{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
أي : وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت ، أن يجعله الله بلدا آمنا ، ويرزق أهله من أنواع الثمرات ، ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين ، تأدبا مع الله ، إذ كان دعاؤه الأول ، فيه الإطلاق ، فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم .
فلما دعا لهم بالرزق ، وقيده بالمؤمن ، وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر ، والعاصي والطائع ، قال تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ } أي : أرزقهم كلهم ، مسلمهم وكافرهم ، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله ، ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة ، وأما الكافر ، فيتمتع فيها قليلا { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } أي : ألجئه وأخرجه مكرها { إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
ثم ساق القرآن بعد ذلك نماذج من الدعوات التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } أي : أضرع إليك يا إلهي أن تجعل الموضع الذي فيه بيتك مكانا يأنس إليه الناس ، ويأمنون فيه من الخوف ، ويجدون فيه كل ما يرجون من أمان واطمئنان .
والمشار إليه بقوله : { هذا } مكة المكرمة . والبلد كل قطعة من الأرض عامرة أو غامرة .
والمقصود بالدعاء إنما هو أمن أهله لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد ، وإنما يلحقان أهل البلد .
قال الإِمام الرازي : وإنما قال هنا { بَلَداً آمِناً } على التنكير ، وقال في سورة إبراهيم { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } على التعريف لوجهين :
الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلداً آمناً .
والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً ، فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة .
والثاني : أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً ، فقوله : { اجعل هذا بَلَداً آمِناً } تقديره : أجعل هذا البلد بلداً آمنا كقولك : كان اليوم يوماً حاراً ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفة بالحرارة ، لأأن التنكير يدل على المبالغة فقوله : رب اجعل هذا البلد بلداً آمنا معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن . وأما قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } فليس فيه إلا طلب الامن لا طلب المبالغة .
أما الدعوة الثانية التي توجه بها إبراهيم إلى ربه من أجل أهل مكة فقد حكاها القرآن في قوله :
{ وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر } .
أي : كما أسألك يا إلهي أن تجعل هذا لبلد بلداً آمنا . أسألك كذلك أن ترزق المؤمنين من أهله من الثمرات ما يسد حاجاتهم ، ويغنيهم من الاحتياج إلى غيرك .
وقوله : " ارزق " مأخوذ من رزقه يرزقه إذا أعطاه ما ينتفع به من مأكول وغيره .
والثمرات : جمع ثمرة ، وهي ما يحمله شجر أو زرع أو غيره من النبات . وإنما طلب إبراهيم - عليه السلام - من الله أن يجعل مكة بلدا آمناً ، وأن يرزق أهلها من الثمرات بما يغنيهم لأن البلد إذا امتدت إليه ظلال الأمن ، وكانت مطالب الحياة فيه ميسرة ، أقبل أهله على طاعة الله بقلوب مطمئنة وتفرغوا لذلك بنفوس مستقرة .
وقال في دعائه : { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر } لأن أهل مكة قد يكون من بينهم كافرون ، فأراد تخصيص المؤمنين منهم بدعائه ، لذا أتبع قوله : { وارزق أَهْلَهُ } بقوله : { مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } على وجه البدل فصار المعنى وارزق المؤمنين من أهله على ما تقتضيه القاعدة العربية من أن البدل وهو هنا { مَنْ آمَنَ } هو المقصود بطلب الرزق .
وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيوع الإِيمان بين سكان مكة ، لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم إنما هي خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإِيمان ، أو أنه خص المؤمنين بذلك تأدباً مع الله - تعالى - إذ سأله سؤالا أقرب إلى الإِجابة ، ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } فقال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإِجراء رزق الله عليهم .
واقتصر على ذكر الإِيمان بالله واليوم الآخر في التعبير عن المؤمنين لأن الإِيمان بالله واليوم الآخر لا يقع على الوجه الحق إلا إذا صاحبه الإِيمان بكتب الله ورسله وملائكته .
