تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } وهي : ما مات بغير تذكية شرعية ، لأن الميتة خبيثة مضرة ، لرداءتها في نفسها ، ولأن الأغلب ، أن تكون عن مرض ، فيكون زيادة ضرر{[118]}  واستثنى الشارع من هذا العموم ، ميتة الجراد ، وسمك البحر ، فإنه حلال طيب .

{ وَالدَّمَ } أي : المسفوح كما قيد في الآية الأخرى .

{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أي : ذبح لغير الله ، كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار ، والقبور ونحوها ، وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات ، جيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله : { طَيِّبَاتِ } فعموم المحرمات ، تستفاد من الآية السابقة ، من قوله : { حَلَالًا طَيِّبًا } كما تقدم .

وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها ، لطفا بنا ، وتنزيها عن المضر ، ومع هذا { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : ألجئ إلى المحرم ، بجوع وعدم ، أو إكراه ، { غَيْرَ بَاغٍ } أي : غير طالب للمحرم ، مع قدرته على الحلال ، أو مع عدم جوعه ، { وَلَا عَادٍ } أي : متجاوز الحد في تناول ما أبيح له ، اضطرارا ، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال ، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها ، { فَلَا إِثْمَ } [ أي : جناح ] عليه ، وإذا ارتفع الجناح الإثم{[119]}  رجع الأمر إلى ما كان عليه ، والإنسان بهذه الحالة ، مأمور بالأكل ، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة ، وأن يقتل نفسه .

فيجب ، إذًا عليه الأكل ، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات ، فيكون قاتلا لنفسه .

وهذه الإباحة والتوسعة ، من رحمته تعالى بعباده ، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين ، وكان الإنسان في هذه الحالة ، ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها - أخبر تعالى أنه غفور ، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ، خصوصا وقد غلبته الضرورة ، وأذهبت حواسه المشقة .

وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة : " الضرورات تبيح المحظورات " فكل محظور ، اضطر إليه الإنسان ، فقد أباحه له ، الملك الرحمن . [ فله الحمد والشكر ، أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ] .


[118]:- في ب: مرض.
[119]:- في أ: (وإذا ارتفع الجناح) وفوق كلمة الجناح كلمة (الإثم) وفي ب، وردت الجملة هكذا (وإذا ارتفع الاثم).
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

158

ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصا وتحديدا باستعمال أداة القصر " ( إنما ) . .

( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) . .

والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم ، فضلا على ما أثبته الطب - بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله - من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم ، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسبابا أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس .

فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم . . والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم . . ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة [ الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة ] . ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة . . وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة . فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها ؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها ، وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحلل ما حللت ، وهي من لدن حكيم خبير !

أما ما أهل به لغير الله . أي ما توجه به صاحبه لغير الله . فهو محرم ، لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله . محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور ، وسلامة القلب ، وطهارة الروح ، وخلوص الضمير ، ووحدة المتجه . . فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة . وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله . وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك . .

ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات ، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة . فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد ، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم . . وفي سائر أمور التشريع . .

ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات ، فيبيح فيها المحظورات ، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات ، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها :

( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم ) . .

وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات . ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات . فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة ، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة . على أن هناك خلافا فقهيا حول مواضع الضرورة . . هل فيها قياس ؟ أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها . . وحول مقدار ما تدفع به الضرورة ؟ هل هو أقل قدر من المحظور أم أكلة أو شربة كاملة . . ولا ندخل نحن في هذا الخلاف الفقهي . وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

{ إنما حرم عليكم الميتة } أكلها ، أو الانتفاع بها . وهي التي ماتت من غير ذكاة . والحديث ألحق بها ما أبين من حي . والسمك والجراد أخرجهما العرف عنها ، أو استثناه الشرع . والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما خصه الدليل ، كالتصرف في المدبوغ . { والدم ولحم الخنزير } إنما خص اللحم بالذكر ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له . { وما أهل به لغير الله } أي رفع به الصوت عند ذبحه للصنم . والإهلال أصله رؤية الهلال ، يقال أهل الهلال وأهللته . لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي ذلك إهلالا ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره . { فمن اضطر غير باغ } بالاستيثار على مضطر آخر . وقرأ عاصم وأبو عمرو حمزة بكسر النون . { ولا عاد } سد الرمق ، أو الجوعة . وقيل ؛ غير باغ على الوالي . ولا عاد بقطع الطريق . فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما الله تعالى . { فلا إثم عليه } في تناوله . { إن الله غفور } لما فعل { رحيم } بالرخصة فيه . فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر . قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا ، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 173 )

