تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم ، إكراما له وتعظيما ، وعبودية لله تعالى ، فامتثلوا أمر الله ، وبادروا كلهم بالسجود ، { إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى } امتنع عن السجود ، واستكبر عن أمر الله وعلى آدم ، قال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } وهذا الإباء منه والاستكبار نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه ، فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره .

وفي هذه الآيات من العبر والآيات ، إثبات الكلام لله تعالى ، وأنه لم يزل متكلما ، يقول ما شاء ، ويتكلم بما شاء ، وأنه عليم حكيم ، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه التسليم ، واتهام عقله ، والإقرار لله بالحكمة ، وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة ، وإحسانه بهم ، بتعليمهم ما جهلوا ، وتنبيههم على ما لم يعلموه .

وفيه فضيلة العلم من وجوه :

منها : أن الله تعرف لملائكته ، بعلمه وحكمته ، ومنها : أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم ، وأنه أفضل صفة تكون في العبد ، ومنها : أن الله أمرهم بالسجود لآدم ، إكراما له ، لما بان فضل علمه ، ومنها : أن الامتحان للغير ، إذا عجزوا عما امتحنوا به ، ثم عرفه صاحب الفضيلة ، فهو أكمل مما عرفه ابتداء ، ومنها : الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن ، وبيان فضل آدم ، وأفضال الله عليه ، وعداوة إبليس له ، إلى غير ذلك من العبر .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }

قال أبو جعفر : أما قوله : وإذْ قُلْنَا فمعطوف على قوله : وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْمَلاَئِكَةِ كأنه قال جل ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل معدّدا عليهم نعمه ، ومذكرهم آلاءه على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل : اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم ، فخلقت لكم ما في الأرض جميعا ، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، فكرّمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي ، وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له . ثم استثنى من جميعهم إبليس ، فدل باستثنائه إياه منهم على أنه منهم ، وأنه ممن قد أُمِرَ بالسجود معهم ، كما قال جل ثناؤه : إلاّ إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ قالَ مَا مَنَعَكَ أنْ لاَ تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمره من الملائكة بالسجود لاَدم . ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لاَدم ، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره ونَفَى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم .

ثم اختلف أهل التأويل فيه هل هو من الملائكة أم هو من غيرهم ؟ فقال بعضهم بما :

حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة ، يقال لهم «الجنّ » ، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة . قال : فكان اسمه الحارث . قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحيّ . قال : وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .

وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد ، عن عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض وكان من أشدّ الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حيّ يسمون جنّا .

وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد ، عن عطاء ، عن طاوس ، أو مجاهد أبي الحجاج ، عن ابن عباس وغيره بنحوه ، إلا أنه قال : كان ملكا من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض وعمّارها ، وكان سكان الأرض فيهم يسمون الجنّ من بين الملائكة .

وحدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : جعل إبليس على ملك سماء الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ ، وإنما سموا الجن لأنهم خزّان الجنة ، وكان إبليس مع ملكه خازنا .

وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا حسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان سماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض . قال : قال ابن عباس : وقوله : كانَ منَ الجنّ ، إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنا عليها ، كما يقال للرجل : مكي ، ومدني ، وكوفي ، وبصري . قال ابن جريج : وقال آخرون : هم سبط من الملائكة قبيلة ، فكان اسم قبيلته الجن .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلة من الجن ، وكان إبليس منها ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض .

وحدثت عن الحسن بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، يقول في قوله : فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ قال : كان ابن عباس يقول : إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، ثم ذكر مثل حديث ابن جريج الأول سواء .

وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثني شيبان ، قال : حدثنا سلام بن مسكين ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان إبْلِيس رئيس ملائكة سماء الدنيا .

وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذْ قُلْنا للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنّ كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن . وكان ابن عباس يقول : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود ، وكان على خزانة سماء الدنيا . قال : وكان قتادة يقول : جنّ عن طاعة ربه .

وحدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ قال : كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ .

وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : أما العرب فيقولون : ما الجنّ إلا كلّ من اجتنّ فلم ير . وأما قوله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ أي كان من الملائكة ، وذلك أن الملائكة اجتنّوا فلم يروا ، وقد قال الله جل ثناؤه : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنةِ نَسَبا وَلَقدْ علمتِ الجنّةُ أنهم لَمُحْضَرُونَ وذلك لقول قريش : إن الملائكة بنات الله . فيقول الله : إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها ، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذرّيته نسبا . قال : وقد قال الأعشى ، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري ، وهو يذكر سليمان بن داود وما أعطاه الله :

وَلَوْ كانَ شَيْء خالِدا أوْ مُعَمّرا لَكانَ سُلَيْمَانُ البَرِيّ مِنَ الدّهْرِ

بَرَاهُ إلهي واصْطَفَاهُ عبادَهُ وَمَلّكَهُ مَا بَيْنَ ثُرْيَا إلى مِصْرِ

وَسَخّرَ مِنْ جِنّ المَلائِكِ تِسْعَةً *** قِياما لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أجْرِ

قال : فأبت العرب في لغتها إلا أن «الجنّ » كل ما اجتنّ . يقول : ما سمى الله الجن إلا أنهم اجتنوا فلم يُرَوْا ، وما سمى بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنّوا ، فما ظهر فهو إنس ، وما اجتنّ فلم يُرَ فهو جنّ . وقال آخرون بما :

حدثنا به محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس .

وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول في قوله : إلا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ إلجاءٌ إلى نسبه ، فقال الله : أفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي الآية . . . وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم .

وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو سعيد اليحمدي ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا سوار بن الجعد اليحمدي ، عن شهر بن حوشب قوله : مِنَ الجِنّ قال : كان إبليس من الجنّ الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء .

وحدثني عليّ بن الحسين ، قال : حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال ، قال : حدثني سنيد بن داود ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن موسى بن نمير ، وعثمان بن سعيد بن كامل ، عن سعد بن مسعود ، قال : كانت الملائكة تقاتل الجنّ ، فسُبي إبليس وكان صغيرا ، فكان مع الملائكة فتعبّد معها . فلما أمروا بالسجود لاَدم سجدوا ، فأبى إبليس فلذلك قال الله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ .

وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر ، عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلاً يقال لهم الجنّ ، فكان إبليس منهم ، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض فعصى ، فمسخه الله شيطانا رجيما .

قال : وحدثنا يونس ، عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : إبليس أبو الجنّ ، كما آدم أبو الإنس .

وعلة من قال هذه المقالة ، أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أنه خلق إبليس من نار السموم ومن مارج من نار ، ولم يخبر عن الملائكة أنه خلقها من شيء من ذلك . وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجن . فقالوا : فغير جائز أن ينسب إلى غير ما نسبه الله إليه . قالوا : ولإبليس نسل وذرّية ، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد .

حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شريك ، عن رجل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : إن الله خلق خلقا ، فقال : اسجدوا لاَدم فقالوا : لا نفعل . فبعث الله عليهم نارا تحرقهم . ثم خلق خلقا آخر ، فقال : إني خالق بشرا من طين ، اسجدوا لاَدم فأبوا ، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم . قال : ثم خلق هؤلاء ، فقال : اسجدوا لاَدم فقالوا : نعم . وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لاَدم .

قال أبو جعفر : وهذه علل تنبىء عن ضعف معرفة أهلها . وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى ، فخلق بعضا من نور ، وبعضا من نار ، وبعضا مما شاء من غير ذلك . وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عما خلق منه ملائكته وإخباره عما خلق منه إبليس ما يوجب أن يكون إبليس خارجا عن معناهم ، إذ كان جائزا أن يكون خلق صنفا من ملائكته من نار كان منهم إبليس ، وأن يكون أفرد إبليس بأن خلقه من نار السموم دون سائر ملائكته . وكذلك غير مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأن كان له نسل وذرية لما ركب فيه من الشهوة واللذّة التي نزعت من سائر الملائكة لما أراد الله به من المعصية .

وأما خبر الله عن أنه من الجن ، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جِنّا ، كما قد ذكرنا قبلُ في شعر الأعشى ، فيكون إبليس والملائكة منهم لاجتنانهم عن أبصار بني آدم .

القول في معنى إبليس .

قال أبو جعفر : وإبليس «إفعيل » من الإبلاس : وهو الإياس من الخير والندم والحزن . كما :

حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : إبليس أبلسه الله من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته .

وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي ، قال : كان اسم إبليس الحارث ، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيرا .

قال أبو جعفر : وكما قال الله جل ثناؤه : فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ يعني به أنهم آيسون من الخير ، نادمون حزنا ، كما قال العجاج :

يا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْما مُكْرَسَا قالَ نَعَمْ أعْرِفُهُ وأبْلَسا

وقال رؤبة :

وَحَضَرَتْ يَوْمَ الخَمِيسِ الأخْماس وَفِي الوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإبْلاسْ

يعني به اكتئابا وكسوفا .

فإن قال لنا قائل : فإن كان إبليس كما قلت «إفعيل » من الإبلاس ، فهلاّ صرف وأُجري ؟ قيل : ترك إجراؤه استثقالاً إذ كان اسما لا نظير له من أسماء العرب ، فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التي لا تجري ، وقد قالوا : مررت بإسحاق ، فلم يجروه ، وهو من أسحقه الله إسحاقا ، إذ كان وقع مبتدأ اسما لغير العرب ثم تسمت به العرب فجرى مجراه ، وهو من أسماء العجم في الإعراب ، فلم يصرف . وكذلك أيوب إنما هو فيعول من آب يئوب .

وتأويل قوله : أبى يعني جل ثناؤه بذلك إبليس أنه امتنع من السجود لاَدم فلم يسجد له . واستكبر يعني بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله في السجود لاَدم .

وهذا وإن كان من الله جل ثناؤه خبرا عن إبليس ، فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه ، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحقّ . وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله والتذلل لطاعته والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم اليهودُ الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحبارهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته عارفين وبأنه لله رسول عالمين ، ثم استكبروا مع علمهم بذلك عن الإقرار بنبوّته والإذعان لطاعته ، بغيا منهم له وحسدا ، فقرّعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لاَدم حسدا له وبغيا نظير فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، إذ جاءهم بالحقّ من عند ربهم حسدا وبغيا .

ثم وصف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلاً في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمره الله بالخضوع له ، فقال جل ثناؤه : وكان يعني إبليس من الكافرين من الجاحدين نعم الله عليه وأياديه عنده بخلافه عليه فيما أمره به من السجود لاَدم ، كما كفرت اليهود نعم ربها التي آتاها وآباءها قبل : من إطعام الله أسلافهم المنّ والسلوى ، وإظلال الغمام عليهم وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم ، خصوصا ما خصّ الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه ومشاهدتهم حجة الله عليهم فجحدت نبوّته بعد علمهم به ، ومعرفتهم بنبوّته حسدا وبغيا . فنسبه الله جل ثناؤه إلى الكافرين ، فجعله من عدادهم في الدين والملة ، وإن خالفهم في الجنس والنسبة ، كما جعل أهل النفاق بعضهم من بعض لاجتماعهم على النفاق ، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم ، فقال : المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال ، فكذلك قوله في إبليس : كانَ مِنَ الكَافِرِينَ كان منهم في الكفر بالله ومخالفته أمره وإن كان مخالفا جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم .

ومعنى قوله : وكانَ مِنَ الكَافِرينَ أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذ .

وقد رُوي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أنه كان يقول في تأويل قوله : وكانَ مِنَ الكافِرِينَ في هذا الموضع وكان من العاصين .

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وكانَ مِنَ الكافِرِينَ يعني العاصين .

وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله .

وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه . وكان سجود الملائكة لاَدم تكرمة لاَدم وطاعة لله ، لا عبادة لاَدم . كما :

حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذْ قُلْنَا للْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فكانت الطاعة لله ، والسجدة لاَدم ، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له ، اعترافا بفضله ، وأداء لحقه واعتذارا عما قالوا فيه ، وقيل : أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } امتحانا لهم وإظهارا لفضله . والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر ، وإلا عطفه بما يقدر عاملا فيه على الجملة المتقدمة ، بل القصة بأسرها على القصة الأخرى ، وهي نعمة رابعة عدها عليهم . والسجود في الأصل تذلل مع تطامن قال الشاعر :

ترى الأكم فيها سجدا للحوافر *** . . .

وقال آخر :

وقلن له اسجد لليلى فاسجدا *** . . .