ثم بين - سبحانه - مصير الكافرين فقال : { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } .
الضمير في ( قال ) يعود إلى الله - تعالى - ومن في قوله ( من كفر ) منصوب بفعل مقدر دلي عليه " فأمتعه " والمعنى : قال الله وأرزق من كفر وايراد المتكلم قولا من عنده معطوفاً على قول متكلم آخر مألوف في اللغة العربية ، ويحسن موقعه عندما يقتضي المقام إيجازاً في القول ، ولولا هذا العطف لكان المعنى متطلباً لأن يقال : قال الله أرزق من آمن ومن كفر .
{ فَأُمَتِّعُهُ } : من التمتع وهو إعطاء ما ينتفع به . و { قَلِيلاً } : وصف لمصدر محذوف في النظم ، والمعنى : أمتعه تمتيعاً قليلا . ووصف التمتع في الدنيا بالقلة ، لأنه صائر إلى نفاد وانقطاع .
و { أَضْطَرُّهُ } أي الجثة وأسوقه بعد متاعه في الدنيا إلى عذاب لا يمكنه الإِنفكاك عنه وجملة " ثم اضطره إلى عذاب النار " احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضا الله فلذلك ذكر العذاب هنا .
{ وَبِئْسَ } فعل يستعمل لذم المرفوع بعده ، وهو ما يسميه النحاة بالمخصوص بالذم ، ووردت هنا لذم النار المقدرة في الجملة ، والمعنى : بئس المصير النار . أي أنها مصير سيء كما قال تعالى في آية أخرى .
{ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } وقد أفادت الآية الكريمة أن الله يرزق الكافر في الدنيا كما يرزق المؤمن وإذا كان إمتاع المؤمن بالرزق لأنه أهل لأن ينعم عليه بكل خير ، فإمتاع الكافر بالرزق له حكم منها استدراجه المشار إليه بقوله تعالى :
{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ولو خص الله المؤمنين بالتوسعة في الرزق وحرم منها الكافرين لكان هذا التخصيص سائقا للكافرين إلى الإِيمان على وجه يشبه الإِلجاء . وقد قضت حكمته - تعالى - أن يكون الإِيمان اختيارياً حتى ينساق الإِنسان من طريق النظر في أدلة عقلية يبصر بها أقوام ولا يبصر بها آخرون .
وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
قال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدي ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن إبراهيم حَرَّم بيت الله وأمَّنَه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يُصَادُ صيدها ولا يقطع عضاهها " {[2671]} .
وهكذا رواه النسائي ، عن محمد بن بشار عن بُنْدَار به{[2672]} .
وأخرجه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعَمْرو الناقد ، كلاهما عن أبي أحمد الزبيري ، عن سفيان الثوري{[2673]} .
وقال ابن جرير - أيضًا - : حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس ، وحدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الرحيم الرازي ، قالا جميعًا : سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن إبراهيم كان عبد الله وخليله وإني عبدُ الله ورسوله وإن إبراهيم حَرَّم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها ، عضاهَها وصيدَها ، لا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير " {[2674]} .
وهذه الطريق غريبة ، ليست في شيء من الكتب الستة ، وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر ، جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مُدِّنا ، اللهم إن إبراهيمَ عبدُك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه " ثم يدعو أصْغَرَ وليد له ، فيعطيه ذلك الثمر . وفي لفظ : " بركة مع بركة " ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان . لفظ مسلم{[2675]} .
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كُريب ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا بكر بن مضر ، عن ابن الهاد ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن رافع بن خَديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين لابتيها " .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه عن قتيبة ، عن بكر بن مضر ، به{[2676]} . ولفظه كلفظه سواء . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة : " التمس لي غلامًا من غلمانكم يخدمني " فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه ، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل . وقال في الحديث : ثم أقْبَلَ حتى إذا بدا له أُحد قال : " هذا جبل يُحبُّنا ونحبه " . فلما أشرف على المدينة قال : " اللهم إني أحرم ما بين جبليها ، مثلما حرم به إبراهيم مكة ، اللهم بارك لهم في مُدِّهم وصاعهم " . وفي لفظ لهما : " اللهم بارك لهم في مكيالهم ، وبارك لهم في صاعهم ، وبارك لهم في مدهم " . زاد البخاري : يعني : أهل المدينة{[2677]} .
ولهما أيضا عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلته بمكة من البركة " {[2678]} وعن عبد الله بن زيد بن عاصم ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها ، وحَرَّمتُ{[2679]} المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، ودعوت{[2680]} لها في مدها وصاعها{[2681]} مثل ما دعا إبراهيم لمكة "
رواه البخاري وهذا لفظه{[2682]} ، ومسلم ولفظه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها . وإني حرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة " {[2683]} .
وعن أبي سعيد ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم إنَّ إبراهيم حَرَّم مكة فجعلها حرامًا ، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها ، لا يهراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف . اللهم بارك لنا في مدينتنا ، اللهم بارك لنا في صاعنا ، اللهم بارك لنا في مُدِّنا ، اللهم اجعل مع البركة بركتين " . الحديث رواه مسلم{[2684]} .
والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة ، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم ، عليه السلام ، لمكة ، لما في ذلك في مطابقة الآية الكريمة .
[ وتَمسَّك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل ، وقيل : إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى ]{[2685]} .
وقد وردت أحاديث أُخَرُ تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض ، كما جاء في الصحيحين ، عن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حَرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحِل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . لا يُعْضَد شوكه ولا ينفر صيده ، ولا تُلْتَقَط لُقَطَتُه إلا من عرَّفها ، ولا يختلى خَلاهَا " فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذْخَر فإنه لقَينهم ولبيوتهم . فقال : " إلا الإذخر " وهذا لفظ مسلم{[2686]} .
ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك{[2687]} .
ثم قال البخاري بعد ذلك : قال{[2688]} أبان بن صالح ، عن الحسن بن مسلم ، عن صفية بنت شيبة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله{[2689]} .
وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجة ، عن محمد بن عبد الله بن نُمَير ، عن يونس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن بن مسلم بن يَنَّاق ، عن صفية بنت شيبة ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح ، فقال : " يا أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حَرَام إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شجرها ولا يُنَفَّر صيدُها ، ولا يأخذ لُقَطَتَها إلا مُنْشِد " فقال العباس : إلا الإذخر ؛ فإنه للبيوت والقبور . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إلا الإذْخَر " {[2690]} .
وعن أبي شُرَيح العدوي أنَّه قال لعَمْرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة - : ائذن لي - أيها الأمير - أن أحدثَك قولا قام به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغَد من يوم الفتح ، سَمِعَته أذناي ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تَكَلَّم به ، إنه حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد تَرَخَّصَ بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم . وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب " . فقيل لأبي شُرَيح : ما قال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ، ولا فارًّا بدم ، ولا فارًّا بخَرَبَة .
رواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظه{[2691]} .
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حَرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض ، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم ، عليه السلام ، حَرَّمها ؛ لأن إبراهيم بَلَّغ عن الله حُكْمه فيها وتحريمه إياها ، وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم ، عليه السلام ، لها ، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عند الله خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجَدل في طينته ، ومع هذا قال إبراهيم ، عليه السلام : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقَدَره . ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن بَدْءِ أمرك . فقال : " دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ابن مريم ، ورأت أمي كأنه{[2692]} خرج منها نور أضاء ت له قصور الشام " .
أي : أخْبِرْنا عن بدء ظهور أمرك . كما سيأتي قريبًا ، إن شاء الله .
وأما مسألة تفضيل مَكَّة على المدينة ، كما هو قول الجمهور ، أو المدينة على مكة ، كما هو مذهب مالك وأتباعه ، فتذكر في موضع آخر بأدلتها ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
وقوله : تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } أي : من الخوف ، لا يَرْعَبُ أهله ، وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا . كقوله تعالى{[2693]} { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 97 ] وقوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيها . وفي صحيح مسلم عن جابر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح " {[2694]} . وقال في هذه السورة : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } أي : اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا ، وناسب هذا ؛ لأنه قبل بناء الكعبة . وقال تعالى في سورة إبراهيم : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } [ إبراهيم : 35 ] وناسب هذا هناك لأنه ، والله أعلم ، كأنه وقع دعاء ثانًيا{[2695]} بعد بناء البيت واستقرار أهله به ، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنًّا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ؛ ولهذا قال في آخر الدعاء : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [ إبراهيم : 39 ]
وقوله تعالى : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : { قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئسَ الْمَصِير } قال : هو قول الله تعالى . وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير ، رحمه الله تعالى : قال : وقرأ آخرون : { قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم ، كما رواه أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : كان ابن عباس يقول : ذلك قول إبراهيم ، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا .
وقال أبو جعفر ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا } يقول : ومن كفر فأرزقه أيضًا { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِير }
وقال محمد بن إسحاق : لما عزل إبراهيم ، عليه السلام ، الدعوة عمَّن أبى الله أن يجعل له الولاية - انقطاعًا إلى الله ومحبته ، وفراقًا لمن خالف أمره ، وإن كانوا من ذريته ، حين عرف أنه كائن منهم أنه ظالم ألا يناله عهدُه ، بخبر الله له بذلك - قال الله : ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا .
وقال حاتم بن إسماعيل عن حُمَيد الخرَّاط ، عن عَمَّار الدُّهْني ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } قال ابن عباس : كان إبراهيم يحجُرها على المؤمنين دون الناس ، فأنزل الله ومن كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقًا لا أرزقهم ؟ ! أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير . ثم قرأ ابن عباس : { كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [ الإسراء : 20 ] . رواه ابن مَرْدُويه . ورُوي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضًا . وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70 ] ، وقوله تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 23 ، 24 ] ، وقوله : { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ* وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 33 ، 35 ]
وقوله { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير . ومعناه : أن الله تعالى يُنْظرُهم ويُمْهلهُم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، كقوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ }
[ الحج : 48 ] ، وفي الصحيحين : " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ؛ إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم " {[2696]} وفي الصحيح أيضًا : " إن الله ليملي{[2697]} للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " . ثم قرأ قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ]{[2698]} .
{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا } يريد به البلد ، أو المكان . { بلدا آمنا } ذا أمن كقوله تعالى ؛ { في عيشة راضية } . أو آمنا أهله كقولك : ليل نائم { وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } أبدل من { من آمن } { أهله } بدل البعض للتخصيص { قال ومن كفر } عطف على { آمن } والمعنى وارزق من كفر ، قاس إبراهيم عليه الصلاة والسلام الرزق على الإمامة ، فنبه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر ، بخلاف الإمامة والتقدم في الدين . أو مبتدأ متضمن معنى الشرط { فأمتعه قليلا } خبره ، والكفر وإن لم يكن سببا للتمتيع لكنه سبب لتقليله ، بأن يجعله مقصورا بحظوظ الدنيا غير متوسل به إلى نيل الثواب ، ولذلك عطف عليه { ثم أضطره إلى عذاب النار } أي ألزه إليه لز المضطر لكفره وتضييعه ما متعته به من النعم ، وقليلا نصب على المصدر ، أو الظرف . وقرئ بلفظ الأمر فيهما على أنه من دعاء إبراهيم وفي قال ضميره . وقرأ ابن عامر { فأمتعه } من أمتع . وقرئ " فنمتعه " ثم نضطره ، و " اضطره " بكسر الهمزة على لغة من يكسر حروف المضارعة ، و " أضطره " بإدغام الضاد وهو ضعيف لأن حروف ( ضم شفر ) يدغم فيها ما يجاورها دون العكس .