تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

{ وَقَدْ مَكَرُوا } أي : المكذبون للرسل { مَكْرَهُمْ } الذي وصلت إرادتهم وقدر لهم عليه ، { وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ } أي : هو محيط به علما وقدرة فإنه عاد مكرهم عليهم { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }

{ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } أي : ولقد كان مكر الكفار المكذبين للرسل بالحق وبمن جاء به -من عظمه- لتزول الجبال الراسيات بسببه عن أماكنها ، أي : { مكروا مكرا كبارا } لا يقادر قدره ولكن الله رد كيدهم في نحورهم .

ويدخل في هذا كل من مكر من المخالفين للرسل لينصر باطلا ، أو يبطل حقا ، والقصد أن مكرهم لم يغن عنهم شيئا ، ولم يضروا الله شيئا وإنما ضروا أنفسهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك لونا آخر من ألوان عراقتهم فى الكفر والجحود فقال : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } .

والمكر : تبييت فعل السوء بالغير وإضماره ، مع إظهار ما يخالف ذلك . وانتصب { مكرهم } الأول على أنه مفعول مطلق لمكروا ، لبيان النوع ، والإِضافة فيه من إضافة المصدر لفاعله .

أى : أن هؤلاء الظالمين جاءتهم العبر فلم يعتبروا ، بل أضافوا إلى ذلك أنهم مكروا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مكرهم العظيم الذى استفرغوا فيه جهدهم لإِبطال الحق ، وإحقاق الباطل ، والذى كان من مظاهره محاولتهم قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أى : وفى علم الله - تعالى - الذى لا يغيب عنه شئ مكرهم ، وسيجازيهم عليه بما يستحقونه من عذاب مهين .

وقوله - تعالى { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } قرأ الجمهور { لتزول } بكسر اللام على أنها لام الجحود والفعل منصوب بعدها . بأن مضمره وجوبا ، و " إن " فى قوله { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } نافبة بمعنى ما .

والمعنى : ولقد مكر هؤلاء الكافرون مكرهم الشديد الذى اشتهروا به ، وفى علم الله - تعالى - مكرهم ، وما كان مكرهم - مهما عظم واشتد - لتنتقل منه الجبال من أماكنها ، لأنه لم يتجاوز أمثالهم ممن دمرناهم تدميرا .

وعلى هذه القاءة يكون المقصود بهذه الجملة الكريمة ، الاستخفاف بهم وبمكرهم ، وبيان أن ما يضمرونه من سوء ليس خافيا على الله - تعالى - ولن يزلزل المؤمنين فى عقيدتهم ، لأن إيمانهم كالجبال الرواسى فى ثباته ورسوخه .

وقرأ " السكائى " { لِتَزُولَ } - بفتح اللام على أنها لام الابتداء ، ورفع الفعل بعدها - و " إن " مخففة من الثقيلة .

فيكون المعنى : وقد مكروا مكرهم ، وعند الله مكرهم ، وإن مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها ، لو كان لها أن تزول أو تنقلع .

وعلى هذه القراءة يكون المراد بهذه الجملة الكريمة التعظيم والتهويل من شأن مكرهم ، وأنه أمر شنيع أو شديد فى بابه ، كما فى قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً . لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً . تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً . . }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

28

ثم يلتفت السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك ، إلى واقعهم الحاضر ، وشدة مكرهم بالرسول والمؤمنين ، وتدبيرهم الشر في كل نواحي الحياة . فيلقي في الروع أنهم مأخوذون إلى ذلك المصير ، مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير :

( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم . . وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) . .

إن الله محيط بهم وبمكرهم ، وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال ، أثقل شيء وأصلب شيء ، وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال . فإن مكرهم هذا ليس مجهولا وليس خافيا وليس بعيدا عن متناول القدرة . بل إنه لحاضر ( عند الله )يفعل به كيفما يشاء .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

وقد روى شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن [ بن دابيل ]{[15995]} أن عليا ، رضي الله عنه ، قال في هذه الآية : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } قال : أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين ، فرباهما حتى استغلظا واستعلجا وشبا{[15996]} .

قال : فأوثق رِجْل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت قال : - ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم - قال : فطارا [ قال ]{[15997]} وجعل يقول لصاحبه : انظر ، ما{[15998]} ترى ؟ قال : أرى كذا وكذا ، حتى قال : أرى الدنيا كلها كأنها ذباب . قال : فقال : صوب العصا ، فصوبها ، فهبطا . قال : فهو قول الله ، عز وجل : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " . قال أبو إسحاق : وكذلك هي في قراءة عبد الله : " وإن كاد مكرهم " {[15999]} .