وقوله تعالى : { إنما حرم عليكم } { إنما } هنا حاصرة ، و { الميتة } نصب بحرم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميتة » بالتشديد ، وقال الطبري وجماعة من اللغويين : التشديد والتخفيف من «ميّت » و «ميْت » لغتان ، وقال أبو حاتم وغيره : ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه «ميْت » بالتخفيف .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا هو استعمال العرب ويشهد بذلك قول الشاعر( {[1554]} ) : [ الخفيف ]

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيتٍ . . . إنَّمَا المْيتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

استراح : من الراحة ، وقيل : من الرائحة ، ولم يقرأ أحد بالتخفيف فيما لم يمت إلا ما روى البزي عن ابن كثير { وما هو بميت }( {[1555]} ) [ إبراهيم : 17 ] ، والمشهور عنه التثقيل ، وأما قول الشاعر( {[1556]} ) : [ الوافر ]

إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ . . . فَسَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ فِجِىءْ بِزَادِ

فالأبلغ في الهجاء أن يريد الميت حقيقة ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت والأول أشعر ، وقرأ قوم «الميتةُ » بالرفع على أن تكون { ما } بمعنى الذي و { إن } عاملة ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «حُرِّمَ » على ما لم يسمَّ فاعله ورفع ما ذكر تحريمه ، فإن كانت { ما } كافة فالميتة مفعول لم يسم فاعله ، وإن كانت بمعنى الذي فالميتة خبر .

ولفظ { الميتة } عموم والمعنى مخصص( {[1557]} ) لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم( {[1558]} ) ، و { الميتة } : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة ، والطافي من الحوت جوّزه مالك وغيره ومنعه العراقيون ، وفي الميت دون تسبب من الجراد خلاف ، منعه مالك وجمهور أصحابه وجوزه ابن نافع وابن عبد الحكم ، وقال ابن وهب : إن ضم في غرائر فضمه ذكاته ، وقال ابن القاسم : لا ، حتى يصنع به شيء يموت منه( {[1559]} ) كقطع الرؤوس والأجنحة والأرجل أو الطرح في الماء ، وقال سحنون : لا يطرح في ماء بارد ، وقال أشهب( {[1560]} ) : إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل لأنها حالة قد يعيش بها وينسل .

و { الدم } يراد به المسفوح لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع ، وفي دم الحوت المزايل للحوت اختلاف ، روي عن القابسي( {[1561]} ) أنه طاهر ، ويلزم من طهارته أنه غير محرم ، وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها( {[1562]} ) ، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه( {[1563]} ) ، وفي خنزير الماء كراهية أبي مالك أن يجيب فيه ، وقال أنتم تقولون خنزيراً .

وذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية ، وحكى ابن سيده( {[1564]} ) عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر ، فاللفظة على هذا ثلاثية .

و { ما أُهِلّ به لغير الله } ، قال ابن عباس وغيره : المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان ، و { أهل } معناه صيح ، ومنه استهلال المولود ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم( {[1565]} ) ، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق ، فقال إنها مما أُهلَّ به لغير الله فتركها الناس( {[1566]} ) ، ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها( {[1567]} ) عرساً فذبحت جزوراً ، فقال الحسن : لا يحل أكلها فإنها إنما ذبحت لصنم ، وفي ذبيحة المجوسي اختلاف ومالك لا يجيزها البتة ، وذبيحة النصراني واليهودي جائزة .

