تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

{ 30 ْ } { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ْ }

أي : أولم ينظر هؤلاء الذين كفروا بربهم ، وجحدوا الإخلاص له في العبودية ، ما يدلهم دلالة مشاهدة ، على أنه الرب المحمود الكريم المعبود ، فيشاهدون السماء والأرض فيجدونهما رتقا ، هذه ليس فيها سحاب ولا مطر ، وهذه هامدة ميتة ، لا نبات فيها ، ففتقناهما : السماء بالمطر ، والأرض بالنبات ، أليس الذي أوجد في السماء السحاب ، بعد أن كان الجو صافيا لا قزعة فيه ، وأودع فيه الماء الغزير ، ثم ساقه إلى بلد ميت ؛ قد اغبرت أرجاؤه ، وقحط عنه ماؤه ، فأمطره فيها ، فاهتزت ، وتحركت ، وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ، مختلف الأنواع ، متعدد المنافع ، [ أليس ذلك ]{[528]}  دليلا على أنه الحق ، وما سواه باطل ، وأنه محيي الموتى ، وأنه الرحمن الرحيم ؟ ولهذا قال : { أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ْ } أي : إيمانا صحيحا ، ما فيه شك ولا شرك .


[528]:- زيادة من هامش ب.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

وبعد أن ساق - سبحانه - ألوانا من الأدلة الكونية الشاهدة بوحدانيته ، ومن الأدلة النقلية النافية للشركاء ، ومن الأدلة الوجدانية التى تهيج القلوب نحو الحق . . . أتبع ذلك بتحريض الكافرين على التدبر فى ملكون السموات والأرض ، لعل هذا التدبر يهديهم إلى الإيمان . فقال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَ . . . } .

قوله { رَتْقاً } مصدر رقته رتقا : إذا سده . يقال : رتق فلان الفتق رتقا ، إذا ضمه وسده ، وهو ضد الفتق الذى هو بمعنى الشق والفصل .

وللعلماء فى معنى هذه الآية أقوال أشهرها : أن معنى { كَانَتَا رَتْقاً } أن السماء كانت صماء لا ينزل منها مطر ، وأن الأرض كانت لا يخرج منها نبات ، ففتق الله - تعالى - السماء بأن جعل المطر ينزل منها ، وفتق الأرض بأن جعل النبات يخرج منها .

وهذا التفسير منسوب إلى ابن عباس ، فقد سئل عن ذلك فقال : كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، فلما خلق - سبحانه - للأرض أهلا ، فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات .

ومنهم من يرى أن المعنى : كانت السموات والأرض متلاصقتين كالشىء الواحد ، ففتقهما الله - تعالى - بأن فصل بينهما ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأبقى الأرض فى مقرها ، وفصل بينهما بالهواء .

قال قتادة قوله { كَانَتَا رَتْقاً } يعنى أنهما كانا شيئا واحداً ففصل الله بينهما بالهواء .

ومنهم من يرى أن معنى " كانتا رتقا " أن السموات السبع كانت متلاصقة بعضها ببعض ففتقها الله - تعالى - بأن جعلها سبع سموات منفصلة ، والأرضون كانت كذلك رتقا ، ففصل الله - تعالى - بينها وجعلها سبعا .

قال مجاهد : كانت السموات طبقة واحدة مؤتلفة ، ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرضين كانت طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا " .

وقد رجح بعض العلماء المعنى الأول فقال ما ملخصه : كونهما " كانتا رتقا " بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ، والأرض لا تنبت ، ففتق - سبحانه - السماء بالمطر والأرض بالنبات ، هو الراجح وتدل عليه قرائن من كتاب الله - تعالى - منها :

أن قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا . . } يدل على أنهم رأوا ذلك لأن الأظهر فى رأى أنها بصرية ، والذى يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ، والأرض لا نبات فيها . فيشاهدون بأبصارهم نزول المطر من السماء ، وخروج النبات من الأرض .

ومنها : أنه - سبحانه - أتبع ذلك بقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله . أى : وجعلنا من الماء الذى أنزلناه بفتقنا السماء ، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض ، كل شىء حى .

ومنها : أن هذا المعنى جاء موضحا فى آيات أخرى ، كقوله - تعالى - : { والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع } والمراد بالرجع : نزول المطر من السماء تارة بعد أخرى ، والمراد بالصدع : انشقاق الأرض عن النبات . واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية والفخر الرازى .

فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ، لأن المطر لا ينزل من السموات ، بل من سماء واحدة وهى سماء الدنيا ؟

قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة فيها سماء كما يقال : ثوب أخلاق - أى : قطع - .