قلت : وكذا رُوي عن أبي بن كعب ، وعمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما ، أنهما قرآ : " وإن كاد " ، كما قرأ علي . وكذا رواه سفيان الثوري ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أذنان{[16000]} عن علي ، فذكر نحوه .

وكذا رُوي عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان : أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر ، كما رام ذلك بعده فرعون ملك القبط في بناء الصرح ، فعجزا وضعفا . وهما أقل وأحقر ، وأصغر وأدحر .

وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر ، وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها ، نودي أيها الطاغية : أين تريد ؟ فَفَرق ، ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح ، فصَوبت النسور ، ففزعت الجبال من هدتها ، وكادت الجبال أن تزول من حس{[16001]} ذلك ، فذلك قوله : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }

ونقل ابن جُريج{[16002]} عن مجاهد أنه قرأها : " لَتَزُولُ منه الجبال " ، بفتح اللام الأولى ، وضم{[16003]} الثانية .

وروى العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال . وكذا قال الحسن البصري ، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من كفرهم بالله وشركهم به ، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها ، وإنما عاد وبال ذلك على أنفسهم .

قلت : ويشبه هذا إذا قوله تعالى : { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [ الإسراء : 37 ] .

والقول الثاني في تفسيرها : ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } يقول شركهم ، كقوله : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } [ مريم : 90 - 91 ] ، وهكذا قال الضحاك وقتادة .


[15995]:- زيادة من ت ، وفي أ : "بن دنيال".
[15996]:- في ت : "فشبا".
[15997]:- زيادة من ت ، أ.
[15998]:- في ت : "ماذا".
[15999]:- تفسير الطبري (13/160) ، وصوب العصا : خفضها وأنزلها أ. هـ. مستفادا من حاشية الشعب.
[16000]:- في ت : "أرباب" ، وفي أ : "أريان".
[16001]:- في ت : "من حين".
[16002]:- في أ : "ابن جرير".
[16003]:- في ت ، أ : "ورفع".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } .

يقول تعالى ذكره : قد مكر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، فسكنتم من بعدهم في مساكنهم ، مَكْرَهم . وكان مكرهم الذي مكروا ما :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبان قال : سمعت عليّا يقرأ : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » قال : كان ملك فَرِه أخذ فروخ النسور ، فعلفها اللحم حتى شبّت واستعلجت واستغلظت ، فقعد هو وصاحبه في التابوت وربطوا التابوت بأرجل النسور ، وعلقوا اللحم فوق التابوت ، فكانت كلما نظرت إلى اللحم صعدت وصعدت ، فقال لصاحبه : ما ترى ؟ قال : أرى الجبال مثل الدخان ، قال : ما ترى ؟ قال : ما أرى شيئا ، قال : ويحك صوّب صوّب قال : فذلك قوله : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن واصل ، عن عليّ بن أبي طالب ، مثل حديث يحيى بن سعيد ، وزاد فيه : وكان عبد الله بن مسعود يقرؤها : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن واصل أن عليّا قال في هذه الاَية : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » قال : أخذ ذلك الذي حاجّ إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرّباهما ، ثم استغلظا واستعلجا وشبّا قال : فأوثق رجل كلّ واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوّعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت ، قال : ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم ، قال : فطارا ، وجعل يقول لصاحبه : انظر ماذا ترى ؟ قال : أرى كذا وكذا ، حتى قال : أرى الدنيا كأنها ذباب ، فقال : صوّب العصا فصوّبها فهبطا . قال : فهو قول الله تعالى : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » قال أبو إسحاق : وكذلك في قراءة عبد الله : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجبالُ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » مكر فارس . وزعم أن بختنصر خرج بنسور ، وجعل له تابوتا يدخله ، وجعل رماحا في أطرافها واللحم فوقها أراه قال : فعلت تذهب نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد ؟ ففرِق ، ثم سمع الصوت فوقه ، فصوّب الرماح ، فتصوّبت النسور ، ففزعت الجبال من هدّتها ، وكادت الجبال أن تزول منه من حسّ ذلك ، فذلك قوله : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : «وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ » كذا قرأها مجاهد : «كادَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ » وقال : إن بعض من مضى جوّع نسورا ، ثم جعل عليها تابوتا فدخله ، ثم جعل رماحا في أطرافها لحم ، فجعلت ترى اللحم فتذهب ، حتى انتهى بصره ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد ؟ فصوّب الرّماح ، فتصوّبت النسور ، ففزعت الجبال ، وظنّت أن الساعة قد قامت ، فكادت أن تزول ، فذلك قوله تعالى : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .

قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن عمر بن الخطاب ، أنه كان يقرأ : وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْه الجِبالُ .

