ".
[42650]:من الوافر له والأصح: أبا عمير "بدل من عمرو" حتى يتسنى الوزن والغدر: غير الختر بدليل عطف الختر عليه وقيل: هما بمعنى. والشاهد فيه كسابقه حيث تعني كلمة "الختر" أشد الغدر وأسوأه. وانظر البيت في مجاز القرآن 2/129 والقرطبي 14/80 والبحر المحيط 7/182 والطبري 21/4 والكشاف 3/238 وتفسير ابن كثير 3/453، ومجمع البيان للطبرسي 7/505 وديوانه (109).
[42651]:ذكر هذا الخبر ابن منظور في اللسان: " خ ت ر" 1099 بصيغة: "لن تمد لنا شبراً من غدر إلا مددنا لك باعاً من ختر".
[42652]:في "ب" الغدر.