وكذلك من جاء بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار ، ممن اتبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل اللّه . { فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ْ } لهم ما لكم وعليهم ما عليكم{[360]}
فهذه الموالاة الإيمانية - وقد كانت في أول الإسلام - لها وقع كبير وشأن عظيم ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصارأخوة خاصة ، غير الأخوة الإيمانية العامة ، وحتى كانوا يتوارثون بها ، فأنزل اللّه { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ْ } فلا يرثه إلا أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض ، فإن لم يكونوا ، فأقرب قراباته من ذوي الأرحام ، كما دل عليه عموم هذه الآية الكريمة ، وقوله : { فِي كِتَابِ اللَّهِ ْ } أي : في حكمه وشرعه .
{ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ } ومنه ما يعلمه من أحوالكم التي يجري من شرائعه الدينية عليكم ما يناسبها .
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين ، كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي :
( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) . .
ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة ؛ حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته ، وانتظم الناس في مجتمعه . فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل . كما قال رسول الله [ ص ] غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريباً ؛ لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام ، وقيام القيادة المسلمة على شريعة الله وسلطانه . . فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية ؛ وارتفع حكم الله - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض ، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها ، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها . . الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام - كالجولة الأولى - تأخذ - في التنظيم - كل أحكامها المرحلية ، حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة ؛ ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى - بإذن الله - فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل ؛ كما حدث في الجولة الأولى . .
ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة ، وتكاليفها الخاصة . . قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم ، في كل صوره وأشكاله ، وفي كل التزاماته ومقتضياته . بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم . . فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية ، اللازمة لعملية البناء الأولى ، المواجهة لتكاليفها الاستثنائية . وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة - ولكنه في إطار المجتمع المسلم في دار الإسلام :
( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . . )
فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام ، من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام . . إن هذا يلبي جانباً فطرياً في النفس الإنسانية . ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية ، ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي . . إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية ؛ ولكنه يضبطها . يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي ؛ فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها - في إطاره العام . ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة ، التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام ، التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية . . وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى ؛ وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى . .
وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر ، وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها . فهي من العلم المحيط بكل شيء . علم الله تعالى . .
وبعد فإن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ؛ ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ؛ ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز " إنسانية الإنسان " وتقويتها وتمكينها ، وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني . وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه . .
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب " الجهالة العلمية ! " مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ؛ ومرة بأنه مادة كسائر المواد ! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه " الصفات " مع الحيوان ومع المادة له " خصائص " تميزه وتفرده ؛ وتجعل منه كائناً فريداً - كما اضطر أصحاب " الجهالة العلمية ! " أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا ، فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة !
والإسلام - بمنهجه الرباني - يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز " الإنسان " وتفرده بين الخلائق ؛ فيبرزها وينميها ويعليها . . وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي ، التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة ، إنما يمضي على خطته تلك . فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في " الإنسان " من " خصائص " . .
إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب ، ولا اللغة ، ولا الأرض ، ولا الجنس ، ولا اللون ، ولا المصالح ، ولا المصير الأرضي المشترك . . فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان . وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع ، وإلى اهتمامات القطيع ، وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع ! أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده ، ووجود هذا الكون من حوله تفسيراً كلياً ؛ كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله ، ومصيره ومصير الكون من حوله ؛ وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى ، فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق ، والذي ينفرد به عن سائر الخلائق ؛ والذي يقرر " إنسانيته " في أعلى مراتبها ؛ حيث يخلف وراءه سائر الخلائق .
ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة ؛ يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية . فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضاً ، لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها . . إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ؛ ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه ؛ ولا تغيير اللون الذي ولد به . فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد ، لم يكن له فيها اختيار ، ولا يملك فيها حيلة . . كذلك مولده في أرض بعينها ، ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد ، وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ؛ ومجال " الإرادة الحرة " فيها محدود . . ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني . . فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج ، فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني ، ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره ؛ وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته ؛ فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه ، أو الأرض التي ولد فيها ، أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره .
. . وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي . .
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ؛ ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها ، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة ! ولإبراز " خصائص الإنسان " في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها ، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات ، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ؛ وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ؛ وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة ؛ وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة . على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق : العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما " عربية " إنما كانت دائماً " إسلامية " . ولم تكن يوماً ما " قومية " إنما كانت دائماً " عقيدية " . .
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة ، وبآصرة الحب ، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . . فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم ، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ؛ وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة ؛ وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ؛ وتبرز فيها " إنسانيتهم " وحدها بلا عائق . . وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ ! . .
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً . فقد ضمت بالفعل أجناساً متعددة ؛ ولغات متعددة ، وأرضين متعددة . . . ولكن هذا كله لم يقم على آصرة " إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية ، وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ؛ ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً . . ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه ! تجمعاً قومياً استغلالياً ؛ يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية ، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها : الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما ، والإمبراطورية الفرنسية . . وكلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت !
وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر ، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة " إنسانية " عامة . إنما أقامته على القاعدة " الطبقية " . . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع على قاعدة طبقة " الأشراف " ؛ وذلك تجمع على قاعدة طبقة " الصعاليك " [ البروليتريا ] والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى !
وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن " المطالب الأساسية " للإنسان هي " الطعام والمسكن والجنس " - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام ! ! !
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال مفرداً . . والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر ، يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً ! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ؛ ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق . . وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار ؛ ويعملون ضد خط الصعود الإنساني ؛ ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه " البهائم " من الحظيرة والكلأ ! بعد أن رفعه الله إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه " الناس " !
وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصباً وجموداً ورجعية ، وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدماً ورقياً ونهضة ؛ وأن تقلب القيم والاعتبارات كلها ؛ لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة . . خصيصة الإنسان العليا . .
ولكن الله غالب على أمره . . وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء . . وسيكون ما يريده الله حتماً . . وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم الله الإنسان بها . والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق . وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق ، تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام . .
{ { والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم }
بعد أن منع الله ولاية المسلمين للذين آمنوا ولم يهجروا بالصراحة ، ابتداءً ونفى عن الذين لم يهاجروا تحقيق الإيمان ، وكان ذلك مثيراً في نفوس السامعين أن يتساءلوا هل لأولئك تمكن من تدارك أمرهم بِرأبِ هذه الثَّلمة عنهم ، ففتح الله باب التدارك بهذه الآية : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } .
فكانت هذه الآية بياناً ، وكان مقتضى الظاهر أن تكون مفصولة غير معطوفة ، ولكن عدل عن الفصل إلى العطف تغليباً لمقام التقسيم الذي استوعبته هذه الآيات .
ودخول الفاء على الخبر وهو { فأولئك منكم } لتضمين الموصول معنى الشرط من جهة أنّه جاء كالجواب عن سؤال السائِل ، فكأنّه قيل : وأمّا الذين آمنوا من بعد وهاجروا الخ ، أي : مهما يكن من حال الذين آمنوا ولم يهاجروا ، ومن حال الذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا ، ف { الذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } وبذلك صار فعل { آمنوا } تمهيداً لما بعده من { هاجروا وجاهدوا } لأن قوله : { من بعد } قرينة على أنّ المراد : إذا حصل منهم ما لم يكن حاصلاً في وقت نزول الآيات السابقة ، ليكون أصحاب هذه الصلة قسماً مغايراً للأقسام السابقة . فليس المعنى أنّهم آمنوا من بعد نزول هذه الآية ، لأنّ الذين لم يكونوا مؤمنين ثم يؤمنون من بعد لا حاجة إلى بيان حكم الاعتداد بإيمانهم ، فإنّ من المعلوم أنّ الإسلام يجُبُّ ما قبَله ، وإنّما المقصود : بيان أنّهم إن تداركوا أمرهم بأن هاجروا قُبلوا وصاروا من المؤمنين المهاجرين ، فيتعيّن أنّ المضاف إليه المحذوفَ الذي يشير إليه بناء { بعدُ } على الضمّ أن تقديره : من بعد ما قلناه في الآيات السابقة ، وإلاّ صار هذا الكلام إعادة لبعض ما تقدّم ، وبذلك تسقط الاحتمالات التي تردّد فيها بعض المفسّرين في تقدير ما أضيف إليه ( بعد ) .