والآية الكريمة مسوقة بتجهيل المشركين وتوبيخهم على كفرهم ، مع أنهم يشاهدون بأعينهم ما يدل دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، ويعلمون أن من كان كذلك ، لا يصح أن تترك عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه ، مما لا يضر ولا ينفع .

والمعنى : أو لم يشاهد الذين كفروا بأبصارهم ، ويعلموا بعقولهم ، أن السموات والأرض كانتا رتقا ، بحيث لا ينزل من السماء مطر ، و لا يخرج من الأرض نبات ، ففتق الله - تعالى - السماء بالمطر ، والأرض بالنبات .

إنهم بلا شك يشاهدون ذلك ، ويعقلونه بأفكارهم . ولكنهم لاستيلاء الجحود والعناد عليهم ، يعبدون من دونه - سبحانه - مالا ينفع من عَبَده ، ولا يضر من عصاه .

وقال - سبحانه - : { كَانَتَا } بالتثنية ، باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء ، ونوع الأرض ، كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ . . } وقوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ . . . } تأكيد لمضمون ما سبق ، وتقرير لوحدانيته ونفاذ قدرته - سبحانه - والجعل بمعنى الخلق . و { مِنَ } ابتدائية .

أى : وخلقنا من الماء بقدرتنا النافذة ، كل شىء متصف بالحياة الحقيقية وهو الحيوان ، أو كل شىء نام فيدخل النبات ، ويراد من الحياة ما يشمل النمو .

وهذا العام مخصوص بما سوى الملائكة والجن مما هو حى ، لأن الملائكة - كما جاء فى بعض الأخبار - خلقوا من النور ، والجن مخلوقون من النار .

قال - تعالى - { خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } قال القرطبى : وفى قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ثلاث تأويلات : أحدها : أنه خلق كل شىء من الماء . قاله قتادة . الثانى : حفظ حياة كل شىء بالماء : الثالث : وجعلنا من ماء الصلب - أى : النطفة - كل شىء حى . .

وقوله : { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } إنكار لعدم إيمانهم مع وضوح كل ما يدعو إلى الإيمان الحق ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه هذا الإنكار .

أى : أيشاهدون بأعينهم ما يدل على وحدانية الله وقدرته . ومع ذلك لا يؤمنون ؟ إن أمرهم هذا لمن أعجب العجب ، وأغرب الغرائب ! !

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

وعند هذا الحد من عرض الأدلة الكونية الشاهدة بالوحدة ؛ والأدلة النقلية النافية للتعدد ؛ والأدلة الوجدانية التي تلمس القلوب . . يجول السياق بالقلب البشري في مجالي الكون الضخمة ، ويد القدرة تدبره بحكمة ، وهم معرضون عن آياتها المعروضة على الأنظار والقلوب :

أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما . وجعلنا من الماء كل شيء حي ؛ أفلا يؤمنون ? وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ؛ وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون . وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر . كل في فلك يسبحون . .

إنها جولة في الكون المعروض للأنظار ، والقلوب غافلة عن آياته الكبار ، وفيها ما يحير اللب حين يتأمله بالبصيرة المفتوحة والقلب الواعي والحس اليقظ .

وتقريره أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقتا ، مسألة جديرة بالتأمل ، كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية ، فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاث مائة وألف عام .

فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية - كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر . . كانت سديما . ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت . .

ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية . تقوم اليوم وقد تنقض غدا . وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية . .

ونحن - أصحاب هذه العقيدة - لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة ، تقبل اليوم وترفض غدا . لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية . وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة . . إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية . وهي شيء آخر غير النظريات العلمية - كما بينا من قبل في الظلال - .

إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجيء ليكون علما تجريبيا كذلك . إنما هو منهج للحياة كلها . منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده . ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق . دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة . فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه .

وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا : ( أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما )ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن . وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض . أو فتق السماوات عن الأرض . ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن . ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية ، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر . وهو حقيقة مستيقنة ! وقصارى ما يقال : إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال !

فأما شطر الآية الثاني : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي )فيقرر كذلك حقيقة خطيرة . يعد العلماء كشفها وتقريرها أمرا عظيما . ويمجدون " دارون " لاهتدائه إليها ! وتقريره أن الماء هو مهد الحياة الأول .

وهي حقيقة تثير الانتباه حقا . وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا ، ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن . فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله . لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له . وأقصى ما يقال هنا كذلك : إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات .

ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلى عجائب صنع الله في الكون ، ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود : أفلا يؤمنون ? وكل ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر الحكيم ?

