{ 67 -69 ْ } { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ }
هذه معاتبة من اللّه لرسوله وللمؤمنين يوم { بدر ْ } إذ أسروا المشركين وأبقوهم لأجل الفداء ، . وكان رأي : أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في هذه الحال ، قتلهم واستئصالهم .
فقال تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ْ } أي : ما ينبغي ولا يليق به إذا قاتل الكفار الذين يريدون أن يطفئوا نور اللّه ويسعوا لإخماد دينه ، وأن لا يبقى على وجه الأرض من يعبد اللّه ، أن يتسرع إلى أسرهم وإبقائهم لأجل الفداء الذي يحصل منهم ، وهو عرض قليل بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لإبادتهم وإبطال شرهم ، . فما دام لهم شر وصولة ، فالأوفق أن لا يؤسروا . .
فإذا أثخنوا ، وبطل شرهم ، واضمحل أمرهم ، فحينئذ لا بأس بأخذ الأسرى منهم وإبقائهم .
يقول تعالى : { تُرِيدُونَ ْ } بأخذكم الفداء وإبقائهم { عَرَضَ الدُّنْيَا ْ } أي : لا لمصلحة تعود إلى دينكم .
{ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ْ } بإعزاز دينه ، ونصر أوليائه ، وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم ، فيأمركم بما يوصل إلى ذلك .
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ } أي : كامل العزة ، ولو شاء أن ينتصر من الكفار من دون قتال لفعل ، لكنه حكيم ، يبتلي بعضكم ببعض .
ومن التحريض على القتال ينتقل السياق إلى بيان حكم الأسرى - بمناسبة تصرف الرسول [ ص ] والمسلمين في أسرى بدر - وإلى الحديث إلى هؤلاء الأسرى وترغيبهم في الإيمان وما وراءه من حسن العوض عما فاتهم وعما لحقهم من الخسارة في الموقعة :
( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً ، واتقوا الله ، إن الله غفور رحيم ) .
( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى : إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم ، والله غفور رحيم . وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ، والله عليم حكيم ) . .
قال ابن إسحاق - وهو يقص أخبار الغزوة - : " فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ، ورسول الله [ ص ] في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله [ ص ] متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله [ ص ] يخافون عليه كرة العدو ، ورأى رسول الله [ ص ] فيما ذكر لي ، في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس .
فقال له رسول الله [ ص ] : " والله لكأنك يا سعد تكره مايصنع القوم ! " قال : أجل والله يا رسول الله ، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال ! "
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم - قال : لما كان يومئذ التقوا ، فهزم الله المشركين ، فقتل منهم سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً ، واستشار رسول الله [ ص ] أبا بكر وعمر وعلياً . فقال أبو بكر : يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ؛ وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً . فقال رسول الله [ ص ] : " ما ترى يا ابن الخطاب ? " قال قلت : والله ما أرى رأي أبي بكر ، ولكني أرى أن تمكني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه ، وتمكن علياً من عقيل [ ابن أبي طالب ] فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ! . . فهوى رسول الله - [ ص ] - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، وأخذ منهم الفداء . . فلما كان من الغد - قال عمر - فغدوت إلى النبي [ ص ] وأبي بكر وهما يبكيان . فقلت : ما يبكيك أنت وصاحبك ? فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ! قال النبي [ ص ] : " للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء . لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة " - لشجرة قريبة من النبي [ ص ] - وأنزل الله عز وجل : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض )إلى قوله : ( فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً )فأحل لهم الغنائم . . . ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار اليماني .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن هاشم ، عن حميد ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : استشار النبي [ ص ] الناس في الأسارى يوم بدر ، فقال : " إن الله قد أمكنكم منهم " فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] ، فقال : " يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس " فقام عمر فقال : يا رسول الله ، اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] ، فقال للناس مثل ذلك . فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء . قال : فذهب عن وجه رسول الله [ ص ] ما كان فيه من الغم ، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء . قال : وأنزل الله عز وجل : ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) .
وقال الأعمش ، عن عمر بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ] : " ما تقولون في الأسارى ? " فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قومك وأهلك ، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم . . وقال عمر : يا رسول الله ، كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم . . وقال عبدالله بن رواحة : يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب . فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه ! فسكت رسول الله [ ص ] فلم يرد عليهم شيئاً . ثم قام فدخل . فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس : يأخذ بقول عمر . وقال ناس : يأخذ بقول عبدالله بن رواحة . ثم خرج عليهم رسول الله [ ص ] فقال : " إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال : ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم )وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) . وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال : ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) . وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ) . أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق " . قال ابن مسعود : قلت : يا رسول الله ، إلا سهيل ابن بيضاء فإنه يذكر الإسلام ! فسكت رسول الله [ ص ] فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع على ّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله [ ص ] " إلا سهيل بن بيضاء " . فأنزل الله عز وجل : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . . . )إلى آخر الآية . . . [ رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به ، والحاكم في مستدركه وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ] .
والإثخان المقصود : التقتيل حتى تضعف شوكة المشركين وتشتد شوكة المسلمين ، وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبي والمسلمين أسرى يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر . فعاتب الله المسلمين فيه .
لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين . وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة . وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين . وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء .
وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب . . ذلك هو المعنى الكبير الذي عبر عنه عمر رضي الله عنه في صرامة ونصاعة وهو يقول : " وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين " .
لهذين السببين البارزين نحسب - والله أعلم - أن الله - سبحانه - كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بمال . ولهذه الظروف الواقعية التي كان يواجهها النص - وهو يواجهها كلما تكررت هذه الظروف - قال الله تعالى :
( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) .
" ولذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في أسرى المعركة الأولى :
أي : فأخذتموهم أسرى بدل أن تقتلوهم ؛ وقبلتم فيهم الفداء وأطلقتموهم !
والمسلمون عليهم أن يريدوا ما يريد الله ، فهو خير وأبقى . والآخرة تقتضي التجرد من إرادة عرض الدنيا !
قدر لكم النصر ، وأقدركم عليه ، لحكمة يريدها من قطع دابر الكافرين( ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) .
هذه الآية تتضمن عندي معاتبة من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، والمعنى ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان ، ولهم هو الإخبار ولذلك استمر الخطاب ب { تريدون } ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد قط عرض الدنيا ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب ، وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية مشيراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في العتب حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش ، وأنكره سعد بن معاذ ولكنه صلى الله عليه وسلم شغله بغت الأمر وظهور النصر فترك النهي عن الاستبقاء ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت هذه الآية ، ومر كثير من المفسرين على أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمع أسرى بدر استشار فيهم أصحابه ، فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله هم قرابتك ولعل الله أن يهديهم بعد إلى الإسلام ففادهم واستبقهم ويتقوى المسلمون بأموالهم ، وقال عمر بن الخطاب لا يا رسول الله بل نضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة بل نجعلهم في وادٍ كثير الحطب ثم نضرمه عليهم ناراً ، وقد كان سعد بن معاذ قال وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وقد رأى الأسر : لقد كان الإثخان في القتل أحب إليَّ من استبقاء الرجال ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ومال إليه ، فنزلت هذه الآية مخبرة أن الأولى والأهيب على سائر الكفار كان قتل أسرى بدر ، قال ابن عباس نزلت هذه الآية والمسلمون قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزل في الأسر { فإما منّاً بعد وإما فداء }{[5471]} وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تكلم أصحابه في الأسرى بما ذكر دخل ولم يجبهم ثم خرج ، فقال : إن الله تعالى يلين قلوب رجال ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال { فمن يتبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم }{[5472]} ومثل عيسى قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }{[5473]} ومثلك يا عمر مثل نوح قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً }{[5474]} ومثل موسى قال : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم }{[5475]} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «أنتم اليوم فلا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق »{[5476]}
وفي هذا الحديث قال عمر : فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت .
