{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } أي : اشتدت وغلظت ، فلم تؤثر فيها الموعظة ، { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات ، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم ، لأن ما شاهدتم ، مما يوجب رقة القلب وانقياده ، ثم وصف قسوتها بأنها { كَالْحِجَارَةِ } التي هي أشد قسوة من الحديد ، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ، ذاب بخلاف الأحجار .
وقوله : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } أي : إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار ، وليست " أو " بمعنى " بل " ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم ، فقال : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } فبهذه الأمور فضلت قلوبكم . ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها ، وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه .
واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله ، قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل ، ونزلوا عليها الآيات القرآنية ، وجعلوها تفسيرا لكتاب الله ، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم : " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "
والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة ، ولا منزلة على كتاب الله ، فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها ، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه ، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة ، التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها ، معاني لكتاب الله ، مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد ، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل ، والله الموفق .
وتعقيبا على هذا المشهد الأخير من القصة ، الذي كان من شأنه أن يستجيش في قلوب بني إسرائيل الحساسية والخشية والتقوى ؛ وتعقيبا كذلك على كل ما سلف من المشاهد و الأحداث والعبر والعظات ، تجيء هذه الخاتمة المخالفة لكل ما كان يتوقع ويرتقب :
( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة . وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء . وإن منها لما يهبط من خشية الله . وما الله بغافل عما تعملون ) .
والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها ، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى . . هي حجارة لهم بها سابق عهد . فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينا ، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا ! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى ، ولا تنبض بخشية ولا تقوى . . قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة . . ومن ثم هذا التهديد :
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 74 )
{ قست } أي صلبت وجفت ، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى ، وقال ابن عباس : المراد قلوب ورثة القتيل ، لأنهم حين حيي قال : إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته موته أنكروا قتله ، وقالوا : كذب بعدما رأوا هذه الآية العظمى ، لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم ، قال عبيدة السلماني : ولم يرث قاتل من حينئذ( {[804]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وبمثله جاء شرعنا( {[805]} ) ، وحكى مالك رحمه الله في الموطأ ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سبباً لأن لا يرث قاتل : ثم ثبت ذلك الإسلام ، كما ثبت كثيراً من نوازل الجاهلية( {[806]} ) ، وقال أبو العالية وقتادة وغيرهما : إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعاً في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك .
وقوله تعالى : { فهي كالحجارة } الآية ، الكاف في موضع رفع خبر ل «هي » ، تقديره : فهي مثل الحجارة { أو أشد } مرتفع بالعطف على الكاف ، { أو } على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي ، و { قسوة } نصب على التمييز ، والعرف في { أو } أنها للشك ، وذلك لا يصح في هذه الآية( {[807]} ) ، واختلف في معنى { أو } هنا ، فقالت طائفة ، هي بمعنى الواو ، كما قال تعالى : { آثماً أو كفوراً }( {[808]} ) [ الإنسان : 24 ] أي وكفوراً ، وكما قال الشاعر [ جرير ] : [ البسيط ]
نال الخلافة أو كانَتْ له قدراً . . . كما أتى ربَّهُ موسى على قَدَر( {[809]} )
أي وكانت له . وقالت طائفة هي بمعنى بل ، كقوله تعالى : { إلى مائة ألف أو يزيدون }( {[810]} ) [ الصافات : 147 ] المعنى بل يزيدون ، وقالت طائفة : معناها التخيير ، أي : شبهوها بالحجارة تصيبوا ، أو بأشد من الحجارة تصيبوا( {[811]} ) ، وقالت فرقة : هي على بابها في الشك . ومعناه : عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم ، أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة . وقالت فرقة : هي على جهة الإبهام( {[812]} ) على المخاطب ، ومنه قول أبي الأسود( {[813]} ) الدؤلي :
أحب محمّداً حباً شديداً . . . وعباساً وحمزة أو عليّا
ولم يشك أبو الأسود ، وإنما قصد الإبهام على السامع ، وقد عورض أبو الأسود في هذا ، فاحتجّ بقول الله تعالى : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين }( {[814]} ) [ سبأ : 24 ] ، وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود ، ولا يتم معنى الآية إلا ب «أو » ، وقالت فرقة : إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر ، وفيهم من قلبه أشد من الحجر( {[815]} ) ، فالمعنى فهي فرقتان كالحجارة أو أشد ، ومثل هذا قولك : أطعمتك الحلو أو الحامض ، تريد أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين ، وقالت فرقة : إنما أراد عز وجل أنها كانت كالحجارة يترجى لها الرجوع والإنابة ، كما تتفجر الأنهار ويخرج الماء من الحجارة ، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته ، فصارت أشد من الحجارة ، فلم تخل أن كانت كالحجارة طوراً أو أشد طوراً ، وقرأ أبو حيوة : «قساوة » ، والمعنى واحد .