حدثني هذا الحديث أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، أنه كان يقرأ على نحو : «لَتَزُولُ » بفتح اللام الأولى ورفع الثانية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل قال : سمعت عليّا يقول : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل ، قال : سمعت عليّا يقول : «وإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولَ مِنْهُ الحِبالُ » قال : ثم أنشأ عليّ يحدّث فقال : نزلت في جبّار من الجبابرة قال : لا أنتهي حتى أعلم ما في السماء ، ثم اتخذ نسورا فجعل يطعمها اللحم حتى غلظت واستعلجت واشتدّت ، وذكر مثل حديث شعبة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو داود الحضرمي ، عن يعقوب ، عن حفص بن حميد أو جعفر ، عن سعيد بن جبير : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الحِبالُ » قال : نمرود صاحب النسور ، أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلاً ، ثم أمر بالنسور فاحتمل ، فلما صعد قال لصاحبه : أيّ شيء ترى ؟ قال : أرى الماء وجزيرة يعني الدنيا ثم صعد فقال لصاحبه : أيّ شيء ترى ؟ قال : ما نزداد من السماء إلاّ بُعدا ، قال : اهبط وقال غيره : نودي أيها الطاغية أين تريد ؟ قال : فسمعت الجبال حفيف النسور ، فكانت ترى أنها أمر من السماء ، فكادت تزول ، فهو قوله : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، أن أنسا كان يقرأ : «وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .

وقال آخرون : كان مكرهم شركهم بالله وافتراءهم عليه . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ يقول : شركهم ، كقوله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » قال : هو كقوله : وَقالُوا اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئا إدّا تَكاد السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجبالُ هَدّا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ ثم ذكر مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن الحسن كان يقول : كان أهون على الله وأصغر من أن تزول منه الجبال ، يصفهم بذلك . قال قتادة : وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «وإنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » ، وكان قتادة يقول عند ذلك : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا : أي لكلامهم ذلك .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجبالُ » قال ذلك حين دعوا لله ولدا . وقال في آية أخرى : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا أنْ دَعَوْا للرّحْمَنِ وَلَدًا .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ في حرف ابن مسعود : «وإنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » هو مثل قوله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق ما خلا الكسائي : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال . وقرأه الكسائي : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » بفتح اللام الأولى ورفع الثانية على تأويل قراءة من قرأ ذلك : «وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ لتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » من المتقدمين الذين ذكرت أقوالهم ، بمعنى : اشتدّ مكرهم حتى زالت منه الجبال ، أو كادت تزول منه . وكان الكسائيّ يحدّث عن حمزة ، عن شبل عن مجاهد ، أنه كان يقرأ ذلك على مثل قراءته : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولُ مِنْهُ الجبالُ » برفع تزول .

حدثني بذلك الحرث عن القاسم عنه .

والصواب من القراءة عندنا ، قراءة من قرأه : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى : وما كان مكرههم لتزول منه الجبال .

وإنما قلنا ذلك هو الصواب ، لأن اللام الأولى إذا فُتحت ، فمعنى الكلام : وقد كان مكرهم تزول منه الجبال ، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة ، وفي ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزُل . وأخرى إجماع الحجة من القرّاء على ذلك ، وفي ذلك كفاية عن الاستشهاد على صحتها وفساد غيرها بغيره .

فإن ظنّ ظانّ أن ذلك ليس بإجماع من الحجة إذ كان من الصحابة والتابعين من قرأ ذلك كذلك ، فإن الأمر بخلاف ما ظنّ في ذلك ، وذلك أن الذين قرءوا ذلك بفتح اللام الأولى ورفع الثانية قرءوا : «وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ » بالدال ، وهي إذا قرئت كذلك ، فالصحيح من القراءة مع : وَإنْ كادَ فتح اللام الأولى ورفع الثانية على ما قرءوا ، وغير جائز عندنا القراءة كذلك ، لأن مصاحفنا بخلاف ذلك ، وإنما خطّ مصاحفنا وإن كان بالنون لا بالدال . وإذا كانت كذلك ، فغير جائز لأحد تغيير رسم مصاحف المسلمين ، وإذا لم يجز ذلك لم يكن الصحاح من القراءة إلاّ ما عليه قرّاء الأمصار دون من شذّ بقراءته عنهم .

وبنحو الذي قلنا في معنى : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَدْ مَكَرُوا مَكرهُم وَعِنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن يونس وعمرو ، عن الحسن : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ منْهُ الجِبالُ قالا : وكان الحسن يقول : وإن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال .

قال : قال هارون : وأخبرني يونس ، عن الحسن قال : أربع في القرآن : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال . وقوله : لاتّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إنْ كُنّا فاعِلِينَ : ما كنا فاعلين . وقوله : إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ فأنا أوّلُ العابِدِينَ : ما كان للرحمن ولد . وقوله : وَلَقَدْ مَكَنّاهُمْ فِيما إنْ مَكّنّاكُمْ : ما مكناكم فيه .

