{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
هذا مثل المنفقين أموالهم على وجه تزكو عليه نفقاتهم وتقبل به صدقاتهم فقال تعالى : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } أي : قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه { وتثبيتا من أنفسهم } أي : صدر الإنفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به ، لا على وجه التردد وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد الإنسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء ، أو يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد ، فهؤلاء سلموا من هاتين الآفتين فأنفقوا ابتغاء مرضات الله لا لغير ذلك من المقاصد ، وتثبيتا من أنفسهم ، فمثل نفقة هؤلاء { كمثل جنة } أي : كثيرة الأشجار غزيرة الظلال ، من الاجتنان وهو الستر ، لستر أشجارها ما فيها ، وهذه الجنة { بربوة } أي : محل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره ، فثماره أكثر الثمار وأحسنها ، ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس ، ف { أصابها } أي : تلك الجنة التي بربوة { وابل } وهو المطر الغزير { فآتت أكلها ضعفين } أي : تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها ووجود الأسباب الموجبة لذلك ، وحصول الماء الكثير الذي ينميها ويكملها { فإن لم يصبها وابل فطل } أي : مطر قليل يكفيها لطيب منبتها ، فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل على حسب حاله ، وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك ، الذي يريد مصلحتك حيث لا تريدها ، فيالله لو قدر وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لأسرعت إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد ، ولحصل الاقتتال عنده ، مع انقضاء هذه الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها ، وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة الإيمان ، دائم مستمر فيه أنواع المسرات والفرحات ، ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة ، والعزائم عن طلبه خامدة ، أترى ذلك زهدا في الآخرة ونعيمها ، أم ضعف إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه ؟ ! وإلا فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر الإيمان به بشاشة قلبه لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه ، وتوجهت همم عزائمه إليه ، وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات ، ولهذا قال تعالى : { والله بما تعملون بصير } فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل ، فيجازيه عليه أتم الجزاء
أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد . . فقلب عامر بالإيمان ، ندي ببشاشته . ينفق ماله ( ابتغاء مرضاة الله ) . . وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير ، نابعة من الإيمان ، عميقة الجذور في الضمير . . وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب ، فالقلب المؤمن تمثله جنة . جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان . جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب ! ليكون المنظر متناسق الأشكال ! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك . بل أحياها وأخصبها ونماها . .
( أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ) . .
أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله ، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء . وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو :
( فإن لم يصبها وابل ) . . غزير . . ( فطل ) من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل !
إنه المشهد الكامل ، المتقابل المناظر ، المنسق الجزئيات ، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء ، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة ، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات ، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب . .
ولما كان المشهد مجالا للبصر والبصيرة من جانب ، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر ، جاء التعقيب لمسة للقلوب :
وهذا مثل المؤمنين المنفقين { أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه } عنهم في ذلك { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : وهم متحققون مُثَبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ، ونظير هذا في المعنى ، قوله عليه السلام{[4436]} في الحديث المتفق على صحته : " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا . . . " أي : يؤمن أن الله شرعه ، ويحتسب عند الله ثوابه .
قال الشعبي : { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : تصديقا ويقينا{[4437]} . وكذا قال قتادة ، وأبو صالح ، وابن زيد . واختاره ابن جرير . وقال مجاهد والحسن : أي : يتثبتون أين يضعون{[4438]} صدقاتهم .
وقوله : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } أي : كمثل بستان بربوة . وهو عند الجمهور : المكان المرتفع المستوي من الأرض . وزاد ابن عباس والضحاك : وتجري فيه الأنهار .
قال ابن جرير : وفي الربوة ثلاث لغات هن ثلاث قراءات : بضم الراء ، وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق . وفتحها ، وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ، ويقال : إنها لغة تميم . وكسر الراء ، ويذكر أنها قراءة ابن عباس .
وقوله : { أَصَابَهَا{[4439]} وَابِلٌ } وهو المطر الشديد ، كما تقدم ، { فَآتَتْ أُكُلَهَا } أي : ثمرتها{[4440]} { ضِعْفَيْن } أي : بالنسبة إلى غيرها من الجنان . { فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } قال الضحاك : هو الرَّذَاذ ، وهو اللين من المطر . أي : هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدًا ؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطل ، وأيا ما كان فهو كفايتها ، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا ، بل يتقبله الله ويكثره وينميه ، كل عامل بحسبه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.