وفي قوله : { معكم } إيذان بأنّهم دُون المخاطبين الذين لم يستقرّوا بدار الكفر بعد أن هاجر منها المؤمنون ، وأنّهم فرطوا في الجهاد مدة .
والإتيان باسم الإشارة للذين آمنوا من بعدُ وهاجروا ، دون الضمير ، للاعتناء بالخبر وتمييزهم بذلك الحكم .
و« من » في قوله : { منكم } تبعيضية ، ويعتبر الضمير المجرور بمن ، جماعة المهاجرين أي فقد صاروا منكم ، أي من جماعتكم وبذلك يعلم أنّ ولايتهم للمسلمين .
{ وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } .
قال جمهور المفسّرين قوله : { فأولئك منكم } أي مثلكم في النصر والموالاة ، قال مالك : إنّ الآية ليست في المواريث ، وقال أبو بكر بن العربي : قوله : { فأولئك منكم } « يعني في الموالاة والميراث على اختلاف الأقوال ، أي اختلاف القائلين في أنّ المهاجر يرث الأنصاري والعكس ، وهو قول فرقة .
وقالوا : إنّها نسخت بآية المواريث .
عطف جملة على جملة فلا يقتضي اتّحاداً بين المعطوفة والمعطوف عليها ، ولكن وقوع هذه الآية بإثر التقاسيم يؤذن بأنّ لها حظّاً في إتمام التقسيم ، وقد جعلت في المصاحف مع التي قبلها آية واحدة .
فيظهر أنّ التقاسيم السابقة لمّا أثبتت ولاية بين المؤمنين ، ونفت ولايةً من بينهم وبين الكافرين ، ومِن بينهم وبين الذين آمنوا ولم يهاجروا حتّى يهاجروا ، ثم عادت على الذين يهاجرون من المؤمنين بعد تقاعسهم عن الهجرة بالبقاء في دَار الكفر مدّة ، فبيّنت أنّهم إن تداركوا أمرهم وهاجروا يدخلون بذلك في ولاية المسلمين ، وكان ذلك قد يشغل السامعين عن وَلاية ذوي أرحامهم من المسلمين ، جاءت هذه الآية تذكّر بأنّ ولاية الأرحام قائمة وأنّها مرجّحة لغيرها من الولاية فموقعها كموقع الشروط ، وشأن الصفات والغايات بعد الجُمل المتعاطفة أنّها تعود إلى جميع تلك الجمل ، وعلى هذا الوجه لا تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضته الآيات قبلها من الولاية بين المهاجرين والأنصار بل مقيّدةً الإطلاقَ الذي فيها .
وظاهر لفظ { الأرحام } جَمْعُ رَحِم وهو مقّر الولد في بطن أمّه ، فمن العلماء من أبقاه على ظاهره في اللغة ، فجعل المراد من أولي الأرحام ذوي القرابة الناشئة عن الأمومة ، وهو ما درج عليه جمهور المفسّرين ، ومنهم من جعل المراد من الأرحام العصابات دون المولودين بالرحم . قاله القرطبي ، واستدلّ له بأنّ لفظ الرحم يراد به العصابة ، كقول العرب في الدعاء « وصلتْك رحم » ، وكقول قُتَيّلة بنتتِ النضر بن الحارث :
ظَلّتْ سيوف بني أبيه تَنوشه *** للَّه أرحام هناك تمزّق
حيث عَبرت عن نَوش بني أبيه بتمزيق أرحام .
