تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (60)

{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ }

استسقى ، أي : طلب لهم ماء يشربون منه .

{ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ } إما حجر مخصوص معلوم عنده ، وإما اسم جنس ، { فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة ، { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } منهم { مَشْرَبَهُمْ } أي : محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين ، فلا يزاحم بعضهم بعضا ، بل يشربونه متهنئين لا متكدرين ، ولهذا قال : { كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ } أي : الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب ، { وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ } أي : تخربوا على وجه الإفساد .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (60)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذِ اسْتَسْقَىَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلّ أُنَاسٍ مّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رّزْقِ اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ }

عني بقوله : وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ : وإذ استسقانا موسى لقومه : أي سألنا أن نسقي قومه ماء . فترك ذكر المسؤول ذلك ، والمعنى الذي سأل موسى ، إذ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك . وكذلك قوله : فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه . وذلك أن معنى الكلام ، فقلنا : اضرب بعصاك الحجر ، فضربه فانفجرت . فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر ، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه . وكذلك قوله : قَدْ عَلِمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ إنما معناه : قد علم كل أناس منهم مشربهم ، فترك ذكر ( منهم ) لدلالة الكلام عليه . وقد دللنا فيما مضى على أن الناس جمع لا واحد له من لفظه ، وأن الإنسان لو جمع على لفظه لقيل : أناسيّ وأناسية . وقوم موسى هم بنو إسرائيل الذين قصّ الله عز وجل قصصهم في هذه الاَيات ، وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه ، كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة قوله : وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ الآية قال : كان هذا إذ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ ، فأمروا بحجر طوريّ أي من الطور أن يضربه موسى بعصاه ، فكانوا يحملونه معهم ، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم .

حدثني تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا أصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ذلك في التيه ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربّعا ، وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون ، لكل سبط عين ، ولا يرتحلون مَنْقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنزل الأول .

حدثني عبد الكريم ، قال : أخبرنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : ذلك في التيه ، ضرب لهم موسى الحجر ، فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء ، لكل سبط منهم عين يشربون منها .

وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا لكل سبط منهم عين ، كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : وَإذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ قال : خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا ، فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا ضربه موسى . قال ابن جريج ، قال ابن عباس : الأسباط : بنو يعقوب كانوا اثني عشر رجلاً كل واحد منهم ولد سبطا أمّة من الناس .

وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : استسقى لهم موسى في التيه ، فسقوا في حجر مثل رأس الشاة . قال : يلقونه في جوانب الجوالق إذا ارتحلوا ، ويقرعه موسى بالعصا إذا نزل ، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط منهم عين . فكان بنو إسرائيل يشربون منه ، حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون ، وقيل به فألقي في جانب الجوالق ، فإذا نزل رُمي به . فقرعه بالعصا ، فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثني أسباط ، عن السدي ، قال : كان ذلك في التيه .

وأما قوله : قَدْ عَلِمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ فإنما أخبر الله عنهم بذلك ، لأن معناهم في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق عن ذكره ما ترك ذكره . وذلك أن تأويل الكلام : فَقُلْنَا اضْرِبْ بعَصَاكَ الحَجَرَ فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، قد علم كل أناس مشربهم ، فقيل لهم : كلوا واشربوا من رزق الله أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المنّ والسلوى ، وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور الذي لا قرار له في الأرض ولا سبيل إليه لمالكيه يتدفق بعيون الماء ويزخر بينابيع العذب الفرات بقدرة ذي الجلال والإِكرام ، ثم تقدم جل ذكره إليهم مع إباحتهم ما أباح وإنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء ، بالنهي عن السعي في الأرض فسادا والعثا فيها استكبارا فقال جل ثناؤه : لهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين القول في تأويل قوله تعالى : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } يعني بقوله لا تعثوا لا تطغوا ولا تسعوا في الأرض مفسدين كما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول : لا تسعوا في الأرض فسادا .

حدثنى يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله ولا تعثوا في الأرض مفسدين لا تعث لا تطغ .

حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي لا تسيروا في الأرض مفسدين .