وقوله تعالى : { وإن من الحجارة } الآية ، معذرة للحجارة وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة ، وقال قتادة : عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم ، وقرأ قتادة : «وإنْ » مخففة من الثقيلة ، وكذلك في الثانية والثالثة ، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد ، في { لما } ، وما في موضع نصب اسم ل { إن } ، ودخلت اللام على اسم { إن } لمّا حال بينهما المجرور ، ولو اتصل الاسم ب { إن } لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين ، وقرأ مالك بن دينار( {[816]} ) : «ينفجِر » بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم ، ووحد الضمير في { منه } حملاً على لفظ «ما » ، وقرأ أبي بن كعب والضحاك «منها الأنهار » حملاً على الحجارة ، و { الأنهار } جمع نهر( {[817]} ) وهو ما كثر ماؤه جرياً من الأخاديد ، وقرأ طلحة بن مصرف : «لمّا » بتشديد الميم في الموضعين ، وهي قراءة غير متجهة ، { ويشقق } أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين ، وهذه( {[818]} ) عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهاراً ، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منسفح ، ( {[819]} ) وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون ، وقيل في هبوط الحجارة( {[820]} ) تفيؤ ظلالها ، وقيل المراد : الجبل( {[821]} ) الذي جعله الله دكاً ، وقيل : إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبطها من علو تواضعاً ، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وحياة الجذع الذي أَنَّ لفقد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل لفظة الهبوط مجاز( {[822]} ) ، وذلك أن الحجارة -لما كانت القلوب تعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها ، أضيف تواضع الناظر إليها ، كما قالت العرب : ناقة تاجرة أي : تبعث من يراها على شرائها( {[823]} ) ، وقال مجاهد ، ما تدرى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج ماء منه إلا { من خشية الله } ، نزل بذلك القرآن ، وقال مثله ابن جريج ، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة( {[824]} ) كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى { يريد أن ينقض }( {[825]} ) [ الكهف : 77 ] ، وكما قال زيد الخيل : [ الطويل ]
بِجمعٍ تضِل البُلْقُ في حَجَراتِهِ . . . ترى الأكمَ فيه سجداً للحوافرِ( {[826]} )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والجبال الخشع( {[827]} )
أي من رأى الحجر( {[828]} ) هابطاً تخيل فيه الخشية .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا قول ضعيف : لأن براعة معنى الآية تختل به ، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدراً ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة( {[829]} ) ، و { بغافل } في موضع نصب خبر { ما } ، لأنها الحجازية ، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر ، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية ، وقرأ ابن كثير «يعملون » بالياء ، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم .
{ ثم } هنا للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له { ثم } إذا عَطفت الجمل ، أي ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات فـ { قست قلوبكم } وكان من البعيد قسوتها .
وقوله : { من بعد ذلك } زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول القطامي :
أكفراً بعد ردِّ الموتِ عني *** وبعدَ عَطائك المائة الرِّتاعَا
أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت إلخ . ووجه استعمال { بعد } في هذا المعنى أنها مجاز في معنى ( مع ) لأن شأن المسبب ، أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتاً أو نفياً عُبر ببعد عن معنى ( مع ) مع الإشارة إلى التأخر الرتبي .
والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها . وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي وهو احتمال ضعيف أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازاً وهو الصحيح ، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله : { أو أشد قسوة } كما سيأتي .
وقوله : { فهي حجارة } تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعد حكاية الحالة المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجر فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج :
عليهن شعثٌ عامدون لربهم *** فهُنَّ كأطراف الحَنِيِّ خواشع
وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها ، وهذا الأسلوب يسمى عندي تهيئة التشبيه وهو من محاسنه ، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في مثله حسن جداً وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي يعد مذموماً . وقد رأيت بيتاً جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة :
في الريق سُكْر وفي الأَصداغ تجعيد *** هذا المُدَام وهاتيك العناقيد
فإنه لما ذكر السكر تهيأ التشبيه بالخمر ولكن قوله : تجعيد لا يناسب العناقيد .
فإن قلت لم عددته مذموماً وما هو إلا كتجريد الاستعارة ؟
قلت : لا لأن التجريد يجيء بعد تكرر الاستعارة وعلم بها فيكون تفنناً لطيفاً بخلاف ما يجيء قبل العلم بالتشبيه .
