تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (191)

{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } هذا أمر بقتالهم ، أينما وجدوا في كل وقت ، وفي كل زمان قتال مدافعة ، وقتال مهاجمة ثم استثنى من هذا العموم قتالهم { عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وأنه لا يجوز إلا أن يبدأوا بالقتال ، فإنهم يقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم ، وهذا مستمر في كل وقت ، حتى ينتهوا عن كفرهم فيسلموا ، فإن الله يتوب عليهم ، ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله ، والشرك في المسجد الحرام ، وصد الرسول والمؤمنين عنه وهذا من رحمته وكرمه بعباده .

ولما كان القتال عند المسجد الحرام ، يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام ، أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك ، والصد عن دينه ، أشد من مفسدة القتل ، فليس عليكم - أيها المسلمون - حرج في قتالهم .

ويستدل بهذه  الآية على القاعدة المشهورة ، وهي : أنه يرتكب أخف المفسدتين ، لدفع أعلاهما .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (191)

قوله : { واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } الضمير المنصوب فيه يعود على قوله : { الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } في الآية السابقة .

و { ثَقِفْتُمُوهُم } : أدركتموهم وظفرتم بهم . يقال : ثقف الشيء إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة ومنه : رجل ثقف إذا كان سريع الأخذ لأقرانه . قال الشاعر :

فإما تثقفوني فاقتلوني . . . فمن أثقف فليس إلى خلود

ويقال - أيضاً - رجل ثقف : إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور .

والمعنى : عليكم أيها المسلمون أن تقتلوا هؤلاء الذين أذنا لكم بقتالهم حيث وجدتموهم وظفرتم بهم ، فأنهم قد بادءوكم بالعدوان ، وتمنوا لكم كل شر وسوء .

وقوله : { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } معطوف على ما قبله .

وحيث ظرف مكان . والمكان الذي أخرجوهم منه هو مكة ، فإن المشركين من قريش قد أنزلوا بالمسلمين الأولين من صنوف الأذى ما جعلهم يتركون مكة ويهاجرون إلى بلاد الحبشة .

أولا : ثم إلى المدينة المنورة ثانياً . أي : اقتلوا هؤلاء الذين قاتلوكم في أي مكان لقيتموهم فيه ، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة .

وفي هذا تهديد للمشركين ، وإغراء للمسلمين بهم ، ووعد بفتح مكة وقد أنجز الله - تعالى - وعده ففتح المسلمون مكة في السنة الثامنة من الهجرة .

وقولع - تعالى - : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } . دفع لما قد يقع من بعض المسلمين من استعظام قتل المشركين في مكة .

والفتنة في الأصل : مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزائف منهما ، ثم استعملت في الابتلاء والامتحان والصرف عن الشيء ، وأكثر استعمالها في التضليل والصد عن الدين ، ثم على الكفر .

ويبدو أن المراد منها هنا ما كان يفعله المشركون مع المسلمين من التعذيب والصد عن الدين ، والإِخراج من الوطن ، وغير ذلك من صنوف الأذى .

والمعنى : لا تقصروا في قتل المشركين الذين يقاتلونكم ، والذين أخرجوكم من دياركم ، فإن فتنتهم لكم بالإِيذاء والتعذيب والصد عن الدين ، أشد ضررا من قتلكم لهم في أي مكان وجدوا به .

وبعضهم فسر الفتنة هنا بالشرك ، أو بالرجوع إلى الكفر ، أو بعذاب الآخرة ، وقد بين ذلك صاحب الكشاف بقوله . وقوله : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } أي : المحنة والبلاء الذي ينزل بالإِنسان يتعذب به أشد عليه من القتل وقيل لبعض الحكماء : ما أشد من الموت : قال : الذي يتمنى فيه الموت ، جعل الإِخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت ، ومنه قول القاتل :

القتل بحد السيف أهون موقعا . . . على النفس من قتل بحد فراق

وقيل : { والفتنة } عذاب الآخرة قال - تعالى - { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } وقيل : الشرك أعظم من القتل في الحرم ، وذلك لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون به المسلمين . فقيل : والشرك الذي هم عليه أشد وأعظم مما يستعظمونه ويجوز أن يراد : وفتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم " .

وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد أذنت للمؤمنين في قتل الذين يناجزونهم القتال دفعاً لشرهم أينما وجدوا .

ثم ساقت الآية جملة أخرى نهت فيها المؤمنين عن قتال المشركين عند المسجد الحرام مراعاة لحرمته . ما دام المشركون لم يفاتحوهم بالقتال عنده ، أما إذا فاتحوهم بالقتال فيه ، فقد أصبح من حق المؤمنين أن يدافعوا عن أنفسهم ، وأن يقاتلوا أعداءهم . وهذه الجملة هي قوله - تعالى - : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } .

أي : لا تقاتلوا أيها المؤمنون أعداءكم عند المسجد الحرام احتراماً له حتى يبدأ المشركون قتالكم عنده ، فإن بدءوكم بالقتال فيه فلا حرج عليكم في قتلهم عنده ، لأن المنتهك لحرمة المسجد الحرام إنما هو البادئ بالقتال فيه وهم المشركون ، ولستم أنتم أيها المؤمنون لأن موقفكم إنما هو موقف المدافع عن نفسه .

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد حفظت للمسجد الحرام حرمته وهيبته ومكانته السامية لأن حرمته لذاته ، وحرمة سائر الحرم من أجله ، إلا أنها أذنت للمسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم إذا ما هاجمهم المشركون عنده أو فيه .

