تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة ن وهي مكية .

{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }

يقسم تعالى بالقلم ، وهو اسم جنس شامل للأقلام ، التي تكتب بها [ أنواع ] العلوم ، ويسطر بها المنثور والمنظور .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون

لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها . كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا ، وأن سائرها نزل أخيرا - ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال . لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد ، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقولهم : إنه مجنون !

والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة ، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية ؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا . حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة ، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية ، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها ، فتقول عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تلك القولة الفاجرة ؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها ، ويهدد المناهضين للدعوة ، ذلك التهديد الوارد في السورة .

واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق . وأن الجنون المنفي فيه : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) . . جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على نفسه في أول الوحي ، من أن يكون ذلك جنونا أصابه . . هذا الاحتمال ضعيف . لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة ، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون : إنه لمجنون ) . . فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه ، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات .

كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين . وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم ، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت . . ونحن نستبعد هذا كذلك . ونعتقد أن السورة كلها مكية . لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته . وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها .

والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول ؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالدعوة العامة . وبعد قول الله تعالى له : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم ، التي قال عنها قائلهم : ( أساطير الأولين ) . . وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة ، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين ، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء . . والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون : إنه لمجنون ) . . فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة . ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة . إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد . بوسيلة فردية . ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون . ولم يقع شيء من هذا - كما تقول الروايات الراجحة - إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة .

والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] للالتقاء في منتصف الطريق ، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) . . وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية ، ولا خطر منها . إنما تكون بعد ظهورها ، وشعور المشركين بخطرها .

وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى . وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل - قابلة للزيادة - بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها . ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن . والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة ، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة ، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها .

ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة . وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف ، للأسباب التي أوردناها هنا . وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر .

لقد كانت هذه الغرسة - غرسة العقيدة الإسلامية - تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة . وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة ، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا .

وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش ، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم ، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى - دين إبراهيم عليه السلام - وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض ، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان .

وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب ، وعبادة الملائكة وتماثيلها ، والتعبد للجن وأرواحها ، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية . . وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها ، وتعلق إرادتها بكل مخلوق .

كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة ، والكهانة السائدة في ديانتها ، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين . . وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشربينه وبين عباده كما جاء بها القرآن .

ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها ، وجاء محمد [ صلى الله عليه وسلم ] يدعو إليها ويمثلها .

وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها . ولكن هذه لم تكن وحدها . فقد كان إلى جانبها اعتبارات - ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها - على ضخامتها .

كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ! ) . . والقريتان هما مكة والطائف . فإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مع شرف نسبه ، وأنه في الذؤابة من قريش ، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة . بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما ، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار ، فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من هؤلاء المشيخة !

وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل " عمرو بن هشام " يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية ، لأن نبيها من بني عبد مناف . . وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب ، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية ، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء . فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه : " ماذا سمعت ? تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك مثل هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! " .

وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق ، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك . وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية ؛ وأمر الله تعالى نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن يجهر بالدعوة ؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز ، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة .

والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ولو أنه نبي ، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي ، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى . . هو بشر ، تخالجه مشاعر البشر . وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة ، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون ، ويعاني وقعها العنيف الأليم ، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين .

وكان [ صلى الله عليه وسلم ] يسمع والمؤمنون به يسمعون ، ما كان يتقوله عليه المشركون ، ويتطاولون به على شخصه الكريم ، ( ويقولون : إنه لمجنون ) . . ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة ، التي حكاها القرآن في السور الأخرى ؛ والتي كانت توجه إلى شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى الذين آمنوا معه . وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين !

والسخرية والاستهزاء - مع الضعف والقلة - مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية ، ولو كانت هي نفس رسول .

ومن ثم نرى في السور المكية - كسور هذا الجزء - أن الله كأنما يحتضن - سبحانه - رسوله والحفنة المؤمنة معه ، ويواسيه ويسري عنه ، ويثني عليه وعلى المؤمنين . ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم . وينفي ما يقوله المتقولون عنه ، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم ، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء !

ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] :

( ن . والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم ) . .

وقوله تعالى عن المؤمنين :

إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم . أفنجعل المسلمين كالمجرمين ? مالكم ? كيف تحكمون ? ! . .

ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين :

( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ! ) . .

ثم يقول عن حرب المكذبين عامة :

( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .

وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين :

يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون . .

ويضرب لهم أصحاب الجنة - جنة الدنيا - مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون ؛ الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين .

وفي نهاية السورة يوصي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالصبر الجميل : ( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت . . ) .

ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت ، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب ، يتولى الله - سبحانه - بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف . . من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة ، فترة الضعف والقلة ، وفترة المعاناة والشدة ، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة !

كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها . وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء .

نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( إنه لمجنون ) !

وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة ، وأسلوب من لايجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان ، كما يفعل السذج البدائيون .

ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون ) . . وكذلك في التهديد المكشوف العنيف : ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .

ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم : ( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . . . ) .

ونلمحها في القصة - قصة أصحاب الجنة - التي ضربها الله لهم . وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم ، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم ( وهم يتخافتون . ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . . الخ ) .

وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل : ( أم لكم كتاب فيه تدرسون : إن لكم فيه لما تخيرون ? أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون ? سلهم أيهم بذلك زعيم ? ) . . .

وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني ، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها ؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام . كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد ، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد . وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر . ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة . . التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير . والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية ، لا من ناحية طبيعة العقيدة ، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض ، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف ، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية ، وحاجاتها الفكرية ، وحاجاتها الاجتماعية ، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين . .

إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول . وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة ، والضعف إلى قوة ، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف .

( ن ، والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين . فلا تطع المكذبين . ودوا لو تدهن فيدهنون . ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ) . .

يقسم الله - سبحانه - بنون ، وبالقلم ، وبالكتابة . والعلاقة واضحة بين الحرف " نون " . بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم ، والكتابة . . فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها ، وتوجيه إليها ، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق ، وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة ، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها فيعلم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها ، وانتشارها بينها ، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض . ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة . وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى .

ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي - الذي قدر الله أن يكون أميا لحكمة معينة - ولكنه بدأ الوحي إليها منوها بالقراءة والتعليم بالقلم . ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون ، والقلم وما يسطرون . وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون .

يقسم الله - سبحانه - بنون والقلم وما يسطرون ، منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] تلك الفرية التي رماه بها المشركون ، مستبعدا لها ، ونعمته على رسوله ترفضها .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { نَ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنّ لَكَ لأجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ن ، فقال بعضهم : هو الحوت الذي عليه الأرَضُون . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس ، قال : «أوّل ما خلق الله من شيء القلم ، فجرى بما هو كائن ، ثم رفع بخار الماء ، فخلقت منه السموات ، ثم خلق النون فبسطت الأرض على ظهر النون ، فتحرّكت الأرض فمادت ، فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض » ، قال : وقرأ : ن والقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ .

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، أو مجاهد عن ابن عباس ، بنحوه ، إلا أنه قال : فَفُتِقَتْ مِنْهُ السموات .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : «أوّل ما خلق الله القلم ، قال : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ، قال : فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة ، ثم خلق النون ، ورفع بخار الماء ، ففُتِقت منه السماء وبُسِطت الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض » .

حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن فُضَيل ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : «أوّل ما خلق الله من شيء القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ، قال فجرى القلم بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة ، ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات ، ثم خلق النون فدُحيت الأرض على ظهره ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض ، فأُثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض » .

حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس نحوه .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، أن إبراهيم بن أبي بكر ، أخبره عن مجاهد ، قال : كان يقال النون : الحوت الذي تحت الأرض السابعة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، قال : قال معمر . حدثنا الأعمش ، أن ابن عباس قال : إنْ أوّل شيء خُلق القلم ، ثم ذكر نحو حديث واصل عن ابن فضيل ، وزاد فيه : ثم قرأ ابن عباس ن وَالقَلم وَما يَسْطُرُونَ .

حدثنا بن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن ابن عباس ، قال : إن أوّل شيء خلق ربي القلم ، فقال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم خلق النون فوق الماء ، ثم كبس الأرض عليه .

وقال آخرون : ن حرف من حروف الرحمن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الله بن أحمد المروزي ، قال : حدثنا عليّ بن الحسين ، قال : حدثنا أبي ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس : الر ، وحم ، ون حروف الرحمن مقطعة .

حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا عباس بن زياد الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قوله : الر ، وحم ، ون قال : اسم مقطع .

وقال آخرون : ن : الدواة ، والقلم : القلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا أخي عيسى بن عبد الله ، عن ثابت البناني ، عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون وهي الدواة ، وخلق القلم ، فقال : اكتب ، فقال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، من عمل معمول ، برّ أو فجور ، أو رزق مقسوم حلال أو حرام ، ثم ألزم كلّ شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم ، وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظة وللكتاب خزانا ، فالحفظة ينسخون كلّ يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر ، وانقضى الأجل ، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا ، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا قال : فقال ابن عباس : ألستم قوما عربا تسمعون الحفَظة يقولون : إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل ؟ .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله ن قال : هو الدواة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، عن قتادة ، قال : النون الدواة .