قال : هارون : وحدثني بهنّ عمرو بن أسباط ، عن الحسن ، وزاد فيهنّ واحدة : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ : ما كنت في شكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ .

فالأولى من القول بالصواب في تأويل الاَية ، إذ كانت القراءة التي ذكرت هي الصواب لما بيّنا من الدلالة في قوله : وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ الله مَكْرُهُمْ وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ وقد أشرك الذين ظلموا أنفسهم بربهم وافتروا عليه فريتهم عليه ، وعند الله علم شركهم به وافترائهم عليه ، وهو معاقبهم على ذلك عقوبتهم التي هم أهلها ، وما كان شركهم وفريتهم على الله لتزول منه الجبال ، بل ما ضرّوا بذلك إلاّ أنفسهم ، ولا عادت بغية مكروهة إلاّ عليهم .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا وكيع بن الجرّاح ، قال : حدثنا الأعمش ، عن شِمر ، عن عليّ ، قال : الغدر مكر ، والمكر كفر .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

{ وقد مكروا مكرهم } المستفرغ فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل . { وعند الله مكرهم } ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه ، أو عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم وإبطالا له . { وإن كان مكرهم } في العظم والشدة . { لتزول منه الجبال } مسوى لإزالة الجبال . وقيل إن نافية واللام مؤكدة لها كقوله : { وما كان الله ليعذبهم } على أن الجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه . وقيل مخففة من الثقيلة والمعنى أنهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتا وتمكنا من آيات الله تعالى وشرائعه . وقرأ الكسائي " لَتَزُولَ " بالفتح والرفع على أنها المخففة واللام هي الفاصلة ، ومعناه تعظيم مكرهم . وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ و " إن كاد مكرهم " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

وقوله : { وعند الله مكرهم } هو على حذف مضاف تقديره : وعند الله عقاب مكرهم أو جزاء مكرهم ، ويحتمل قوله تعالى : { وقد مكروا مكرهم } أن يكون خطاباً لمحمد عليه السلام ، والضمير لمعاصريه ، ويحتمل أن يكون مما يقال للظلمة يوم القيامة والضمير للذين سكن في منازلهم .

وقرأ السبعة سوى الكسائي : «وإن كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال » بكسر اللام من { لتزول } وفتح الأخيرة ، وهي قراءة علي بن أبي طالب وجماعة سكنوا وهذا على أن تكون «إن » نافية بمعنى ما ، ومعنى الآية : تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله بها التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها ، هذا تأويل الحسن وجماعة من المفسرين ، وتحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم ، أي وإن كان شديداً إنما يفعل لتذهب به عظام الأمور .

وقرأ الكسائي : «وإن كان مكرهم لَتزولُ منه الجبال » بفتح اللام الأولى من { لتزول } وضم الأخيرة ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن وثاب ، وهذا على أن تكون «إن » مخففة من الثقيلة ، ومعنى الآية تعظيم مكرهم وشدته ، أي أنه مما يشقى به ويزيل الجبال عن مستقراتها لقوته ، ولكن الله تعالى أبطله ونصر أولياءه ، وهذا أشد في العبرة .

وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبي بن كعب «وإن كاد مكرهم » ، ويترتب مع هذه القراءة في { لتزول } ما تقدم{[7103]} . وذكر أبو حاتم أن في قراءة أبي بن كعب «ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال » . وحكى الطبري عن بعض المفسرين أنهم جعلوا هذه الآية إشارة إلى ما فعل نمرود إذ علق التابوت من الأنسر ، ورفع لها اللحم في أطراف الرماح بعد ان أجاعها ودخل هو وحاجبه في التابوت ، فعلت بهما الأنسر حتى قال له نمرود : ماذا ترى ؟ قال : أرى بحراً وجزيرة - يريد الدنيا المعمورة - ثم قال : ماذا ترى ؟ قال : أرى غماماً ولا أرى جبلاً ، فكأن الجبال زالت عن نظر العين بهذا المكر ، وذكر ذلك عن علي بن أبي طالب . وذلك عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه ، وفي هذه القصة كلها ضعف من طريق المعنى ، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الأنسر كما وصف ، وبعيد أن يغرر أحد بنفسه في مثل هذا .


[7103]:في "البحر المحيط" أن هذه القراءة بالدال بدلا من النون تكون مع فتح اللام الأولى ورفع الثانية في [لتزول]. ولعل هذا هو ما قصد إليه ابن عطية في عبارته: "ويترتب مع هذه القراءة في [لتزول] ما تقدم ، أي: من فتح اللام الأولى ورفع الثانية، وإن كلام يوهم غير ذلك.