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

يقول تعالى منبهًا على قدرته التامة ، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء ، وقهره لجميع المخلوقات ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : الجاحدون لإلهيته العابدون{[19612]} معه غيره ، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق ، المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه ، ألم{[19613]} يروا { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا } أي : كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم ، بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ، ففتق هذه من هذه . فجعل السموات سبعًا ، والأرض{[19614]} سبعًا ، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء ، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ؛ ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } أي : وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئًا فشيئًا عيانًا ، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء :

فَفِي كُلّ شيء لَهُ آيَة *** تَدُلّ علَى أنَّه وَاحد

قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو النهار ؟ فقال : أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقًا ، هل كان بينهما إلا ظلمة ؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن أبي حمزة ، حدثنا حاتم ، عن حمزة بن أبي محمد ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ؛ أن رجلا أتاه يسأله عن السموات والأرض { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ؟ . قال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ، ثم تعال فأخبرني بما قال لك . قال : فذهب إلى ابن عباس فسأله . فقال ابن عباس : نعم ، كانت السموات رتقًا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقًا لا تنبت .

فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات . فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره ، فقال ابن عمر : الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علمًا ، صدق - هكذا كانت . قال ابن عمر : قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن قد علمت أنه قد أوتي في القرآن علمًا .

وقال عطية العَوْفي : كانت هذه رتقًا لا تمطر ، فأمطرت . وكانت هذه رتقًا لا تنبت ، فأنبتت .

وقال إسماعيل بن أبي خالد : سألت أبا صالح الحنَفِي عن قوله : { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ، قال : كانت السماء واحدة ، ففتق منها سبع سماوات ، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين .

وهكذا قال مجاهد ، وزاد : ولم تكن السماء والأرض متماستين .

وقال سعيد بن جبير : بل كانت السماء والأرض ملتزقتين ، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض ، كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه . وقال الحسن ، وقتادة ، كانتا جميعًا ، ففصل بينهما بهذا الهواء .

وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أي : أصل كل الأحياء منه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر{[19615]} ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة عن أبي ميمونة{[19616]} ، عن أبي هريرة أنه قال : يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني ، وطابت نفسي ، فأخبرني عن كل شيء ، قال : " كل شيء خلق من ماء " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة قال : قلت : يا رسول الله ، إني إذا رأيتك طابت نفسي ، وقرت عيني ، فأنبئني عن كل شيء . قال : " كل شيء خلق من ماء " قال : قلت : أنبئني عن أمر إذا عملتُ به دخلت الجنة . قال : " أفْش السلام ، وأطعم الطعام ، وصِل الأرحام ، وقم بالليل والناس نيام ، ثم ادخل الجنَّة بسلام " {[19617]} .

ورواه أيضا عبد الصمد وعفان وبَهْز ، عن همام{[19618]} . تفرد به أحمد ، وهذا إسناد على شرط الصحيحين ، إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن ، واسمه سليم ، والترمذي يصحح له . وقد رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة مرسلا والله{[19619]} أعلم .


[19612]:- في أ : "العابدين".
[19613]:- في أ : "أولم"."
[19614]:- في ف ، أ : "والأرضين".
[19615]:- في ف ، أ : "الجماهير".
[19616]:- في ف ، أ : "أبي ميمون".
[19617]:- المسند (2/295) ورواه الحاكم في المستدرك (4/129) من طريق يزيد بن هارون وصححه. ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (642) "موارد" من طريق أبي عامر العقدي عن همام به.
[19618]:- المسند (2/323 - 493) من طريق عبد الصمد ، (2/323) من طريق عفان ، (2/324) من طريق بهز. وقال الهيثمي في المجمع (5/16) : "رجاله رجال الصحيح ، خلا أبي ميمونة وهو ثقة".
[19619]:- في ف : "فالله".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } .

يقول تعالى ذكره : أو لم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم ، فيروا بها ، ويعلموا أن السموات والأرض كانتا رَتْقا : يقول : ليس فيهما ثقب ، بل كانتا ملتصقتين يقال منه : رتق فلان الفتق : إذا شدّه ، فهو يرتقه رَتْقا ورتوقا ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم : رتقاء . ووحد الرّتقْ ، وهو من صفة السماء والأرض ، وقد جاء بعد قوله : كانَتا لأنه مصدر ، مثل قول الزّور والصوم والفطر .

وقوله : فَفَتَقْناهُما يقول : فصدعناهما وفرجناهما .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السموات والأرض بالرتق ، وكيف كان الرتق ، وبأيّ معنى فتق ؟ فقال بعضهم : عَنَى بذلك أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السَمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا يقول : ملتصقتين .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رتْقا فَفَتَقْناهما . . . الاَية ، يقول : كانتا ملتصقتين ، فرفع السماء ووضع الأرض .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما كان ابن عباس يقول : كانتا ملتزقتين ، ففتقهما الله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كان الحسن وقَتادة يقولان : كانتا جميعا ، ففصل الله بينهما بهذا الهواء .

