فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا كُلُّ خَتَّارٖ كَفُورٖ} (32)

{ وإذا غشيهم موج كالظلل } أي : كالجبال التي تظل من تحتها ، شبه الموج لكبره بما يظل الإنسان من جبل ، أو سحاب ، أو غيرهما ، وإنما شبه الموج وهو واحد ، بالظلل وهي جمع ، لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا . وقيل : إن الموج في معنى الجمع ، لأنه مصدر ، وأصل الموج بعضه بعضا . وقيل : إن الموج في معنى الجمع ، لأنه مصدر ، وأصل الموج الحركة والازدحام ، ومنه يقال ماج البحر ، وماج الناس وقرئ كالظلال جمع ظل .

{ دعوا الله } وحده { مخلصين له الدين } أي : لا يعولون على غيره في خلاصهم لأنهم يعلمون أنه لا يضر ولا ينفع سواه ، ولكنه يغلب على طبائعهم العادات ، وتقليد الأموات ، فإذا وقعوا في مثل هذه الحالة اعترفوا بوحدانية الله تعالى ، وأخلصوا دينهم له طلبا للخلاص والسلامة مما وقعوا فيه ، لزوال ما ينازع الفطرة الإيمانية من الهوى والتقليد بما دهاهم من الشدائد .

{ فلما نجاهم إلى البر } صاروا قسمين { فمنهم مقتصد } أي : فقسم مقتصد ، أي : عدل موف في البر ، بما عاهد عليه الله في البحر ، من إخلاص الدين له ، باق على ذلك بعد أن نجاه الله من هول البحر ، وأخرجه إلى البر سالما . قال الحسن : معنى مقتصد مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة . وقال مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر . وقال الرازي : المقتصد المتوسط بين السابق بالخيرات ، والظالم لنفسه ، هو الذي تساوت سيئاته وحسناته ، وقيل : متوسط بين الكفر والإيمان ، لأنه انزجر بعض الإنزجار ، ومنهم باق على كفره لأن بعضهم كان أشد قولا ، وأعلى افتراء من بعض ، والأولى وما ذكرناه .

قيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل ، وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر ، فجاءهم ريح عاصف ، فقال عكرمة : لئن نجانا الله من هذا لأرجعن إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ولأضعن يده في يدي ، فسكنت الريح ، ورجع عكرمة إلى مكة ، وحسن إسلامه ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فمنهم مقتصد ، ومنهم كافر لم يوف بما عاهد ، ويدل على هذا المحذوف قوله :

{ وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } لأنه نقض العهد الفطري ، ورفض ما كان عليه في البحر ، وهذا في مقابلة صبار ، كما أن { كفور } في مقابلة { شكور } والختر : أسوأ الغدر وأقبحه . قال الجوهري : الختر : الغدر ، يقال : ختره فهو ختار ، أي : غدار ، قال الماوردي : وهذا قول الجمهور ، وقال ابن عطية : إنه الجاحد ، وجحد الآيات إنكارها ، والكفور عظيم الكفر بنعم الله سبحانه . قال ابن عباس : ختار : جحاد .