حدثت عن المنجاب قال حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس ولا تعثوا في الأرض مفسدين : لا تسعوا في الأرض ، وأصل العثا شدة الإفساد بل هو أشد الإفساد ، يقال منه عثى فلان في الأرض إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته ، يعثى عثا مقصور وللجماعة هم يعثون ، وفيه لغتان أخريان أحدهما عثا يعثوا عثوا ومن قرأها بهذه اللغة فأنه ينبغي له أن يضم الثاء من يعثوا ، ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته قرأ به ، ومن نطق بهذه اللغة مخبرا عن نفسه قال : عثوت أعثو ، ومن نطق باللغة الأولى قال عثيت أعثى والأخرى منهما عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا كل ذلك بمعنى واحد ، ومن العيث قول رؤبة بن العجاج :

وعاث فينا مستحل عائث *** مصدق أو تاجر مقاعث

يعني بقوله عاث فينا أفسد فينا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (60)

تذكير بنعمة أخرى جمعت ثلاث نعم وهي الري من العطش ، وتلك نعمة كبرى أشد من نعمة إعطاء الطعام ولذلك شاع التمثيل بري الظمآن في حصول المطلوب . وكون السقي في مظنة عدم تحصيله وتلك معجزة لموسى وكرامة لأمته لأن في ذلك فضلاً لهم . وكون العيون اثنتي عشرة ليستقل كل سبط بمشرب فلا يتدافعوا .

وقوله : { وإذ } متعلق ب { اذكروا } وقد أشارت الآية إلى حادثة معروفة عند اليهود وذلك أنهم لما نزلوا في « رفيديم » قبل الوصول إلى برية سينا وبعد خروجهم من برية سين في حدود الشهر الثالث من الخروج عطشوا ولم يكن بالموضع ماء فتذمروا على موسى وقالوا أتصعدنا من مصر لنموت وأولادنا ومواشينا عطشاً فدعا موسى ربه فأمره الله أن يضرب بعصاه صخرة هناك في « حوريب » فضرب فانفجر منها الماء . ولم تذكر التوراة أن العيون اثنتا عشرة عيناً وذلك التقسيم من الرفق بهم لئلا يتزاحموا مع كثرتهم فيهلكوا فهذا مما بينه الله في القرآن .

فقوله : { استسقى موسى } صريح في أن طالب السقي هو موسى وحده ، سأله من الله تعالى ولم يشاركه قومه في الدعاء لتظهر كرامته وحده ، كذلك كان استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر لما قال له الأعرابي « هلك الزرع والضرع فادع الله أن يسقينا » والحديث في « الصحيحين » .

وقوله : { لقومه } مؤذن بأن موسى لم يصبه العطش وذلك لأنه خرج في تلك الرحلة موقناً أن الله حافظهم ومبلغهم إلى الأرض المقدسة فلذلك وقاه الله أن يصيبه جوع أو عطش وكلل وكذلك شأن الأنبياء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وصال الصوم : " إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "

قال ابن عرفة في « تفسيره » : اهـ . وهو رد متمكن إذ ليس المراد باستسقاء المخصب للمجدب الأشخاص وإنما المراد استسقاء أهل بلد لم ينلهم الجدب لأهل بلد مجدبين والمسألة التي أشار إليها المازري مختلف فيها عندنا واختار اللخمي جواز استسقاء المخصب للمجدب لأنه من التعاون على البر ولأن دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة وقال المازري فيه نظر لأن السلف لم يفعلوه .

وعصا موسى هي التي ألقاها في مجلس فرعون فتلقفت ثعابين السحرة وهي التي كانت في يد موسى حين كلمه الله في برية سينا قبل دخوله مصر وقد رويت في شأنها أخبار لا يصح منها شيء فقيل إنها كانت من شجر آس الجنة أهبطها آدم معه فورثها موسى ولو كان هذا صحيحاً لعده موسى في أوصافها حين قال : { هي عصاي } [ طه : 18 ] إلخ فإنه أكبر أوصافها .

والعصا بالقصر أبداً ومن قال عصاه بالهاء فقد لحن ، وعن الفراء أن أول لحن ظهر بالعراق قولهم عصاتي .

و { أل } في { الحجر } لتعريف الجنس أي اضرب أي حجر شئت ، أو للعهد مشيراً إلى حجر عرفه موسى بوحي من الله وهوحجر صخر في جبل حوريب الذي كلم الله منه موسى كما ورد في سفر الخروج وقد وردت فيه أخبار ضعيفة .