وقوله : { أو أشد قسوة } مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله : { فهي كالحجارة } و ( أو ) بمعنى بل الانتقالية لتوفر شرطها وهو كون معطوفها جملة .
وهذا المعنى متولد من معنى التخيير الموضوعة له ( أو ) لأن الانتقال ينشأ عن التخيير فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة وكان الشأن يكون المشبه أضعف في الوصف من المشبه به يُبنى على ذلك ابتداءُ التشبيه بما هو أشهر ثم عقب التشبيه بالترقي إلى التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة{[141]} :
بَدَتْ مثل قرن الشمس في رونق الضُّحى *** وصورتِها أو أنتِ في العين أَمْلَح
فليست { أو } للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها موقع مَا إذا كُرر المشبه به كما قدمناه عند قوله تعالى : { أوْ كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] . ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفاً على الخبر الذي هو { كالحجارة } أي فهي مثل الحجارة أو هي أقوى من الحجارة والمقصود من التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافاً ولا يذمهم تحاملاً بل هومتثبت متحر في شأنهم فلا يُثْبِت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي فإنه ساواهم بالحجارة في وصف ثم تَقَصَّى فرأى أنهم فيه أقوى فكأنه يقول للمخاطب إن شئت فسَوِّهم بالحجارة في القسوة ولك أن تقول هم أشد منها وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل عليه بل وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفاً وأما في مقام المدح فالأحسن هو التعبير ببل كقول الفرزدق :
فقالت لنا أهلاً وسهلاً وزوَّدَتْ *** جَنَى النَّحْل بل ما زوّدتْ منه أطيب
ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعاً مغايراً لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول كما تقدم فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة الحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تُجْدِ فيها محاولة .
وقوله : { وإن من الحجارة لما يتفجَّر } إلخ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يُستغرب ، وموقع هذه الواو الأولى في قوله : { وإن من الحجارة } عسير فقيل : هي للحال من الحجارة المقدَّرة بعد { أَشَد } أي أشد من الحجارة قسوةً ، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهرُ في هذه الأحوال التي وُصِفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال ، وقيل هي الواو للعطف على قوله : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } قاله التفتزاني ، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخباراً عن مزايا فَضُلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تُعطَّلُ قلوب هؤلاء من صدور النفع بها ، وقيل : الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه بعدكما صرح به ابن عرفة ، والظاهر أنها الواو الاعتراضية وأن جملة { وإن من الحجارة } وما عطف عليها معترضاتٌ بين قوله : { ثم قست قلوبكم } وبين جملة الحال منها وهي قوله : { وما الله بغافر عما تعملون } .
والتوكيد بإنَّ للاهتمام بالخبر وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يُناكدُ ذلك كما تقدم عند قوله تعالى : { فإن لكم ما سألتم } [ البقرة : 61 ] .
ومن بديع التخلص تأخُّر قوله تعالى : { وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله } والتعبير عن التَسخُّر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكليفي مع تعاصي قلوبهم عن الامتثال للأمر التلكيفي ليتأتى الانتقال إلى قوله : { وما الله بغافل عما تعملون } وقوله : { أفتطعمون أن يؤمنوا لكم } [ البقرة : 75 ] .
وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جرياً على قاعدة الجاذبية فإذا أضغط عليه بثقل نفسه مِن تكاثُره أو بضاغطٍ آخر من أهْوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماءُ إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماءُ قد حمل في جريته أجزاء من معدن الحامض الفحمي فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقباً في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعاً كالعيون . وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر ، وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة . وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعدَه منفذاً إلى أرض ترابية فيخرج طافياً من سطح الصخور التي جرى فوقها . وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تَطَلَّبَ الخروج بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل .
والخشية في الحقيقة الخوفُ الباعث على تقوى الخائف غيرَه . وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال . وجُعلت هنا مجازاً عن قبول الأمر التكويني إما مرسلاً بالإطلاق والتقييد ، وإما تمثيلاً للهيئة عند التكوين بهيئة المكلَّف إذ ليست للحجارة خشية إذ لا عقل لها . وقد قيل إن إسناد ( يهبط ) للحجر مجاز عقلي والمراد هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها لأنها سببه كما قالوا ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على المساومة فيها{[142]} .
وقوله : { وما الله بغافل عما تعملون } تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن كل صنعكم .
وقد قرأه الجمهور بالتاء الفوقية تكملة خطاب بني إسرائيل ، وقرأ ابن كثير ويعقوب وخلف { يعملون } بالياء التحتية وهو انتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين فلذلك غُيّر أسلوبه إلى الغيبة وليس ذلك من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } [ البقرة : 75 ] عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين . وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضاً .