{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ }
أي : أجاب الله دعاءهم ، دعاء العبادة ، ودعاء الطلب ، وقال : إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى ، فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كاملا موفرا ، { بعضكم من بعض } أي : كلكم على حد سواء في الثواب والعقاب ، { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا } فجمعوا بين الإيمان والهجرة ، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال ، طلبا لمرضاة ربهم ، وجاهدوا في سبيل الله .
{ لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله } الذي يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل .
{ والله عنده حسن الثواب } مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فمن أراد ذلك ، فليطلبه من الله بطاعته والتقرب إليه ، بما يقدر عليه العبد .
لقد كانت نتيجة دعواتهم ، أن أجاب الله لهم سؤالهم وحقق لهم مطالبهم فقال - تعالى - { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } ! ! .
قال الحسن البصرى : " ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم " .
وقال جعفر الصادق : " من حزبه أمر فقال خمس مرات { رَبَّنَآ } أنجاه الله مما يخالف ، وأعطاه ما أراد ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : اقرءوا أن شئتم قوله - تعالى - { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً } . . . إلخ فإن هؤلاء الأخيار قد نادوا ربهم خمس مرات فأجاب الله لهم دعاءهم .
ودلت الفاء فى قوله { فاستجاب } على سرعة الإجابة ، لأن الفاء للتعقيب ، فهم لأنهم دعوا الله بقلب سليم ، أجاب الله لهم دعاءهم بدون إبطاء .
واستجاب هنا بمعنى أجاب عند جمهور العلماء ، إن السين والتاء للتأكيد ، مثل استوقد واستخلص .
وقال بعضه : إن استجاب أخص من أجاب ، لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعى إليه ، وأجاب أعم فيقال لمن أجاب بالقبول وبالرد .
والمعنى : أن الله - تعالى - قد بشر هؤلاء الأخيار برضاه عنهم ، بأن أخبرهم بأنه قد أجاب لهم دعاءهم ، وأنه - سبحانه - لا يضيع عمل عامل منهم ، بل سيجازيهم بالجزاء الأوفى ، وسيمنحهم من الثواب . فوق ما عملوا لأنه هو الكريم الوهاب ، ولن يفرق فى عطائه بين ذكر وأنثى ، لأن الذكر من الأثنى والأنثى من الذكر وقد خلقهم جميعا من نفس واحدة .
وفى التعبير باللفظ السامى { رَبُّهُمْ } إشارة إلى أن الذى سيجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم ، والرحيم بهم .
ومعنى { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } لا أزيل ثواب عمل أى عامل منكم ، بل أكافئه عليه بما يستحقه ، وأعطيه من ثوابى ورحمتى ما يشرح صدره ، ويدخل البهجة والسرور على نفسه .
وقوله { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } بيان لعامل ، وتأكيد عمومه ، أى لا اضيع عمل أى شخص عامل سواء أكان هذا العامل ذكراً أم أنثى .
ومعنى { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، كلكم بنو آدم وهذه جملة معترضة مبينة لسبب شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده من أجر جزاء أعمالهم الصالحة .
روى الترمذى عن أم سلمة قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله - تعالى - ذكر النساء فى الهجرة ، فأنز الله - تعالى - { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } .
ثم بين - سبحانه - الأعمال الصالحة التى استحق بها هؤلاء الأبرار حسن الثواب منه - سبحانه - فقال : { فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } .
أى فالذين هاجروا بأن تركوا أوطانهم التى أحبوها إلى أماكن أخرى من أجل إعلاء كلمة الله ، وأخرجوا من ديارهم ، فرارا بدينهم من ظلم ظالمين ، واعتداء المعتدين ، { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أى تحملوا الأذى والاضطهاد فى سبيل الحق الذى آمنوا به { وَقَاتَلُواْ } أعداء الله { وَقُتِلُواْ } وهم يجاهدون من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل .
هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك ، وعدهم الله - تعالى - بالأجر العظيم فقال : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أى لأمحون عنهم ما ارتكبوه من سيئات ، ولأسترنها عليهم حتى تعتبر نسيا منسيا { وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى تجرى من تحت قصورها الأنهار التى فيها العسل المصفى ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين .
وقوله { ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أى لأثيبنهم ثوابا عظيما من عندى ، والله - تعالى - عنده حسن الجزاء لمن آمن وعمل صالحا .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد منح هؤلاء الأخيرا ذلك الأجر الجزيل لأنهم قد هاجروا من الأرض التى أحبوها إلى غيرها من أجل إعلاء كلمة الله ، وأخرجوا منها مضطرين لا مختارين فرارا بدينهم ، ولقد ذكر المؤرخون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال : " يا مكة والله لأنت أحب بلاد الله إلى ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت " .
ولأنهم قد تحملوا ما تحملوا من الأذى فى سبيل الله ، ولأنهم قد جاهدوا أعداء الله وأعداءهم حتى استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله .
وقوله { الذين هَاجَرُواْ } مبتدأ ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له ، والتفخيم لشأنه . وخبره قوله { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } .
وقوله { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } معطوف على { هَاجَرُواْ } . وجمع بينهما للإشعار بأنهم قد تركوا أوطانهم تارة باختيارهم ليبحثوا عن مكان أصلح لنماء دعوتهم ، وانتشار الحق الذى اعتنقوه ، وتارة بغير اختيارهم بل تركوها مجبرين ومضطرين بعد أن ألجأهم أعداؤهم إلى الخروج منها بسبب ما نالهم منهم من ظلم واعتداء .
وقوله { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } معطوف على ما قبله . والمراد من الإيذاء ما هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار ، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من جهة المشركين .
وجمع - سبحانه - بين قوله { وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ } للإشارة إلى أن للقسمين ثوابا وأنهم لن يصيبهم إلا أحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة ، وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } جواب قسم محذوف ، أى والله لأكفرن عنهم سيئاتهم .
وقدّم - سبحانه - تكفير سيئاتهم على إدخالهم الجنة ، لأن التخلية - كما يقولون - مقدمة على التحلية ، فهو أولا طهرهم من الذنوب والآثام ونقاهم منها ، ثم أدخلهم بعد ذلك جنته وأعطاهم فيها ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
وقوله { ثَوَاباً } مصدر مؤكد لما قبله ، لأن المعنى لأثيبنهم على ما عملوه ثوابا عظيما .
وقوله { مِّن عِندِ الله } صفة لقوله { ثَوَاباً } وهو وصف مؤكد ؛ لأن الثواب لا يكون إلا من عنده - تعالى - ، لكنه صرح به - سبحانه - تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه .
وقوله { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
وقد ختم - سبحانه - الآية بهذه الجملة الكريمة لبيان اختصاصه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال فى الدنيا لا يعد حسنا بجوار ما أعده - سبحانه - فى الآخرة لعباده المتقين .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد دعت المؤمنين إلى الإكثار من ذكر الله وإلى التفكر السليم فى عجائب صنعه ، وساقت لنا ألوانا من الدعوات الطيبات الخاشعات التى تضرع بها الأخيار إلى خالقهم ، وبينت لنا الثواب الجزيل والعطاء العظيم الذى منحه الله لهم فى مقابل إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح ، فقد جرت سنته - سبحانه - أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأنه لا يرد دعاء الأبرار من عباده .
يقول تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي : فأجابهم ربهم ، كما قال الشاعر :
وداعٍ دعا : يَا مَن يجيب إلى النّدى *** فَلم يَسْتجبْه عنْد ذاك مجيب{[6378]}
قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة ، رجل من آل أم سلمة ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نَسْمَع اللهَ ذَكَر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله [ عز وجل ]{[6379]} { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } إلى آخر الآية . وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قَدمت علينا .
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عُيَيْنة ، ثم قال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه{[6380]} .
وقد روى ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، عن أم سَلَمة قالت : آخر آية أنزلت هذه الآية : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } إلى آخرها . رواه ابن مَرْدُويَه .
ومعنى الآية : أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا - مما تقدم ذكره - فاستجاب لهم ربهم - عقب ذلك بفاء التعقيب ، كما قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة : 186 ] .
وقوله : { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } هذا تفسير للإجابة ، أي قال لهم مُجِيبًا{[6381]} لهم : أنه لا يضيع عمل عامل لديه ، بل يُوَفّي كل عامل بقسط عمله ، من ذكر أو أنثى .
وقوله : { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي : جميعكم في ثوابي سَواء { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا } أي : تركوا دار الشِّرك وأتَوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران ، { وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي : ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ؛ ولهذا قال : { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي : إنما كان ذنْبُهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده ، كما قال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] . وقال تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] .
وقوله : { وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله ، فيُعْقَر جَواده ، ويعفَّر وجهه بدمه وترابه ، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال : يا رسول الله ، أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرا مُحْتَسبا مُقْبلا غير مُدبِر ، أيُكَفِّر الله عني خطاياي ؟ قال : " نعم " ثم قال : " كيف قلت ؟ " : فأعاد عليه{[6382]} ما قال ، فقال : " نعم ، إلا الدَّين ، قاله لي جبريل آنفًا " .
ولهذا قال تعالى : { لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب ، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك ، مما لا عَيْنَ رَأتْ ، ولا أذن سَمِعت ، ولا خَطَر على قلب بَشَر .
وقوله : { ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أضافه إليه ونسبه إليه لِيدل على أنه عظيم ؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جَزيلا كثيرًا ، كما قال الشاعر :
إن يُعَذب يَكُن غَرامًا وإن يُعْ *** طِ جَزيلا فإنَّه لا يُبَالي
وقوله : { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } أي : عنده حُسْن الجزاء لمن عمل صالحا .
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن دُحَيم بن إبراهيم : حدثنا الوليد بن مسلم ، أخبرني حَرِيز{[6383]} بن عثمان : أن شداد بن أوس كان يقول : يا أيها الناس ، لا تَتهِموا الله في قضائه ، فإنه{[6384]} لا يبغي على مؤمن ، فإذا نزل بأحدكم شيء مما يُحِب فليحْمَد الله ، وإذا أنزل{[6385]} به شيء مما يكره فَليَصْبر وليحتسب ، فإن الله عنده حسن الثواب .