{ 17-19 } { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
لما ذكر تعالى حال الصالح البار لوالديه ذكر حالة العاق وأنها شر الحالات فقال : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } إذ دعواه{[783]} إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وخوفاه الجزاء .
وهذا أعظم إحسان يصدر من الوالدين لولدهما أن يدعواه إلى ما فيه سعادته الأبدية وفلاحه السرمدي فقابلهما بأقبح مقابلة فقال : { أُفٍّ لَكُمَا } أي : تبا لكما ولما جئتما به .
ثم ذكر وجه استبعاده وإنكاره لذلك فقال : { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } من قبري إلى يوم القيامة { وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } على التكذيب وسلفوا على الكفر وهم الأئمة المقتدى بهم لكل كفور وجهول ومعاند ؟ { وَهُمَا } أي : والداه { يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } عليه ويقولان له : { وَيْلَكَ آمِنْ } أي : يبذلان غاية جهدهما ويسعيان في هدايته أشد السعي حتى إنهما -من حرصهما عليه- أنهما يستغيثان الله له استغاثة الغريق ويسألانه سؤال الشريق ويعذلان ولدهما ويتوجعان له ويبينان له الحق فيقولان : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ثم يقيمان عليه من الأدلة ما أمكنهما ، وولدهما لا يزداد إلا عتوا ونفورا واستكبارا عن الحق وقدحا فيه ، { فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : إلا منقول من كتب المتقدمين ليس من عند الله ولا أوحاه الله إلى رسوله ، وكل أحد يعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب ولا يقرأ ولا تعلم من أحد ، فمن أين يتعلمه ؟ وأنى للخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ؟ .
وبعد أن ساق - سبحانه - هذه الصورة الوضيئة لأصحاب الجنة ، أتبع ذلك ببيان صورة سيئة لنوع آخر من الناس ، فقال - تعالى - : { والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ . . . وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } .
والاسم الموصول فى قوله - تعالى - : { والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } بمعنى الذين ، وهو مبتدأ وخبره قوله : { أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول . . } وهذا صريح فى أن المراد بقوله : { والذي } العموم وليس الإِفراد ، وهذا يدل - أيضا - على فساد قول من قال إن الآية نزلت فى شأن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق - رضى الله عنهما - والصحيح أنها فى حق كل كافر عاق لوالديه ، منكر للبعث .
قال ابن كثير عند تفسير لهذه الآية : وهذا عام فى كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر ، فقوله ضعيف ، لأن بعد الرحمن اسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه ، وكان من خيار أهل زمانه .
أخرج البخارى عن يوسف بن مَاهَك قال : كان مروان على الحجاز ، استعمله معاوية بن أبى سفيان ، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكى يبايع له بعد أبيه .
فقال له بعد الرحمن بن أبى بكر شيئا . . فقال مروان : إن هذا الذى أنزل فيه : { والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ . . . } .
فقالت عائشة من وراء حجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذرى . وفى رواية للنسائى أنها قالت : كذب مروان ، والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمى الذى نزلت فيه لسميته . .
ولفظ " أف " : اسم صوت ينبى عن التضجر ، أو اسم فعل مضارع هو أتضجر .
والمقصود به هنا : إظهار الملل والتأفف والكراهية لما يقوله أبواه من نصح له .
وقوله : { أتعدانني } فعل مضارع من وعد الماضى ، وحذف واوه فى المضارع مطرد .
والنون الأولى نوع الرفع ، والثانية نون الوقاية .
وقوله : { أَنْ أُخْرَجَ } : أن وما دخلت عليه فى تأويل مصدر هو المفعول الثانى لقوله : { أتعدانني } . أى : والذى قال لوالديه - على سبيل الإِنكار والإِعراض عن نصحهما - { أُفٍّ لَّكُمَآ } أى : أقول بعدا وكرها لقولكما ، أو إنى متضج من قولكما .
{ أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ } أى : أتعذاننى الخروج من قبرى بعد أن أموت ، لكى أبعث وأحاسب على عملى ، والحال أنه { قَدْ خَلَتِ } أى : مضت { القرون } الكثيرة { مِن قَبْلِي } دون أن يخرج أحد منهم من قبره ، ودون أن يرجع بعد أن مات .
فالآية الكريمة تصور بوضوح ما كان عليه هذا الإِنسان ، من سوء أدب مع أبويه ، ومن إنكار صريح للبعث والحساب والجزاء .
ثم حكى - سبحانه - ما رد به الأبوان فقال : { وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } .
وقوله : { يَسْتَغثِيَانِ الله } أى : يلتمسان غوثه وعونه فى هداية هذا الإِنسان إلى الصراط المستقيم ، والجملة فى محل نصب على الحال .
ولفظ " ويلك " فى الأصل ، يقال فى الدعاء على شخص بالهلاك والتهديد .
والمراد به هنا : حض المخاطب على الإِيمان والطاعة لله رب العالمين .
أى : هذا هو حال الإِنسان العاق الجاحد ، أما حال أبواه ، فإنهما يفزعان لما قاله وترتعش أفئدتهما لهذا التطاول والصدود عن الحق ، فليجآن إلى الله ، ويلتمسان منه - سبحانه - الهداية لابنهما ، ويحضان هذا الابن على الإِيمان بوحدانية الله - تعالى - ، وبالبعث والحساب والجزاء ، فيقولان له : { وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } ولا خلف فيه ، ولا راد له . .
والمتأمل فى هذه الجملة الكريمة يراها تصور لهفة الوالدين على إيمان ولدهما أكمل تصوير ، فهو يلتمسان من الله له الهداية ، ثم يهتفان بهذا الابن العاف بفزع أن يترك هذا الجحود ، وأن يبادر إلى الإِيمان بالحق . .
ولكن الابن العاق يصر على كفره ، ويلج فى جحوده : { فَيَقُولُ } فى الرد على أبويه { مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } . أى : ما هذا الذى تعداننى إياه من البعث والحساب والجزاء . . إلا أباطيل الأولين وخرافاتهم التى سطروها فى كتبهم .
فالأساطير : جمع أسطورة ، وهى ما سجله الأقدمون فى كتبهم من خرافات وأكاذيب .
فأما النموذج الآخر فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال :
( والذي قال لوالديه : أف لكما ! أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ? ) . .
فالوالدان مؤمنان . والولد العاق يجحد برهما أول ما يجحد ؛ فيخاطبهما بالتأفف الجارح الخشن الوقح : أف لكما ! . . ثم يجحد الآخرة بالحجة الواهية : أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ? . . أي ذهبوا ولم يعد منهم أحد . . والساعة مقدرة إلى أجلها . والبعث جملة بعد انتهاء أجل الحياة الدنيا . ولم يقل أحد إنه تجزئة . يبعث جيل مضى في عهد جيل ياتي . فليست لعبة وليست عبثا . إنما هو الحساب الختامي للرحلة كلها بعد انتهائها !
والوالدان يريان الجحود ويسمعان الكفر ، ويفزعان مما يقوله الولد العاق لربه ولهما ؛ ويرتعش حسهما لهذا التهجم والتطاول ؛ ويهتفان به : ( وهما يستغيثان الله . ويلك آمن . إن وعد الله حق ) . . ويبدو في حكاية قولهما الفزع من هول ما يسمعان . بينما هو يصر على كفره ، ويلج في جحوده : ( فيقول : ما هذا إلا أساطير الأولين ) . .
{ والذي قال لوالديه أف لكما } مبتدأ خبره { أولئك } ، والمراد به الجنس وإن صح نزولها في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، فإن خصوص السبب لا يوجب التخصيص . وفي { أف } قراءات ذكرت في سورة " بني إسرائيل " . { أتعدانني أن أخرج } أبعث ، وقرأ هشام " أتعداني " بنون واحدة مشددة . { وقد خلت القرون من قبلي } فلم يرجع أحد منهم . { وهما يستغيثان الله } يقولان الغياث بالله منك ، أو يسألانه أن يغيثه بالتوفيق للإيمان . { ويلك آمن } أي يقولان له { ويلك } ، وهو الدعاء بالثبور بالحث على ما يخاف على تركه . { إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين } أباطيلهم التي كتبوها .