واختلف فيما حرم عليهم كالطريف والشحم وغيره بالإجازة والمنع( {[1568]} ) ، وقال ابن حبيب ما حرم عليهم بالكتاب فلا يحل لنا من ذبحهم ، وما حرموه باجتهادهم فذاك لنا حلال ، وعند مالك كراهية فيما سمى عليه الكتابي المسيحي أو ذبحه لكنيسته ولا يبلغ بذلك التحريم ، وقوله تعالى { فمن اضطر } الآية ، ضمت النون للالتقاء إتباعاً للضمة في الطاء حسب قراءة الجمهور ، وقرأ أبو جعفر وأبو السمال { فمن اضطِر } بكسر الطاء ، وأصله اضطر فلما أدغم نقلت حركة الراء الطاء ، وقرأ ابن محيصن ، «فمن اطّر » بإدغام الضاد في الطاء ، وكذلك حيث ما وقع في القرآن ، ومعنى { اضطر } : ضمه عدم وغرث( {[1569]} ) ، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء ، وقيل معناه أُكرِهَ وغلب على أكل هذه المحرمات ، و { غير باغ } في موضع نصب على الحال ، والمعنى فيما قال قتادة والربيع وابن زيد وعكرمة وغيرهم غير قاصد فساد وتعدٍّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها ، وهؤلاء يجيزون الأكل منها في كل سفر مع الضرورة ، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما المعنى غير باغ على المسلمين وعاد عليهم( {[1570]} ) ، فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة ، وقال السدي { غير باغ } أي غير متزيد على حد إمساك رمقه وإبقاء قوته ، فيجيء أكله شهوة ، { ولا عاد } أي متزود( {[1571]} ) ، وقال مالك رحمه الله : «يأكل المضطر شبعه » ، وفي الموطأ - وهو لكثير من العلماء : أنه يتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر ، وقيل : في { عاد } أن معناه عايد( {[1572]} ) ، فهو من المقلوب كشاكي السلاح أصله شايك وكهار أصله هايروكلاث أصله لائث وباغ أصله بايغ ، استثقلت الكسر على الياء فسكنت ، والتنوين ساكن فحذفت الياء والكسرة تدل عليها .

ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم ، ويطلق التحريم على العين تجوزاً ، ومنع قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة قبل .

ومن العلماء من يرى أن الميتة من ابن آدم ، والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار ، لأنهما لا تصح فيهما ذكاة بوجه ، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه( {[1573]} ) .