يعني البعير إذا طأطأ رأسه . وفي الشرع : وضع الجبهة على قصد العبادة ، والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى ، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيما لشأنه ، أو سببا لوجوبه فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجا للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات ، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات ، أمرهم بالسجود تذللا لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته ، وشكرا لما أنعم عليهم بواسطته ، فاللام فيه كاللام في قول حسان رضي الله تعالى عنه :

أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالقرآن والسنن

أو في قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس }

وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له ، كسجود إخوة يوسف له ، أو التذلل والانقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم . والكلام في أن المأمورين بالسجود ، الملائكة كلهم ، أو طائفة منهم ما سبق .

{ فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } امتنع عما أمر به ، استكبارا من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه ، أو يعظمه ويتلقاه بالتحية ، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه . والإباء : امتناع باختيار . والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره . والاستكبار طلب ذلك بالتشبع .

{ وكان من الكافرين } أي في علم الله تعالى ، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادا بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله : { أنا خير منه }جوابا لقوله : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين } . لا بترك الواجب وحده . والآية تدل على أن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له ، ولو من وجه ، وأن إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولا يصح استثناؤه منهم ، ولا يرد على ذلك قوله سبحانه وتعالى : { إلا إبليس كان من الجن } لجواز أن يقال إنه كان من الجن فعلا ومن الملائكة نوعا ، ولأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روي : أن من الملائكة ضربا يتوالدون يقال لهم الجن ومنهم إبليس . ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول : إنه كان جنيا نشأ بين أظهر الملائكة ، وكان مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه ، أو الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم ، فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به ، علم أن الأصاغر أيضا مأمورون به ، والضمير في فسجدوا راجع إلى القبيلين كأنه ، قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس ، وأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم عدم العصمة ، كما أن من الإنس معصومين والغالب فيهم عدم العصمة ، ولعل ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات ، وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما . وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلذلك صح عليه التغير عن حاله والهبوط من محله ، كما أشار إليه بقوله عز وعلا : { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } لا يقال : كيف يصح ذلك والملائكة خلقت من نور والجن من نار ؟ لما روت عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال : " خلقت الملائكة من النور ، وخلق الجن من مارج من نار " لأنه كالتمثيل لما ذكرنا فإن المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك ، غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق ، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور ، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصرف ، وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص ، والعلم عند الله سبحانه وتعالى .

ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر ، والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره ، وأن الأمر للوجوب ، وأن الذي علم الله تعالى من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة ، إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمنا وهو الموافاة المنسوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال: {وإذ} يعني وقد {قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس} وحده، فاستثنى، لم يسجد {أبى واستكبر}، يعني وتكبر عن السجود لآدم... قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} (الأعراف: 12)، {وكان} إبليس {من الكافرين} الذين أوجب الله عز وجل لهم الشقاء في علمه، فمن ثم لم يسجد.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

أما قوله: "وإذْ قُلْنَا "فمعطوف على قوله: "وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْمَلاَئِكَةِ "كأنه قال جل ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل معدّدا عليهم نعمه، ومذكرهم آلاءه على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل: اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم، فخلقت لكم ما في الأرض جميعا، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، فكرّمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي، وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبليس، فدل باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أُمِرَ بالسجود معهم، كما قال جل ثناؤه: "إلاّ إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ" قالَ مَا مَنَعَكَ أنْ لاَ تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ"، فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمره من الملائكة بالسجود لاَدم، ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لاَدم، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره ونَفَى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم.

ثم اختلف أهل التأويل فيه هل هو من الملائكة أم هو من غيرهم؟

فقال بعضهم...

عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة، يقال لهم «الجنّ»، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى، فخلق بعضا من نور، وبعضا من نار، وبعضا مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عما خلق منه ملائكته وإخباره عما خلق منه إبليس ما يوجب أن يكون إبليس خارجا عن معناهم، إذ كان جائزا أن يكون خلق صنفا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأن خلقه من نار السموم دون سائر ملائكته...

وقال آخرون:...عن الحسن، قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس. [و] عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله: "إلا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ" إلجاءٌ إلى نسبه، فقال الله: "أفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي" الآية... وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم.

القول في معنى "إبليس": وإبليس من الإبلاس: وهو الإياس من الخير والندم والحزن...

عن ابن عباس، قال: إبليس أبلسه الله من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته...

وكما قال الله جل ثناؤه: "فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ" يعني به أنهم آيسون من الخير، نادمون حزنا...