وقال آخرون : ن : لوح من نوره ، ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن شبيب المكتّب ، قال : حدثنا محمد بن زياد الجزري ، عن فرات بن أبي الفرات ، عن معاوية بن قرّة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ن وَالقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ : «لوح من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة » .

وقال آخرون : ن : قَسَم أقسم الله به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : { ن وَالقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ } يُقْسِم الله بما شاء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : { ن وَالقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ } قال : هذا قسم أقسم الله به .

وقال آخرون : هي اسم من أسماء السورة .

وقال آخرون : هي حرف من حروف المعجم ، وقد ذكرنا القول فيما جانس ذلك من حروف الهجاء التي افتتحت بها أوائل السور ، والقول في قوله نظير القول في ذلك .

واختلفت القرّاء في قراءة : ن ، فأظهر النون فيها وفي يس عامة قرّاء الكوفة خلا الكسائيّ ، وعامة قرّاء البصرة ، لأنها حرف هجاء ، والهجاء مبني على الوقوف عليه وإن اتصل ، وكان الكسائي يُدغم النون الآخرة منهما ويخفيها بناء على الاتصال .

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان فصيحتان ، بأيتهما قرأ القارىء أصاب ، غير أن إظهار النون أفصح وأشهر ، فهو أعجب إليّ . وأما القلم : فهو القلم المعروف ، غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام : القلم الذي خلقه الله تعالى ذكره ، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة .

حدثني محمد بن صالح الأغاطي ، قال حدثنا عباد بن العوّام ، قال : حدثنا عبد الواحد بن سليم ، قال : سمعت عطاء ، قال : سألت الوليد بن عبادة بن الصامت : كيف كانت وصية أبيك حين حشره الموت ؟ فقال : دعاني فقال : أي بنيّ اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله ، ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده ، والقدرِ خيره وشرّه ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ أوّلَ ما خَلَقَ اللّهُ خَلَقَ القَلَمَ ، فَقالَ لَهُ : اكْتُبْ ، قالَ : يا رَبّ ومَا أكْتُبْ ؟ قالَ : اكْتُبَ القَدَرَ ، قالَ : فَجَرَى القَلَمُ فِي تِلْكَ السّاعَةِ بِمَا كانَ ، ومَا هُوَ كائِنٌ إلى الأبَدِ » .

حدثني محمد بن عبد الله الطوسي ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا رباح بن زيد ، عن عمرو بن حبيب ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أوّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللّهُ القَلَمَ ، وأمَرَهُ فَكَتَبَ كُلّ شَيْءٍ » .

حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .

حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد قال : قلت لابن عباس : إن ناسا يكذّبون بالقدر ، فقال : إنهم يكذّبون بكتاب الله ، لأخذنّ بشَعْر أحدهم ، فلا يقصّن به ، إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا ، فكان أوّل ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإنما يجري الناس على أمر قد فُرِغ منه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو هاشم ، أنه سمع مجاهدا ، قال : سمعت عبد الله لا ندري ابن عمر أو ابن عباس قال : إن أوّل ما خلق الله القلم ، فجرى القلم بما هو كائن وإنما يعمل الناس اليوم فيما قد فُرِغ منه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني معاوية بن صالح وحدثني عبد الله بن آدم ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الليث بن سعد عن معاوية بن صالح ، عن أيوب بن زياد ، قال : ثني عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، قال : أخبرني أبي ، قال : قال أبي عُبادة بن الصامت : يا بنيّ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ أوّلَ ما خَلَقَ اللّهُ القَلَمَ ، فَقالَ لَهُ : اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السّاعَةِ بِمَا هُوَ كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ » .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ن وَالقَلَمِ قال : الذي كُتِبَ به الذكر .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، أخبره عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد ، في قوله : ن والقَلَمِ قال : الذي كتب به الذكر .

وقوله : ومَا يَسْطُرُون ، يقول : والذي يخُطّون ويكتبون . وإذا وُجّهَ التأويل إلى هذا الوجه كان القسم بالخلق وأفعالهم . وقد يحتمل الكلام معنى آخر ، وهو أن يكون معناه : وسطرهم ما يسطرون ، فتكون «ما » بمعنى المصدر . وإذا وُجه التأويل إلى هذا الوجه ، كان القسم بالكتاب ، كأنه قيل : ن والقلم والكتاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما يَسْطُرُونَ قال : وما يَخُطّون .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ومَا يَسْطُرُونَ ، يقول : يكتبون .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ومَا يَسْطُرُون ، قال : وما يكتبون .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ومَا يَسْطُرُونَ : وما يكتبون .