وعُلم من قوله : { أولى } هو صيغة تفضيل أنّ الولاية بين ذوي الأرحام لا تعتبر إلا بالنسبة لمحلّ الولاية الشرعية فأولوا الأرحام أوْلى بالولاية ممّن ثبتت لهم ولاية تامّة أو ناقصة كالذين آمنوا ولم يهاجروا في ولاية النصر في الدين إذا لم يقم دونها مانع من كفر أو ترك هجرة ، فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء ولاية الإيمان ، وأولو الأرحام منهم بعضهم لبعض أولياء ولايةَ النسب ، ولولاية الإسلام حقوق مبيّنة بالكتاب والسنّة ، ولولاية الأرحام حقوق مبيّنة أيضاً ، بحيث لا تُزاحم إحدى الولايتين الأخرى ، والاعتناءُ بهذا البيان مؤذن بما لوشائج الأرحام من الاعتبار في نظر الشريعة ، فلذلك عَلقت أولوية الأرحام بأنّها كائنة في كتاب الله أي في حكمه .
وكتابُ الله قضاؤه وشرعه ، وهو مصدر ، إمّا باق على معنى المصدرية ، أو هو بمعنى المفعول ، أي مكتوبة كقول الراعي :
وجَعْلُ تلك الأولوية كائنة في كتاب الله كنايةٌ عن عدم تعبيره ، ا لأنّهم كانوا إذا أرادوا توكيد عهد كتبوه . قال الحارث بن حِلَّزة :
حَذر الجَوْر والتَّطَاخِي وهل ينْ *** قُض ما في المهارق الأهواء
فتقييد أولوية أولي الأرحام بأنّها في كتاب الله للدلالة على أنّ ذلك حكم فطري قدّره الله وأثبته بما وضع في الناس من الميل إلى قراباتهم ، كما ورد في الحديث : « إن الله لما خلق الرحِمَ أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت : هذا مقام العائذِ بك من القَطيعة » الحديثَ . فلمّا كانت ولاية الأرحام أمراً مقرراً في الفطرة ، ولم تكن ولاية الدين معروفة في الجاهلية بيّن الله أنّ ولاية الدين لا تُبطل ولاية الرحم إلاّ إذا تعارضتا ، لأنّ أواصر العقيدة والرأي أقوى من أواصر الجسد ، فلا يغيّره ما ورد هنا من أحكام ولاية الناس بعضهم بعضاً ، وبذلك الاعتبار الأصلي لولاية ذوي الأرحام كانوا مقدمين على أهل الولاية ، حيث تكون الولاية ، وينتفي التفضيل بانتفاء أصلها ، فلا ولاية لأولي الأرحام إذا كانوا غير مسلمين .
واختلف العلماء في أنّ ولاية الأرحام هنا هل تشمل ولاية الميراث : فقال مالك بن أنس هذه الآية ليست في المواريث أي فهي ولاية النصر وحسن الصحبة ، أي فنقصر على موردها ولم يرها مساوية للعام الوارد على سبب خاصّ إذ ليست صيغتها صيغة عموم ، لأن مناط الحكم قوله : { أولى ببعض } .
وقال جماعة تشمل ولاية الميراث ، ثم اختلفوا فمنهم من قال : نُسِخت هذه الولاية بآية المواريث ، فبطل توريث ذوي الأرحام بقول النبي صلى الله عليه وسلم « ألْحِقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأِوْلى رجلٍ ذَكَرٍ » فيكون تخصيصاً للعموم عندهم .
وقال جماعة يرث ذوو الأرحام وهم مقدمون على أبناء الأعمام ، وهذا قول أبي حنيفة وفقهاء الكوفة ، فتكون هذه الآية مقيِّدة لإطلاق آية المواريث ، وقد علمت ممَّا تقدّم كلّه أنّ في هذه الآيات غموضاً جعلها مرامي لمختلف الأفهام والأقوال . وأيَّامّاً كانت فقد جاء بعدها من القرآن والسنة ما أغنى عن زيادة البسط .
وقوله : { إن الله بكل شيء عليم } تذييل هو مؤذن بالتعليل ؛ لتقرير أوْلويّة ذوي الأرحام بعضهم ببعض فيما فيه اعتداد بالولاية ، أي إنّما اعتبرت تلك الأولويّة في الولاية ، لأنّ الله قد علم أنّ لآصرة الرحم حقّاً في الولاية هو ثابت ما لم يمانعه مانع معتبر في الشرع ، لأنّ الله بكلّ شيء عليم وهذا الحكم ممّا علم ، الله أنّ إثباته رفق ورأفة بالأمّة .