والفاء في قوله : { فانفجرت } قالوا هي فاء الفصيحة ومعنى فاء الفصيحة أنها الفاء العاطفة إذ لم يصلح المذكور بعدها لأن يكون معطوفاً على المذكور قبلها فيتعين تقدير معطوف آخر بينهما يكون ما بعد الفاء معطوفاً عليه وهذه طريقة السكاكي فيها وهي المثلى . وقيل : إنها التي تدل على محذوف قبلها فإن كان شرطاً فالفاء فاء الجواب وإن كان مفرداً فالفاء عاطفة ويشملها اسم فاء الفصيحة وهذه طريقة الجمهور على الوجهين فتسميتها بالفصيحة لأنها أفصحت عن محذوف ، والتقدير في مثل هذا فضرب فانفجرت وفي مثل قول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسانُ أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

أي إن كان القفول بعد الوصول إلى خراسان فقد جئنا خراسان أي فلنقفل فقد جئنا .

وعندي أن الفاء لا تعد فاء فصيحة إلا إذا لم يستقم عطف ما بعدها على ما قبلها فإذا استقام فهي الفاء العاطفة والحذف إيجاز وتقدير المحذوف لبيان المعنى وذلك لأن الانفجار مترتب على قوله تعالى لموسى : { اضرب بعصاك الحجر } لظهور أن موسى ليس ممن يشك في امتثاله بل ولظهور أن كل سائل أمراً إذا قيل له افعل كذا أن يعلم أن ما أمر به هو الذي فيه جوابه كما يقول لك التلميذ ما حكم كذا ؟ فتقول افتح كتاب « الرسالة » في باب كذا ، ومنه قوله تعالى الآتي : { اهبطوا مصراً } [ البقرة : 61 ] وأما تقدير الشرط هنا أي فإن ضربت فقد انفجرت إلخ فغير بيّن ، ومن العجب ذكره في « الكشاف » .

وقوله : { قد علم كل أناس مشربهم } قال العكبري وأبو حيان : إنه استئناف ، وهما يريدان الاستئناف البياني ولذلك فصل ، كأن سائلاً سأل عن سبب انقسام الانفجار إلى اثنتي عشرة عيناً فقيل قد علم كل سبط مشربهم ، والأظهر عندي أنه حال جردت عن الواو لأنه خطاب لمن يعقلون القصة فلا معنى لتقدير سؤال . والمراد بالأناس كل ناس سبط من الأسباط .

وقوله : { كلوا واشربوا من رزق الله } مقول قول محذوف . وقد جمع بين الأكل والشرب وإن كان الحديث على السقي لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى ، وقيل هنالك : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } [ البقرة : 57 ] فلما شفع ذلك بالماء اجتمع المنتان .

وقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } من جملة ما قيل لهم ووجه النهي عنه أن النعمة قد تنسي العبد حاجته إلى الخالق فيهجر الشريعة فيقع في الفساد قال تعالى :

{ كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] .

{ ولا تعثوا } مضارع عثي كرضي ، وهذه لغة أهل الحجاز وهي الفصحى فقوله : { ولا تعثوا } بوزن لا ترضوا ومصدره عند أهل اللغة يقتضي أن يكون بوزن رضي ولم أر من صرح به وذكر له في « اللسان » مصادر العُثيّ والعِثيّ بضم العين وكسرها مع كسر الثاء فيهما وتشديد الياء فيهما ، والعَثَيان بفتحتين وفي لغة غير أهل الحجاز عثا يعثو مثل سما يسمو ولم يقرأ أحد من القراء : { ولا تعثوا } بضم الثاء .

وهو أشد الفساد وقيل : هو الفساد مطلقاً وعلى الوجهين يكون { مفسدين } حالاً مؤكدة لعاملها . وفي « الكشاف » جعل معنى { لا تعثوا } لا تتمادوا في فسادكم فجعل المنهي عنه هو الدوام على الفعل وكأنه يأبى صحة الحال المؤكدة للجملة الفعلية فحاول المغايرة بين { لا تعثوا } وبين { مفسدين } تجنباً للتأكيد وذلك هو مذهب الجمهور لكن كثيراً من المحققين خالف ذلك ، واختار ابن مالك التفصيل فإن كان معنى الحال هو معنى العامل جعلها شبيهة بالمؤكدة لصاحبها كما هنا وخص المؤكدة لمضمون الجملة الواقعة بعد الاسمية نحو زيد أبوك عطوفاً وقول سالم بن دارة اليربوعي :

أنا ابن دارة معروفاً بها نسبي *** وهل بدارة يا للناس من عار