[1554]:- هو عدي بن رعلاء الغساني، كما في معالم الاهتداء، شرح شواهد قطر الندى.
[1555]:- [يتجرّعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت] من الآية (17) من سورة إبراهيم.
[1556]:- هو يزيد بن الصعق الكلابي – أو أبو المهوس الأسدي يهجو بني تميم بحب الطعام. وبعد البيت: بِخُبْـز أو بتَمْـر أوْ بِسَمْــنٍ أو الشّيءِ المُلَفَّــفِ فـي البِجَــادِ تَرَاهُ يُطَوِّفُ الآفَـاقَ حِرصـاً لِيَأكُـلَ رأْسَ لُقمـانَ بـنَ عَــــادِ
[1557]:- هذا رأي ابن عطية، وقد ناقشه فيه (ح) ويخصص عموم الآية حديث الإمام أحمد، وابن ماجة، والدارقطني، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال) – وعليه فالمراد بالميتة في الآية ميتة البر.
[1558]:- بحسب الإرادة لأن المخصص دل على أنه لم يرد دخوله في اللفظ العام، وإن كان اللفظ يشمله بحسب الدلالة.
[1559]:- قال الشيخ خليل رحمه الله في مختصر المالكية: وافتقر لما يموت به نحو الجراد.
[1560]:- ابن نافع هو: أبو عبد الله أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع. وابن عبد الحكم هو: أبو محمد عبد الله بن الحكم وابن وهب هو: أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم. وسحنون هو: أبو سعيد عبد السلام بن سعيد، وأشهب هو: أبو عمرو أشهب بن عبد العزيز – وكلهم من فقهاء المالكية المصريين الذين عرفوا بالإمامة في الفقه.
[1561]:- هو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف، من أئمة الحديث. توفي سنة 403 هـ.
[1562]:- كل من اللحم والشحم والغضروف اسم خاص إذا أُطلق لا يدخل فيه الآخر ولا يدل عليه، فتخصيص اللحم بالذكر تخصيص له بالحكم، إلا أننا نقول: إن الشحم تابع للحم ومن هنا يشمله، بخلاف اللحم فإنه غير تابع للشحم، ولهذا كان ذكر اللحم ينوب عن ذكر الشحم، قال الإمام مالك رحمه الله: من حلف لا يأكل لحما فأكل شحما يحنث، ومن حلف لا يأكل شحما فأكل لحما لا يحنث، وقد حرم الله على بني إسرائيل الشحوم فلم يدخل في تحريمها عليهم اللحوم. وقال بعض المحققين في قوله تعالى: [قل لا أجد فيما أوحي إلى محرّما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس] الضمير في قوله: [فإنه] عائد على [خنزير] ليفيد تحريم سائر أجزائه، وقد اعترض بأن الكلام إذا كان فيه مضاف ومضاف إليه عاد الضمير إلى المضاف دون المضاف إليه لأنه هو المُحَدَّث عنه – إلا أننا نقول: إعادته على المضاف إليه هنا أولى من حيث المعنى، لأن تحريم اللحم استفيد من قوله أو لحم خنزير، فلو عاد الضمير عليه كان الكلام خاليا من فائدة التأسيس، ونظير ذلك في عود الضمير على المضاف إليه قوله تعالى: [واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون] وقوله تعالى: [كمثل الحمار يحمل أسفارا] وعليه فالقاعدة المذكورة أغلبية.
[1563]:- يخالف داود الظاهري في هذا، اللهم إلا إذا كان خلافه غير معتد به عند ابن عطية تبعا لإمام الحرمين انظر (ح).
[1564]:- هو الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيدة: صاحب كتاب المخصص في اللغة توفي سنة 458 هـ.
[1565]:- يعني أن العبرة بالقصد سواء وجد الإهلال والصياح أم لا – فأبو الفرزدق لما كان قصده بالنحر التباهي والتفاخر نهى علي رضي الله عنه عن أكلها.
[1566]:- والذي يُروى في هذه القصة أن (غالبا أبا الفرزدق) فاخر (سُحَيْم بن وَثيل الرياحي) في الطعام، فنحر مائة ناقة، ونحر سحيم ثلاثمائة ناقة وقال للناس: شأنكم بها، فقال علي بن أبي طالب: إنها مما أهل به لغير الله، فتركها الناس حتى أكلتها الوحوش والطيور. ومثل ذلك في الحكم ما يقع للمعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل به لغير الله.
[1567]:- اللّعبة كالتمثال والدمية. والحاصل أن ذبيحة الأصنام والأوثان لا تؤكل، ويدخل في ذلك ما ذكره المؤلف عن الحسن بن أبي الحسن، وما يذبح على القبور والأموات عن قصد لأن ذلك بمثابة الأصنام ولا سيما التي يصاح عليها بأنها ذبيحة فلان. والمعوّل عليه هو النية والقصد.
[1568]:- قال في المدونة: وما ذبحه اليهود فأصابوه فاسدا عندهم لحال الرئة وشبهها التي يحرمونها في دينهم – فمرة أجاز مالك أكلها ثم كرهه وقال: لا تؤكل انتهى. قال ابن ناجي في شرحها: اختلف في المسألة على ثلاثة أقوال: الجواز – والكراهة – وكلاهما لمالك فيها، والتحريم لظاهر قول ابن القاسم كما هو ظاهر العتبي عن ابن كنانة. وقد اعتمد بعضهم الحرمة لما ذكره الشيخ عبد الحق الإسلامي الذي له مزيد اطلاع على كتب اليهود – من عوامل التحريم.
[1569]:- أي أخذه وألجأه فقر وجوع والعبارة مجاز، ويعني أن الصحيح في تفسير الاضطرار هو إلجاء الفقر والجوع إلى هذه المحرمات، والقول بأن معنى الاضطرار هو الإكراه على أكل هذه المحرمات غير صحيح ولا قوي – والحقّ أن بناء الفعل للمفعول يدل على مطلق الضرورة سواء كان بجوع أو إكراه، في حضر أو سفر.
[1570]:- هذا هو الظاهر، ونحو الآية قوله تعالى: [فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم] وأما آية الأنعام ففيها إحالة على هاتين الآيتين لأن تفصيل المحرم فيهما، وبهذا تكون آيات إباحة هذه المحرمات للمضطر كلها مقيدة بعدم ارتكاب الإثم.
[1571]:- أي من الميتة، وقال مالك رحمه الله: يأكل المضطر حتى يشبع، ويتزود منها إن اقتضته الضرورة، وهذا هو الأصح.
[1572]:- عاد اسم فاعل من عدا، وليس اسم فاعل من عاد فيكون مقلوبا أو محذوفا من باب شاك ولاث – لأن القلب لا يصار إليه إلا لموجب، ولا موجب هنا لادعاء القلب قاله (ح) رحمه الله.
[1573]:- كون الأكل من الميتة رخصة هو الصحيح، ومن الناس من رأى ذلك عزيمة، واستدل بقول مسروق: إن ترك المضطر الأكل من الميتة حتى مات دخل النار لأنه كمن قتل نفسه، والله يقول [ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما] الآية.