وقال آخرون : بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة ، ففتقها الله فجعلها سبع سموات . وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ، ففتقها فجعلها سبع أرضين ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى : رَتْقا فَفَتَقْناهُما من الأرض ستّ أرضين معها فتلك سبع أرضين معها ، ومن السماء ستّ سموات معها فتلك سبع سموات معها . قال : ولم تكن الأرض والسماء متماسّتين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : فتقهنّ سبع سموات بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهنّ تحت بعض .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، قال : سألت أبا صالح عن قوله : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانت الأرض رتقا والسموات رتقا ، ففتق من السماء سبع سموات ، ومن الأرض سبع أرضين .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كانت سماء واحدة ثم فتقها ، فجعلها سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سُمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض ، فذلك حين يقول : خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ في سِتّةِ أيّامٍ يقول : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما .

وقال آخرون : بل عُني بذلك أن السموات كانت رتقا لا تمطر والأرض كذلك رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانتا رتقا لا يخرج منهما شيء ، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات . قال : وهو قوله : والسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ والأرْضِ ذَاتِ الصّدْعِ .

حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا أبي ، عن الفضيل بن مرزوق ، عن عطية ، في قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانت السماء رتقا لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات وجعل من الماء كلّ شيء حيّ ، أفلا يؤمنون ؟

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أن السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانت السموات رتقا لا ينزل منها مطر ، وكانت الأرض رتقا لا يخرج منها نبات ، ففتقهما الله ، فأنزل مطر السماء ، وشقّ الأرض فأخرج نباتها . وقرأ : فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الماء كلّ شَيْءٍ حَيّ أفَلا يُؤْمِنُونَ .

وقال آخرون : إنما قيل فَفَتَقْناهُما لأن الليل كان قبل النهار ، ففتق النهار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبيه ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : خلق الليل قبل النهار . ثم قال : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْنَاهُما .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : أو لم ير الذي كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات ، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله : وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ على ذلك ، وأنه جلّ ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه .

فإن قال قائل : فإن كان ذلك كذلك ، فكيف قيل : أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ، والغيث إنما ينزل من السماء الدنيا ؟ قيل : إن ذلك مختلف فيه ، قد قال قوم : إنما ينزل من السماء السابعة ، وقال آخرون : من السماء الرابعة ، ولو كان ذلك أيضا كما ذكرت من أنه ينزل من السماء الدنيا ، لم يكن في قوله : أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ دليل على خلاف ما قلنا ، لأنه لا يمتنع أن يقال «السموات » والمراد منها واحدة فتجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وقميص أسمال .

فإن قال قائل : وكيف قيل إن السموات والأرض كانتا ، فالسموات جمع ، وحكم جمع الإناث أن يقال في قليلة كنّ ، وفي كثيره كانت ؟ قيل : إنما قيل ذلك كذلك لأنهما صنفان ، فالسموات نوع ، والأرض آخر وذلك نظير قول الأسود بن يعفر :

إنّ المَنِيّةَ والحتُوُفَ كِلاهُما *** تُوفِي المَخارِمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي

فقال : «كلاهما » ، وقد ذكر المنية والحتوف لِما وصفت من أنه عنى النوعين . وقد أُخبرت عن أبي عبيدة معمر بن المثني ، قال : أنشدني غالب النفيلي للقطامي :

ألَمْ يحْزُنْكَ أنّ حِبالَ قَيْسٍ *** وَتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انْقِطاعَا

فجعل حبال قيس وهي جمع وحبال تغلب وهي جمع اثنين .

وقوله : وَجَعَلْنا مِنَ المَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ يقول تعالى ذكره : وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كلّ شيء . كما :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَجَعَلْنا مِنَ المَاء كُلّ شَيْءٍ حَيّ قال : كلّ شيء حيّ خُلق من الماء .

فإن قال قائل : وكيف خصّ كل شيء حيّ بأنه جعل من الماء دون سائر الأشياء غيره ، فقد علمت أنه يحيا بالماء الزروع والنبات والأشجار وغير ذلك مما لا حياة له ، ولا يقال له حيّ ولا ميت ؟ قيل : لأنه لا شيء من ذلك إلا وله حياة وموت ، وإن خالف معناه في ذلك معنى ذوات الأرواح في أنه لا أرواح فيهنّ وأن في ذوات الأرواح أرواحا فلذلك قيل : وَجَعَلْنا مِنَ المَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ .

وقوله : أفَلا يُؤْمِنُون يقول : أفلا يصدّقون بذلك ، ويقرّون بألوهة من فعل ذلك ويفردونه بالعبادة ؟