قال ابن كثير ما ملخصه : وقد دلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم إذا بدأوا بالقتال فيه دفعا لصولتهم ، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أً صحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ، ثم كف الله القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } وقال صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد ومن معه يوم الفتح : " إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا " . فما عرض لهم أحد إلا أناموه وأصيب من المشركين نحو اثني عشر رجلاً " .

ولم يقل - سبحانه - فإن قاتلوكم فقاتلوهم ، وإنما قال { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } تبشيراً للمؤمنين بالغلبة عليهم ، وإشعاراً بأن هؤلاء المشركين من الخذلان والضعف بحالة أمر الله المؤمنين معها بقتلهم لا بقتالهم ، فهم لضعفهم لا يحتاجون من المؤمنين إلا إلى القتل .

وقوله : { كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين } تذييل لما قبله . واسم الإِشارة ذلك يعود إلى قتل المقاتلين أينما وجدوا .

والجزاء : ما يقع في مقابلة الإِحسان أو الإِساءة ، فيطلق على ما يثاب به المحسن ، وعلى ما يعاقب به المسيء . والمراد به في الآية العقاب .

أي : مثل هذا الجزاء العادل من القتل والردع يجازي الله الكافرين الذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من ديارهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (191)

{ واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } ( 191 )

قال ابن إسحاق وغيره : نزلت هذه الآيات في شأن عمرو بن الحضرمي وواقد ، وهي سرية عبد الله بن جحش( {[1778]} ) ، و { ثقفتموهم } معناه أحكمتم غلبهم ولقيتموهم قادرين عليهم ، يقال رجل ثقف لقف( {[1779]} ) إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور ، { وأخرجوهم } . قال الطبري : «الخطاب للمهاجرين ، والضمير لكفار قريش » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : بل الخطاب لجميع المؤمنين ، ويقال { أخرجوكم } إذا أخرجوا بعضهم الأجل قدراً وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون ، { والفتنة أشد من القتل } أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموكم بها على الرجوع إلى الكفر أشد من القتل .

قال مجاهد : «أي من أن يقتل المؤمن ، فالقتل أخف عليه من الفتنة » . قال غيره : بل المعنى الفتنة التي فعلوا أشد في هتك حرمات الحق من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم ، ويحتمل أن يكون المعنى والفتنة أي الكفر والضلال الذي هم فيه أشد في الحرم وأعظم جرماً من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي( {[1780]} ) .

وقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } الآية ، قال الجمهور : كان هذا ثم نسخ وأمر بالقتال في كل موضع

. قال الربيع : نسخه { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } .

وقال قتادة : نسخة قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فقاتلوا المشركين حيث وجدتموهم }( {[1781]} ) [ التوبة : 5 ] .

وقال مجاهد : «الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل »( {[1782]} ) .

وقرأ حمزة والكسائي والأعمش «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم » بالقتل في الأربعة( {[1783]} ) ، ولا خلاف في الأخيرة أنها { فاقتلوهم } ، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي : فإن قتلوا منكم فاقتلوهم أيها الباقون ، وذلك كقوله تعالى : { قتل معه ربيون كثير فما وهنوا }( {[1784]} ) [ آل عمران : 146 ] أي فما وهن الباقون .


[1778]:- عمرو بن الحضرمي هو: عمرو بن عبد الله الحضرمي ابن عباد، وقد كان له إخوة مشهورون، وواقد بن عبد الله التميمي بن مناة بن عويم بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة. وعبد الله بن جحش الأسدي من كبار الصحابة، وهو أخو زينب بنت جحش أم المؤمنين، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم (أمير المؤمنين) فهو أول من حمل هذا اللقب في الإٍسلام، وقد خرج على رأٍس سرية في رجب بعد سبعة عشر شهرا من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والقصة أن (واقدا) رمى (عمرو بن الحضرمي) فقتله – ولهذا كانت بنو اليربوع تفتخر بأن منها أول من قتل قتيلا من المشركين في الإٍسلام – وقد مات (واقد) هذا في أول خلافة عمر رضي الله عنه.
[1779]:- ثقْف لقْف – بسكون القاف وبكسرها في الكلمتين.
[1780]:- بمعنى أن الضلال والكفر الذي هم فيه أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام كما فعل واقد بن عبد الله الصحابي مع عمرو بن الحضرمي (لأنه قتله في رجب وهو شهر حرام)، وإن كان القتل في الأشهر الحرم غير جائز أصلا.
[1781]:- قوله تعالى: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة] من الآية (39) من سورة (الأنفال)، وقوله تعالى: (فإذا انسلخ...) الخ من الآية (5) من سورة (التوبة)..
[1782]:- هذا هو الحق، وهو الذي رجحه الفخر الرازي، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ولم تحل لأحد من بعدي]، يقوي قول مجاهد، وذلك أن حرمة المسجد الحرام لذاته، وحرمة سائر الحرم من أجله، فالآية الكريمة بمثابة الاستثناء من قوله تعالى: [واقتلوهم حيث ثقفتموهم].
[1783]:- متعلق بقوله: وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش أي: قرؤوا بالقتل أي بحذف الألف، وهذه القراءة نص في أن الكافر إذا التجأ إلى الحرم لا يقتل، ويأتي ذلك على القراءة الأخرى لأنها تنهى عن القتال المؤدي إلى القتل.
[1784]:- من الآية (146) من سورة (آل عمران).