ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه ، فمن حتَّم عليه بالقدر أن يموت ، مات ولو بغير سبب ، ومن أراد بقاءه ، فلو أتى{[163]} من الأسباب كل سبب ، لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله ، وذلك أن الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى : { إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }
ثم أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والآخرة ما تعلقت به إراداتهم ، فقال : { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها }
قال الله تعالى : { كلاًّ نمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا }
{ وسنجزي الشاكرين } ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته ، وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر ، قلة وكثرة وحسنا .
ثم بين - سبحانه - أن الآجال بيد الله وحده . وأنه - سبحانه - قد جعل لكل أجل وقتا محددا لا يعدوه فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } .
أى : ما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس مطلقا ، لأى سبب من الأسباب ، إلا بمشيئة الله وأمره وإذنه ، فهو - سبحانه - الذى كتب لكل نفس عمرها كتابا مؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر .
المراد بالنفس هنا . جنسها . أى كل نفس لا تموت إلا بإذن الله .
والمراد بإذنه - : أمره ومشيئته ، فكل نفس لا تحيا إلا بأمره ، ولا تموت إلا بإذنه .
و { كَانَ } نقاصة وقوله { أَنْ تَمُوتَ } في محل رفع اسمها وقوله { لِنَفْسٍ } متعلق بمحذوف وقع خبرا لها . والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والأسباب .
أى ما كان لها أن تموت فى حالة من الأحوال أو لسبب من الأسباب إلا مأذونا لها منه - سبحانه - .
والباء فى قوله { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } للمصاحبة .
وقوله { كِتَاباً } مفعول مطلق مؤكد لمضمون الجملة التى قبله ، وعامله مضمر والتقدير : كتب الله ذلك كتابا مؤجلا . أى له أجل معلوم لا يتقدم عنه ولا يتأخر ، وهو آت لا ريب فيه .
وقوله { مُّؤَجَّلاً } صفة لقوله { كِتَاباً } .
ثم ذم - سبحانه - الذين يؤثرون متاع الدنيا على الآخرة ، فقال : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } أى من يرد بعمله ثواب الدنيا أى جزاءها وثمارها كالأموال والغنائم نؤته منها ما نشاء أن نؤتيه ، ولا يكون له فى الآخرة من نصيب .
وهذا تعريض بمن شغلوا بجمع الغنائم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بمن تركوا أماكنهم التى وضعهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسارعوا إلى جمع حطام الدنيا ، فنتج عن ذلك هزيمة المسلمين فى غزوة أحد .
ثم مدح - سبحانه - الذين يبتغون بأعمالهم ثواب الآخرة فقال : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا } .
أى ومن يرد بعمله وجهاده ثواب الآخرة وما ادخره الله فيها لعباده المتقين من أجر جزيل نؤته منها ما نشاء من عطائنا الذين تشتهيه النفوس ، وتقر له العيون .
وقوله { وَسَنَجْزِي الشاكرين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، ووعد من عطاء الله لمن شكره على نعمه ويثبت على شرعه .
أى وسنجزى الشاكرين فى دنياهم بما يسعدهم ويرضيهم . وسنجزيهم فى الآخرة بما يشرح صدورهم ، ويدخل البهجة على نفوسهم .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد تضمنت تحريض المؤمنين على القتال . وتحذيرهم من الجبن والفرار ، لأن الجبن لا يؤخر الحياة ، كما أن الإقدام لا يؤدى إلى الموت قبل حلول وقته ، فإن أحدا لا يموت قبل أجله ، وإن خاص المهالك واقتحم المعارك .
كما تضمنت دعوة المؤمنين إلى الزهد فى متع الحياة الدنيا ، وإلى أن يجعلوا مقصدهم الأكبر فى تحصيل ما ينفعهم فى آخرتهم ، فإن هذا هو المقصد الأسمى ، والمطلب الأعلى : قال - تعالى - { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } وإن الذين خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا أما كنهم التى أمرهم بالثبات فيها جريا وراء الغنائم ، لم يحصلوا منها شيئا ، بل فقدوها وفقدوا أرواحهم وعزتهم وكرامتهم ، وكان فعلهم هذا من أسباب هزمية المسلمين فى غزوة أحد .
كما تضمنت وعداً من الله - تعالى - بأن يزيد الشاكرين من فضله وإحسانه ، وأن يكافئهم على شكرهم إياه بما هم أهل له من نصر وخير وفير .
وقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا } أي : لا يموت أحد إلا بقدر الله ، وحتى يستوفي المدةَ التي ضربها الله له ؛ ولهذا قال : { كِتَابًا مُؤَجَّلا } كقوله{[5794]} { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } [ فاطر : 11 ] وكقوله { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } [ الأنعام : 2 ] .
وهذه الآية فيها تشجيع للجُبَناء وترغيب لهم في القتال ، فإن الإقدام والإحجام لا يَنْقُص من العمر ولا يزيد فيه كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال : سمعت أبا معاوية ، عن الأعمش ، عن حبيب بن صُهبان ، قال : قال رجل من المسلمين{[5795]} - وهو حُجْرُ بن عَدِيّ - : ما يمنعكم أن تعبُروا إلى هؤلاء العدو ، هذه{[5796]} النطفة ؟ - يعني دِجْلَة - { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا } ثم أقحم فرسه دجلة فلما أقحم أقحم الناس فلما رآهم العدوّ قالوا : ديوان ، فهربوا{[5797]} {[5798]} .
وقوله : { وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي : من كان عمله للدنيا فقد نال منها ما قدّرَه الله له ، ولم يكن له في الآخرة [ من ]{[5799]} نصيب ، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا كما قال : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ الإسراء : 18 ، 19 ] وهكذا قال هاهنا : { وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } أي : سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شُكْرهم وعملهم .
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا }
جملة معترضة ، والواو اعتراضية .
فإن كانت من تتمة الإنكار على هلعهم عند ظنّ موت الرسول ، فالمقصود عموم الأنفس لا خصوص نفس الرسول عليه السلام ، وتكون الآية لوماً للمسلمين على ذهولهم عن حفظ الله رسولَه من أن يسلّط عليه أعداؤُه ، ومن أن يخترم عمره قبل تبليغ الرسالة . وفي قوله : { والله يعصمك عن الناس } [ المائدة : 67 ] عقب قوله : { بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] الدالّ على أنّ عصمته من النَّاس لأجل تبليغ الشَّلايعة . فقد ضمن الله له الحياة حتَّى يبلّغ شرعه ، ويتمّ مراده ، فكيف يظنّون قتله بيد أعدائه ، على أنَّه قبل الإعلان بإتمام شرعه ، ألا ترى أنَّه لمّا أنزل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] الآية . بكى أبو بكر وعلم أنّ أجل النَّبيء صلى الله عليه وسلم قد قرب ، وقال : ما كمُل شيء إلاّ نقص . فالجملة ، على هذا ، في موضع الحال ، والواو واو الحال .
وإن كان هذا إنكاراً مستأنفاً على الَّذين فزعوا عند الهزيمة وخافوا الموت ، فالعموم في النفس مقصود أي ما كان ينبغي لكم الخوف وقد علمتم أنّ لكلّ نفس أجلاً .
وجيء في هذا الحكم بصيغة الجحود للمبالغة في انتفاء أن يكون موت قبل الأجل ، فالجملة ، على هذا ، معترضة ، والواو اعتراضية ، ومثل هذه الحقائق تلقى في المقامات الَّتي يقصد فيها مداواة النُّفوس من عاهات ذميمة ، وإلاّ فإنّ انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته ، { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [ لقمان : 34 ] ، والمؤمن مأمور بحفظ حياته ، إلاّ في سبيل الله ، فتعيّن عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أنّ الموت بالأجل ، والمراد { بإذن الله } تقديره وقت الموت ، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدّر ، وهو ما عبّر عنه مرّة ب ( كن ) ، ومرة بقدر مقدُور ، ومرّة بالقلم ، ومرّة بالكتاب .
والكتاب في قوله : { كتاباً مؤجلاً } يجوز أن يكون اسماً بمعنى الشيء المكتوب ، فيكون حالاً من الإذن ، أو من الموت ، كقوله : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] و« مؤجّلاً » حالاً ثانية ، ويجوز أن يكون { كتاباً } مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة ، وقوله : { مؤجلاً } صفة له ، وهو بدل من فِعله المحذوف ، والتَّقدير : كُتِب كتاباً مؤجّلاً أي مؤقتاً . وجعله صاحب « الكشاف » مصدراً مؤكّداً أي لِمضمون جملة { وما كان لنفس } الآية ، وهو يريد أنَّه مع صفته وهي { مؤجّلاً } يؤكِّد معنى { إلاّ بإذن الله } لأنّ قوله : { بإذن الله } يفيد أنّ له وقتاً قد يكون قريباً وقد يكون بعيداً فهو كقوله تعالى : { كتاب الله عليكم } [ النساء : 24 ] بعد قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] الآية .
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين } .
أي من يرد الدنيا دون الآخرة ، كالَّذي يفضّل الحياة على الموت في سبيل الله أو كالَّذين استعجلوا للغنيمة فتسبّبوا في الهزيمة ، وليس المراد أنّ من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يُحرم من ثواب الآخرة وحظوظها ، فإنّ الأدلّة الشرعية دلّت على أنّ إرادة خير الدنيا مقصد شرعي حسن ، وهل جاءت الشريعة إلاّ لإصلاح الدنيا والإعداد لِحياة الآخرة الأبدية الكاملة ، قال الله تعالى : { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } [ آل عمران : 148 ] وقال تعالى : { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } أي الغنيمة أو الشَّهادة ، وغيرُ هذا من الآيات والأحاديث كثير . وجملة { وسنجزي الشاكرين } تذييل يعمّ الشاكرين ممّن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة . ويعمّ الجزاء كلّ بحسبه ، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط .