تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

والمثل الثاني : مثل { رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } لا يسمع ولا ينطق ، و { لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } ، لا قليل ولا كثير ، { وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ } ، أي : يخدمه مولاه ، ولا يستطيع هو أن يخدم نفسه ، فهو ناقص من كل وجه ، فهل يستوي هذا ومن كان يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، فأقواله عدل ، وأفعاله مستقيمة ، فكما أنهما لا يستويان ، فلا يستوي من عبد من دون الله وهو لا يقدر على شيء من مصالحه ، فلولا قيام الله بها لم يستطع شيئا منها ، ولا يكون كفوا وندا لمن لا يقول إلا الحق ، ولا يفعل إلا ما يحمد عليه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلّ عَلَىَ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجّههّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } .

وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والاَلهة التي تُعبد من دونه ، فقال تعالى ذكره : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجْلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } ، يعني : بذلك الصنم ، أنه لا يسمع شيئا ولا ينطق ؛ لأنه إما خشب منحوت ، وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه ، ولا دفع ضرّ عنه . { وهُوَ كَلّ على مَوْلاَهُ } ، يقول : وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته ، فكذلك الصنم كَلّ على من يعبده ، يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه ، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء ، فهو كلّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم . { أيْنَما يُوجّهْهُ لا يَأْتِ بخَيْرٍ } ، يقول : حيثما يوجهه لا يأت بخير ؛ لأنه لا يفهم ما يُقال له ، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد ، فهو لا يفهم ولا يُفْهَم عنه ، فكذلك الصنم لا يعقل ما يقال له فيأتمر لأمر من أمره ، ولا ينطق فيأمر وينهي ، يقول الله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بالعَدْلِ } يعني : هل يستوي هذا الأبكم الكلّ على مولاه ، الذي لا يأتي بخير حيث توجه ، ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه ، وهو : الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته ؟ يقول : لا يستوي هو تعالى ذكره ، والصنم الذي صفته ما وصف . وقوله : { وَهُوَ على صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } يقول : وهو مع أمره بالعدل ، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل وأمره به مستقيم ، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه .

وقد اختلف أهل التأويل في المضروب له هذا المثل ، فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } قال : هو : الوثن . { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بالعَدْلِ } ، قال : الله يأمر بالعدل . { وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، وكذلك كان مجاهد يقول ، إلا أنه كان يقول : المثل الأوّل أيضا ضربه الله لنفسه وللوثَن .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره : { عَبْدا مَمْلُوكا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } { وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقا حَسَنا } و{ رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ } { وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ } قال : كل هذا مثل إله الحقّ ، وما يُدعي من دونه من الباطل .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجْلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ } قال : إنما هذا مثل ضربه الله .

وقال آخرون : بل كلا المثلين للمؤمن والكافر . وذلك قول يُروَى عن ابن عباس ، وقد ذكرنا الرواية عنه في المثل الأوّل في موضعه .

وأما في المثل الآخر :

فحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَضَرَب اللّهُ مْثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلّ عَلى مَوْلاهُ } . . . إلى آخر الاَية ، يعني بالأبكم : الذي هو كَلّ على مولاه الكافر ، وبقوله : { وَمَنْ يَأْمُرُ بالعَدْلِ } ، المؤمن ، وهذا المثل في الأعمال .

حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، قال : حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، قال : حدثنا حماد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن إبراهيم ، عن عكرمة ، عن يَعْلى بن أمية ، عن ابن عباس ، في قوله : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدا مَمْلُوكا } قال : نزلت في رجل من قريش وعبده . وفي قوله : { مَثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ على شَيْءٍ } . . . إلى قوله : { وَهُوَ عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، قال : هو عثمان بن عفان . قال : والأبكم الذي أينما يُوَجّهُ لا يأت بخير ، ذاك مولى عثمان بن عفّان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة ، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه ، وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما .

وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في المثل الأوّل ؛ لأنه تعالى ذكره مثّل مثَل الكافر بالعبد الذي وصف صفته ، ومَثّل مثل المؤمن بالذي رزقه رزقا حسنا فهو ينفق مما رزقه سرّا وجهرا ، فلم يجز أن يكون ذلك لله مثلاً ، إذ كان الله إنما مثّل الكافر الذي لا يقدر على شيء بأنه لم يرزقه رزقا ينفق منه سرّا ، ومثّل المؤمن الذي وفّقه الله لطاعته فهداه لرشده ، فهو يعمل بما يرضاه الله ، كالحرّ الذي بسط له في الرزق فهو ينفق منه سرّا وجهرا ، والله تعالى ذكره هو الرازق غير المرزوق ، فغير جائز أن يمثل إفضاله وجوده بإنفاق المرزوق الرزق الحسن . وأما المثل الثاني ، فإنه تمثيل منه تعالى ذكره مَنْ مثله الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، والكفار لا شكّ أن منهم من له الأموال الكثيرة ، ومن يضرّ أحيانا الضرّ العظيم بفساده ، فغير كائن ما لا يقدر على شيء ، كما قال تعالى ذكره مثلاً ، لمن يقدر على أشياء كثيرة . فإذا كان ذلك كذلك ، كان أولى المعاني به تمثيل ما لا يقدر على شيء ، كما قال تعالى ذكره بمثله ما لا يقدر على شيء ، وذلك الوثن الذي لا يقدر على شيء ، بالأبكم الكَلّ على مولاه الذي لا يقدر على شيء ، كما قال ووصف .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

{ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم } ، ولد أخرس ، لا يَفهم ولا يُفهِم . { لا يقدر على شيء } ، من الصنائع والتدابير ؛ لنقصان عقله . { وهو كَلٌّ على مولاه } ، عيال وثقل على من يلي أمره . { أينما يوجّهه } ، حيثما يرسله مولاه في أمر ، وقرئ : { يوجه } ، على البناء للمفعول ، و{ يوجه } بمعنى : يتوجه كقوله : " أينما أوجه ألق سعدا " ، وتوجه ، بلفظ الماضي . { لا يأت بخير } ، ينجح وكفاية مهم . { هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل } ، ومن هو فهم منطيق ، ذو كفاية ورشد ، ينفع الناس بحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل . { وهو على صراط مستقيم } ، وهو في نفسه على طريق مستقيم ، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي ، وإنما قابل تلك الصفات بهذين الوصفين ؛ لأنهما كمال ما يقابلهما ، وهذا تمثيل ثان ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام ؛ لإبطال المشاركة بينه وبينها ، أو للمؤمن والكافر .