قال القاضي أبو محمد : وهذه حجة على ذكر الهوى في الصلاح ، وقرأت فرقة «ما كان للنبيّ » معرفاً ، وقرأ جمهور الناس «لنبي » ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وحده «أن تكون » على التأنيث العلامة مراعاة للفظ الأسرى ، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «أن يكون » بتذكير العلامة مراعاة لمعنى الأسرى ، وقرأ جمهور الناس والسبعة «أسرى » ، وقرأ بعض الناس «أسارى » ورواها المفضل عن عاصم ، وهي قراءة أبي جعفر ، والقياس والباب أن يجمع أسير على أسرى ، وكذلك كل فعيل بمعنى مفعول وشبه به فعيل وإن لم يكن بمعنى مفعول كمريض ومرضى ، إذا كانت أيضاً أشياء سبيل الإنسان أن يجبر عليها وتأتيه غلبة ، فهو فيها بمنزلة المفعول ، وأما جمعه على أسارى فشبيه بكسالى في جمع كسلان وجمع أيضاً كسلان على كسلى تشبيهاً بأسرى في جمع أسير ، قاه سيبويه : وهما شاذان ، وقال الزجّاج : أسارى جمع أسرى فهو جمع الجمع{[5477]} ، وقرأ جمهور الناس «يثْخن » بسكون الثاء ، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب «يَثخّن » بفتح الثاء وشد الخاء ، ومعناه في الوجهين يبالغ في القتل ، والإثخان إنما يكون في القتل والجارحة وما كان منها ، ثم أمد{[5478]} مخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال { تريدون عرض الدنيا } أي مالها الذي يعن ويعرض ، والمراد ما أخذ من الأسرى من الأموال ، { والله يريد الآخرة } أي عمل ألآخرة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقرأ ابن جماز «الآخرةِ » بالخفض على تقدير المضاف ، وينظر ذلك لقول الشاعر : [ المتقارب ]
أكل امرىء تحسبين امرأً*** ونار توقّدُ بالليلِ نارا{[5479]}
على تقدير وكل نار ، وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : «إن شئتم أخذتم فداء الأسرى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم ، وإن شئتم قتلوا وسلمتم » فقالوا نأخذ المال ويستشهد منا سبعون ، وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا .
قال القاضي أبو محمد : وعلى الروايتين فالأمر في هذا التخيير من عند الله فإنه إعلام بغيب ، وإذا خيروا فكيف يقع التوبيخ بعد بقوله تعالى : { لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } والذي أقول في هذا إن العتب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { ما كان لنبي } إلى قوله { عظيم } إنما هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة رغبة في أخذ المال منهم وجميع العتب إذا نظر فإنما هو للناس ، وهناك كان عمر يقتل ويحض على القتل ولا يرى الاستبقاء ، وحينئذ قال سعد بن معاذ : الإثخان أحب إليَّ من استبقاء الرجال ، وبذلك جعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجيين من عذاب أن لو نزل ، ومما يدل على حرص بعضهم على المال قول المقداد حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط : «أسيري يا رسول الله » ، وقول مصعب بن عمير للذي يأسر أخاه : «شد يدك عليه فإن له أماً موسرة » ، إلى غير ذلك من قصصهم ، فلما تحصل الأسرى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في النضر وعقبة والمنّ في أبي عزة وغيره ، وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله تعالى فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ ، فمر عمر رضي الله عنه على أول رأيه في القتل ، ورأى أبو بكر رضي الله عنه المصلحة في قوة المسلمين بمال الفداء ، ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر ، وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير ، فلم ينزل على شيء من هذا عتب ، وذكر المفسرون أن الآية نزلت بسبب هذه المشورة والآراء ، وذلك معترض بما ذكرته ، وكذلك ذكروا في هذه الآيات تحليل المغانم لهذه الأمة ولا أقول ذلك ، لأن حكم الله تعالى بتحليل المغنم لهذه الأمة قد كان تقدم قبل بدر وذلك في السرية التي قتل فيها عمرو بن الحضرمي وإنما المبتدع في بدر استبقاء الرجال لأجل المال ، والذي منَّ الله به فيها إلحاق فدية الكافر بالمغانم التي قد تقدم تحليلها ، ووجه ما قال المفسرون أن الناس خيروا في أمرين ، أحدهما غير جيد على جهة الاختبار لهم ، فاختاروا المفضول فوقع العتب ، ولم يكن تخييراً في مستويين ، وهذا كما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بإناءين فاختار الفاضل{[5480]} ، و { عزيز حكيم } صفتان من قبل الآية لأن بالعزة والحكمة يتم مراده على الكمال والتوفية ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون ، والأسارى هم الموثقون ربطاً .
قال القاضي أبو محمد : وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب ، وقد ذكره أيضاً أبو الحسن الأخفش ، وقال : العرب لا تعرف هذا وكلاهما عندهم سواء .