السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا كُلُّ خَتَّارٖ كَفُورٖ} (32)

ولما ذكر تعالى أن في ذلك لآيات ذكر أنّ الكل معترفون غير أنّ البصير يدركه أوّلاً ومن في بصيرته ضعف لا يدركه أوّلاً كما قال تعالى : { وإذا غشيهم } أي : علاهم وهم في الفلك حتى صار كالمغطي لهم { موج } أي : هذا الجنس وأفرده لشدّة اضطرابه وإتيانه شيئاً في أثر شيء متابعاً يركب بعضه بعضاً كأنه شيء واحد ، وأصله من الحركة والازدحام واختلف في قوله تعالى { كالظلل } فقال مقاتل : كالجبال ، وقال الكلبي : كالسحاب . والظلل جمع ظلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها ، فإن قيل : كيف جعل الموج وهو واحد كالظلل وهو جمع ؟ أجيب : بأنّ الموج يأتي منه شيء بعد شيء فلما صاروا إلى هذه الحالة { دعوا الله } أي : مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله عالمين بجميع مضمون الآية السابقة من حقيته وعلوّه وكبريائه وبطلان ما يدعونه من دونه { مخلصين له الدّين } أي : الدعاء بأن ينجيهم لا يدعون شيئاً سواه بأنفسهم ولا قلوبهم لما اضطرّهم إلى ذلك { فلما نجاهم } أي : خلصهم من تلك الأهوال { إلى البر } نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين وانقسموا قسمين { فمنهم } أي : تسبب عن نعمة الإنجاء أنه كان منهم { مقتصد } أي : عدل موف في البرّ بما قد عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له ، بمعنى أنه ثبت على ذلك وهم قليل كما دل عليه التصريح بالتبعيض ، قيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل هرب في عام الفتح إلى البحر فجاءتهم ريح عاصف فقال عكرمة : لئن نجاني الله من هذه لأرجعنّ إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولأضعنّ يدي في يده فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه ، قال مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر ، قال الكلبي : مقتصد في القول أي : من الكفار لأنّ بعضهم كان أشدّ قولاً وأعلى في الافتراء من بعض ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلبات الحياء في التصريح بذلك وهو الأكثر كما دل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في العنكبوت { فلما نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون } ( العنكبوت : 65 ) وقال هنا { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد } ؟ أجيب : بأنه لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد ، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر ، فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أثر وقوله تعالى { وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار } أي : غدّار فإنه نقض للعهد الفطري أي : لما كان في البحر والختر أشدّ الغدر { كفور } أي : للنعم في مقابله قوله تعالى إن في ذلك لآيات أي : يعترف بها الصبار الشكور ، ويجحدها الختار الكفور ، فالصبار في موازنة الختار لفظاً ومعنى ، والكفور في موازنة الشكور كذلك أما لفظا فيهما فظاهر ، وأمّا كون الختار في موازنة الصبار معنى فلأن الختار هو الغدّار الكثير الغدر أو شديد الغدر مثال مبالغة من الختر وهو أشدّ الغدر ، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر ؛ لأنّ الصبور لا يعهده منه الإضرار فإنه يصبر ويفوّض الأمر إلى الله تعالى ، وأما الغدّار ليعاهدك ولا يصبر على العهد فينقضه . وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى فظاهر .