وفي ضمن أخبار الله عن علمه وقدرته الإخبار بما هو لازم ذلك من المجازاة على الأعمال ، ومحل ذلك يوم القيامة ، فهو الذي توفى به النفوس بأعمالها فلهذا قال { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا } أي : كاملا موفرا لم ينقص مثقال ذرة ، كما قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره } والخير : اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة صغيرها وكبيرها ، كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله من الأعمال السيئة صغيرها وكبيرها { وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا } أي : مسافة بعيدة ، لعظم أسفها وشدة حزنها ، فليحذر العبد من أعمال السوء التي لا بد أن يحزن عليها أشد الحزن ، وليتركها وقت الإمكان قبل أن يقول { يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلا } { حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } فوالله لترك كل شهوة ولذة وإن عسر تركها على النفس في هذه الدار أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك الفضائح ، ولكن العبد من ظلمه وجهله لا ينظر إلا الأمر الحاضر ، فليس له عقل كامل يلحظ به عواقب الأمور فيقدم على ما ينفعه عاجلا وآجلا ، ويحجم عن ما يضره عاجلا وآجلا ، ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا ، وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح ، والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب ، فقال { ويحذركم الله نفسه والله رءوفٌ بالعباد } فنسأله أن يمن علينا بالحذر منه على الدوام ، حتى لا نفعل ما يسخطه ويغضبه .
ثم كرر - سبحانه - التحذير من الحساب يوم القيامة وما يقع فيه من أهوال ورغب المؤمنين في العمل الصالح فقال : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } .
قال الآلوسى : الأمد : غاية الشيء ومنتهاه والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة والأمد مدة لها حد مجهول ، والمراد هنا الغاية الطويلة ، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة ، ولعله الأظهر ، فالتمني هنا من قبيل التمني فى قوله - تعالى - { يا ليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } والمعنى : راقبوا ربكم أيها المؤمنون . وتزودوا من العلم الصالح واذكروا { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } في الدنيا
{ مِنْ خَيْرٍ } وإن كان مثقال ذرة { مُّحْضَراً } لديها مشاهدا في الصحف ، حتى لكأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأي العين { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء } تراه أيضاً ظاهراً ثابتا مسجلا عليها ، وتتمنى لو أن بينها وبين هذا العمل السيء زمنا طويلا ، ومسافة بعيدة وذلك لأن الإنسان يتمنى دائما أن يكون بيعدا بعدا شاسعاً عن الشيء المخيف المؤلم خصوصاً فى هذا اليوم العصيب وهو يوم القيامة .
وقوله { يَوْمَ } متعلق بمحذوف تقديره اذكروا ، وهو مفعول به لهذا المحذوف . و " تجد " يجوز أن يكون متعديا لواحد فيكون بمعنى تصيب وتصادف ، ويكون " محضراً " على هذا منصوبا على الحال . قال الجمل : وهذا هو الظاهر . ويجوز أن يكون بمعنى تعلم فيتعدى لاثنين أولهما { مَّا عَمِلَتْ } والثانى { مُّحْضَراً } .
وقوله { وَمَا عَمِلَتْ مِن سوء } معطوف على قوله { مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ } .
ويرى بعضهم أن " ما " فى قوله { وَمَا عَمِلَتْ مِن سوء } متبدأ ، وخبرها جملة { لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } فيكون المعنى : ما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمدا بعيدا .
أتى - سبحانه - بقوله { مُّحْضَراً } فى جانب الخير فقط من أن عمل السوء أيضاً يكون محضراً للإشعار يكون عمل الخير هو المراد بالذات . وهو الذى يتمناه الإنسان ويرجو حضوره فى هذا لما يترتب عليه من ثواب وأما عمل الشر فتتمنى كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره بسبب ما يترتب عليه من عقاب .
وقوله - سبحانه - { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } تكرير للتحذير الأول الذي جاء فى قوله - تعالى - { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } والسر في هذا التكرير زيادة التحذير من عقاب الله وانتقامه ، فإن تكرار التحذير من شأنه أن يغرس في القلوب التذكر والاعتبار والوجل .
وقيل : إن التحذير الأول ذكر للنهي عن موالاة الكافرين . والذى هنا ذكر للحث على عمل الخير والتنفير من عمل الشر .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله رَؤُوفُ بالعباد } ومن مظاهر رأفته ورحمته أنه حذر عباده قبل أن يعاقبهم ، وأنه يعفو عن كثير من ذنوب عباده ، وأنه فتح لهم باب التوبة حتى يقلعوا عن خطاياهم إلى غير ذلك من مظاهر رأفته ورحمته .
يعني : يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر{[4943]} كما قال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] فما رأى من أعماله حسنا سره ذلك وأفرحه ، وما رأى من قبيح ساءه وغاظه ، وود لو أنه تبرأ منه ، وأن يكون بينهما أمد بعيد ، كما يقول لشيطانه الذي كان مقترنًا به في الدنيا ، وهو الذي جرَّأه على فعل السوء : { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [ الزخرف : 38 ] .
ثم قال تعالى مؤكدا ومهددا ومتوعدا : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أي : يخوفكم عقابه ، ثم قال مرجيًا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه : { وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } قال الحسن البصري : من رأفته بهم حذرهم نفسه . وقال غيره : أي : رحيم بخلقه ، يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم ، وأن يتبعوا رسوله الكريم .
و{ يوم } نصب على الظرف ، وقد اختلف في العامل فيه ، فقال مكي بن أبي طالب ، العامل فيه { قدير } ، وقال الطبري : العامل فيه قوله : { وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28 ] وقال الزجّاج ، وقال أيضاً العامل فيه { ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 28 ] يوم ورجحه وقال مكي : حكاية العامل فيه فعل مضمر تقديره ، «اذكر يوم » ، و { ما } بمعنى الذي و{ محضراً } قال قتادة : معناه موفراً ، وهذا تفسير بالمعنى ، والحضور أبين من أن يفسر بلفظ آخر ، وقوله تعالى : { ما عملت من سوء } يحتمل أن تكون { ما } معطوفة على { ما } الأولى فهي في موضع نصب وتكون { تود } في موضع الحال ، وإلى هذا العطف ذهب الطبري وغيره ، ويحتمل أن تكون رفعاً بالابتداء ويكون الخبر في قوله : { تود } وما بعده كأنه قال : وعملها السيىء مردود عندها أن بينها وبينه أمداً ، وفي قراءة ابن مسعود «من سوء ودت » وكذلك قرأ ابن أبي عبلة ، ويجوز على هذه القراءة أن تكون { ما } شرطية ولا يجوز ذلك على قراءة «تود » لأن الفعل مستقبل مرفوع والشرط يقتضي جزمه اللهم إلى أن يقدر في الكلام محذوف «فهي تود » وفي ذلك ضعف ، و «الأمد » الغاية المحدودة من المكان أو الزمان ، قال النابغة : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سَبْق الْجَوادِ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأمَدِ{[3089]}
فهذه غاية في المكان ، وقال الطرماح{[3090]} : [ الخفيف ]
كُلُّ حيّ مُسْتَكْمِلٌ عُدَّةَ الْعُمْ . . . رِ وَمُودٍ إذا انقضَى أَمَدُهْ
فهذه غاية في الزمان ، وقال الحسن في تفسير هذه الآية ، يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً ذلك مناه ، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها ، وقوله : { والله رؤوف بالعباد } يحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير لأن تحذيره وتنبيهه على النجاة رأفة منه بعباده ، ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة فمقتضى ذلك التأنيس لئلا يفرط الوعيد على نفس مؤمن ، وتجيء الآية على نحو قوله تعالى : { إن ربك لشديد العقاب ، وإنه لغفور رحيم }{[3091]} لأن قوله : { ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 28 ] والله محذور العقاب .