"أبى" يعني جل ثناؤه بذلك إبليس أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له. "واستكبر" يعني بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله في السجود لآدم. وهذا وإن كان من الله جل ثناؤه خبرا عن إبليس، فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحقّ.

وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله والتذلل لطاعته والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم اليهودُ الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبارهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته عارفين وبأنه لله رسول عالمين، ثم استكبروا مع علمهم بذلك عن الإقرار بنبوّته والإذعان لطاعته، بغيا منهم له وحسدا، فقرّعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لاَدم حسدا له وبغيا نظير فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته، إذ جاءهم بالحقّ من عند ربهم حسدا وبغيا. ثم وصف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلاً في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمره الله بالخضوع له، فقال جل ثناؤه: "وكان" يعني إبليس "من الكافرين": من الجاحدين نعم الله عليه وأياديه عنده بخلافه عليه فيما أمره به من السجود لاَدم، كما كفرت اليهود نعم ربها التي آتاها وآباءها قبل: من إطعام الله أسلافهم المنّ والسلوى، وإظلال الغمام عليهم وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم، خصوصا ما خصّ الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه ومشاهدتهم حجة الله عليهم فجحدت نبوّته بعد علمهم به، ومعرفتهم بنبوّته حسدا وبغيا. فنسبه الله جل ثناؤه إلى الكافرين، فجعله من عدادهم في الدين والملة، وإن خالفهم في الجنس والنسبة، كما جعل أهل النفاق بعضهم من بعض لاجتماعهم على النفاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم، فقال: "المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ" يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال، فكذلك قوله في إبليس: "كانَ مِنَ الكَافِرِينَ" كان منهم في الكفر بالله ومخالفته أمره وإن كان مخالفا جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم.

ومعنى قوله: "وكانَ مِنَ الكَافِرينَ" أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذ...

عن أبي العالية أنه كان يقول في تأويل قوله: "وكانَ مِنَ الكافِرِينَ" في هذا الموضع وكان من العاصين...

[و] عن قتادة قوله: "وَإذْ قُلْنَا للْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ" فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته...

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :

قال ابن حزم: لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن سجود الملائكة لله تعالى سجود عبادة، ولآدم سجود تحية وإكرام...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقال جمهور المتأولين: معنى {وكان من الكافرين} أي في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر، وهو أنه سبحانه وتعالى جعل أبانا مسجود الملائكة وذلك لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أولا ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانيا ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم وذكر الآن كونه مسجودا للملائكة.

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار، وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر، والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره، وأن الأمر للوجوب، وأن الذي علم الله تعالى من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة، إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمنا...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بعد ما عرف الله الملائكة بمكانة آدم ووجه جعله خليفة في الأرض أمرهم بالخضوع له وعبر عن ذلك بالسجود، فقال {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} وهو سجود لا نعرف صفته، ولكن أصول الدين تعلمنا أنه ليس سجود عبادة إذ لا يعبد إلا الله تعالى، والسجود في اللغة التطامن والخضوع والانقياد، وأعظم مظاهره الخرور نحو الأرض للأذقان ووضع الجبهة على التراب، وكان عند بعض القدماء من تحية الناس للملوك والعظماء، ومنه سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليهم السلام. والسجود لله تعالى قسمان، سجود العقلاء المكلفين له تعبدا على الوجه المشروع – وسجود المخلوقات كلها لمقتضى إرادته فيها. قال تعالى {13: 15 ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها} الآية وقال {والنجم والشجر يسجدان} وفي معناهما آيات. {فسجدوا إلا إبليس} أي سجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة، كما يفهم من الآية وأمثالها في القصة إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن {17: 50 وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة والجن فصلا جوهريا يميز أحدهما عن الآخر وإنما هو اختلاف أصناف، عند ما تختلف أوصاف، كما ترشد إليه الآيات. فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة، وقد أطلق في القرآن لفظ الجنة على الملائكة على رأي جمهور المفسرين في قوله تعالى {37: 158 وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا} وعلى الشياطين في آخر سورة الناس [وعلى كل حال فجميع هؤلاء المسميات بهذه الأسماء من علام الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها ولا نقول بنسبة شيء إليها ما لم يرد لنا فيه نص قطعي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم] وصف الله تعالى إبليس بأنه {أبى} السجود والانقياد {واستكبر} فلم يمتثل أمرا الحق ترفعا عنه. وزعما بأنه خير من الخليفة عنصرا، وأزكى جوهرا، كما حكى الله تعالى عنه في غير هذه السورة {7: 11 قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} والاستكبار بمعنى التكبر وهو الظهور بصفة الكبرياء التي من آثارها الترفع عن الحق، كأن السين والتاء للإشعار بأن الكبر ليس من طبيعة إبليس ولكنه مستعد له، ثم قال تعالى بعد وصفه بالإباء والاستكبار {وكان من الكافرين} قال بعض المفسرين كان من حق الترتيب أن يقال: كان من الكافرين واستكبر وأبى لأن الكفر عنده سبب الاستكبار والاستكبار سبب الإباء، ومثل هذا المفسر يعلل مخالفة الترتيب الطبيعي في النظام برعاية الفاصلة (قال الأستاذ) ولكن نظم الآية جاء على مقتضى الطبيعة في الذكر، فإنه يفيد أن الله تعالى أراد أن يبين الفعل أولا لأنه المقصود بالذات وهو الإباء ثم يذكر سببه وعلته وهو الاستكبار ثم يأتي بالأصل في العلة والمعلول والسبب والمسبب وهو الكفر.

(أقول) وقال بعض المفسرين: إنَّ "كان "هنا بمعنى صار وخطأه ابن فورك وقال إن الأصول ترده، ووجهه عند قائله: وصار بهذا الإباء والاستكبار من جملة الكافرين، لما علم من أنه لم يكن قبل هذا العصيان المتضمن للاعتراض على الرب سبحانه من الكافرين، وقد جعل بعضهم مناط كفره هذا الاعتراض على ربه عز وجل لأن المعصية وحدها لا تقتضي الكفر كما تدل عليه النصوص، وفيه أن ذلك في معصية المسلم، وهو المذعن لأمر الله ونهيه إذا غلبه غضب أو شهوة فعصى، وهو لا يلبث أن يندم ويتوب. وعصيان إبليس رفض للإذعان والاستسلام ابتداء وهو كفر بغير نزاع، ككفر الذين صدقوا الرسل بقلوبهم ولم يتبعوهم عنادا واستكبارا {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} والجمهور: أن المعنى: وكان في علم الله من الكافرين.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وفي هذه الآيات من العبر والآيات:

أن الله تعرف لملائكته، بعلمه وحكمته، ومنها: أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم، وأنه أفضل صفة تكون في العبد، ومنها: أن الله أمرهم بالسجود لآدم، إكراما له، لما بان فضل علمه، ومنها: أن الامتحان للغير، إذا عجزوا عما امتحنوا به، ثم عرفه صاحب الفضيلة، فهو أكمل مما عرفه ابتداء، ومنها: الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن، وبيان فضل آدم، وأفضال الله عليه، وعداوة إبليس له، إلى غير ذلك من العبر.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم. فسجدوا)..

إنه التكريم في أعلى صوره، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة. لقد وهب سر المعرفة، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق.. إن ازدواج طبيعته، وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة.. إن هذا كله بعض أسرار تكريمه.

ولقد سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي الجليل.

(إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)..

وهنا تتبدى خليقة الشر مجسمة: عصيان الجليل سبحانه! والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله. والعزة بالإثم. والاستغلاق عن الفهم.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقد أريد من هذه القصة

إظهارُ مزية نوع الإنسان وأن الله يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته حكمته من الخصائص والمزايا لئلا يخلو شيء منها عَنْ فائدة من وجوده في هذا العالم؛ وإظهارُ فضيلة المعرفة،

وبيانُ أن العالم حقيق بتعظيم مَن حوله إياه وإظهارُ ما للنفوس الشريرة الشيطانية من الخبث والفساد،

وبيانُ أن الاعتراف بالحق من خصال الفضائل الملائكية،

وأن الفساد والحسد والكِبر من مذام ذوي العقول [السليمة]...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

كفر إبليس كان يعود إلى نفس السبب أيضاً، فقد اعتقد بعدم صواب الأمر الإِلهي، وبذلك لم يعصِ فحسب، بل انحرف عقائدياً. وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره. وهكذا تكون دوماً نتيجة الكبر والغرور.