يقال منه : سطر فلان الكتاب فهو يَسْطُر سَطْرا : إذا كتبه ومنه قول رُؤبة بن العجّاج :

*** إنّي وأسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا ***

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القلم مكية وآيها ثنتان وخمسون آية .

بسم الله الرحمن الرحيم ( ن ) من أسماء الحروف وقيل اسم الحوت ، والمراد به الجنس أو البهموت ، وهو الذي عليه الأرض . أو الدواة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النفس يكتب به ، ويؤيد الأول سكونه وكتبه بصورة الحرف . ( والقلم ) وهو الذي خط اللوح ، أو الذي يخط به ، أقسم به تعالى لكثرة فوائده . وأخفى ابن عامر والكسائي ويعقوب النون إجراء للواو المنفصل مجرى المتصل ، فإن النون الساكنة تخفى مع حروف الفم إذا اتصلت بها ، وقد روي ذلك عن نافع وعاصم وقرئت بالفتح والكسر كص . ( وما يسطرون ) وما يكتبون والضمير ل القلم بالمعنى الأول على التعظيم ، أو بالمعنى الثاني على إرادة الجنس ، وإسناد الفعل إلى الأدلة وإجراؤه مجرى أولي العلم لإقامته مقامهم أو لأصحابه أو للحفظة ، و ما مصدرية أو موصولة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل{[1]} .

قوله عز وجل :

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1 )

{ ن } حرف مقطع في قول الجمهور من المفسرين ، فيدخله من الخلاف ما يدخل أوائل السور ، ويختص هذا الموضع من الأقوال بأن قال مجاهد وابن عباس : نون ، اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروى . وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك : النون اسم للدواة ، فهذا إما أن يكون لغة لبعض العرب ، أو تكون لفظة أعجمية عربت ، قال الشاعر : [ الوافر ]

إذا ما الشوق برح بي إليهم . . . ألقت النون بالدمع السجوم{[11227]}

فمن قال إنه اسم الحوت جعل { القلم } الذي خلقه الله تعالى وأمره فكتب الكائنات وجعل الضمير في { يسطرون } للملائكة ، ومن قال بأن «نون » اسم للدواة ، جعل { القلم } هذا المتعارف بأيدي الناس . نص ذلك ابن عباس وجعل الضمير في { يسطرون } للناس ، فجاء القسم على هذا بمجموع أم الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة ، فإن القلم أخ اللسان ، ومطية الفطنة ، ونعمة من الله عامة . وروى معاوية بن قرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ن } لوح من نور{[11228]} ، وقال ابن عباس وغيره : هو حرف من حروف الرحمن ، وقالوا إنه تقطع في القرآن : { الر } [ يونس : 1 ، هود : 1 ، يوسف : 1 ، إبراهيم : 1 ، الحجر : 1 ] و { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] ، و { ن } ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف «نونَ » بالنصب ، والمعنى : اذكر نونَ ، وهذا يقوى مع أن يكون اسماً للسورة ، فهو مؤنث سمي به مؤنث ، ففيه تأنيث وتعريف ، ولذلك لم ينصرف ، وانصرف نوح ، لأن الخفة بكونه على ثلاثة أحرف غلبت على العجمة ، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن : «نونِ » بكسر النون ، وهذا كما تقول في القسم بالله ، وكما تقول : «جبر »{[11229]} وقيل كسرت لاجتماع الساكنين ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم : «نونْ » بسكون النون ، وهذا على أنه حرف منفصل فحقه الوقوف عليه ، وقرأ قوم ، منهم الكسائي : { ن والقلم } بالإدغام دون غنة ، وقرأ آخرون بالإدغام وبغنة ، وقرأ الكسائي ويعقوب عن نافع وأبو بكر عن عاصم بالإخفاء بين الإدغام والإظهار . و { يسطرون } معناه : يكتبون سطوراً ، فإن أراد الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به ، وإن أراد بني آدم ، فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[11227]:الدمع السجوم: السائل المنصب من العين قليلا كان أو كثيرا. (اللسان).
[11228]:أخرجه ابن جرير ، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ن والقلم وما يسطرون} قال: لوح من نور، وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة). (الدر المنثور) و (تفسير الطبري).
[11229]:جير بمعنى اليمين، يقال: جير لا أفعل كذا وكذا، قال الجوهري: "قولهم جير لا آتيك- بكسر الراء- يمين للعرب، ومعناها حقا" راجع الصحاح واللسان.