{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ }
أي : إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي : ترفعه عنها وعدم رغبته فيها وإعراضه عنها ، فالأحسن في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحا بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها ، إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن ، أو القسم بأن تسقط حقها منه ، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها .
فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها ، لا عليها ولا على الزوج ، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال ، وهي خير من الفرقة ، ولهذا قال : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ }
ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه ، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح .
وهو جائز في جميع الأشياء إلا إذا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ، فإنه لا يكون صلحا وإنما يكون جورا .
واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه ، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح ، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير ، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه ، فإن كان -مع ذلك- قد أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه .
وذكر المانع بقوله : { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ ْ } أي : جبلت النفوس على الشح ، وهو : عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان ، والحرص على الحق الذي له ، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا ، أي : فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم ، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة ، وهو بذل الحق الذي عليك ؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك .
فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله ، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب . بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه ، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة ، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله ، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه ، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر .
ثم قال : { وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ْ } أي : تحسنوا في عبادة الخالق بأن يعبد العبد ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه ، وتحسنوا إلى المخلوقين بجميع طرق الإحسان ، من نفع بمال ، أو علم ، أو جاه ، أو غير ذلك . { وَتَتَّقُوا ْ } الله بفعل جميع المأمورات ، وترك جميع المحظورات . أو تحسنوا بفعل المأمور ، وتتقوا بترك المحظور { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ } قد أحاط به علما وخبرا ، بظاهره وباطنه ، فيحفظه لكم ، ويجازيكم عليه أتم الجزاء .
ثم بين - سبحانه - بعض الأحكام التى تتعلق بالزوجين ، وعالج ما يقع بينهما من خلاف ونفرة علاجا حكيما فقال - تعالى - { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصلح خَيْرٌ } .
والخوف معناه : توقع الانسان مكروها ينزل به . وهو هنا مستعمل فى حقيقته إلا أنه لا يكون إلا بعد ظهور علامات تدل عليه من الرجل . كأن يقول لها : إنك قد كبرت وأريد أن أتزوج بشابة . إلى غير ذلك من الأحوال التى تلمسها الزوجة من زوجها بمقتضى مخالطتها له .
والنشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع ويوصف به الرجل والمرأة . والمراد به هنا ما يكون من الرجل من استعلاء على زوجته . ومجافة لها بترك مضاجعتها والتقصير فى نفقتها وفى حقوقها .
والإِعراض عنها من مظاهره : التقليل من محادثتها ومؤانستها وإدخال السرور عليها . وهو وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الترمذى وحسنه عن ابن عباس فقال : " خشيت سودة بنت زمعة إحدى زوجات النبى صلى الله عليه وسلم أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله . لا تطلقنى واجعل يومى لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية " .
وأخرج الشافعى عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقنى واقسم لى ما بدالك . فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن .
وروى عن عائشة أنها قالت : نزلت فى المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول له : أمسكنى وتزوج بغيرى وأنت فى حل من النفقة والقسم .
وقوله : { وَإِنِ امرأة } فاعل لفعل واجب الإِضمار . أى : وإن خافت امرأة خافت .
وقوله : { مِن بَعْلِهَا } متعلق بخافت ، وقوله : { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } جواب الشرط .
والمعنى : وإن خافت امرأة من زوجها ( نشوزا ) أى تجافيا عنها ، وترفعها عن صحبتها { أَوْ إِعْرَاضاً } أى : انصرافا عن محادثتها ومؤانستها على خلاف ما عهدته منه قبل ذلك ، ففى هذه الأحوال { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } أى : لا حرج ولا إثم على الزوجة وزوجها فى { أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } يتفقان عليه فيما بينهما رعاية لرابطة الزوجية وإبقاء على دوامها ، وذلك بأن تترك المرأة بعض حقوقها حتى تسترضى زوجها وتعمل على إزالة ما فى نفسها من استعلاء وانصراف عنها .
وقوله { صْلِحَا } مفعول مطلق مؤكد لعامله . أو مفعول به على تأويل يصلحا بيوقعا صلحا . و { بَيْنَهُمَا } حال من { صْلِحَا } لأنه كان نعتا له ونعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا ، وفيه إشارة إلى أن الأولى لهما أن لا يطلعا الناس على ذلك . بل يكون ما يتفقان عليه سرا بينهما .
وقد عبر - سبحانه - عن طلب الصلح بقوله { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } ترفقا فى الإِيجاب ، ونفيا لما يتوهم من أن تنازل أحدهما للآخر عن بعض حقه يؤدى إلى الإِثم ، لأن الصلح بينهما يقتضى أن يتسامح أحد الزوجين فى جزء من حقه ليظفر بخير أكثر مما تسامح فيه . فإذا تركت المرأة بعض حقها لتدوم عشرتها مع زوجها بالمعروف فذلك لا إثم فيه بل إن فيه الخير .
وأكد - سبحانه - هذا الصلح بقوله { صْلِحَا } للإِشارة إلى وجوب أن يكون الصلح بينهما حقيقيا لا شكليها ، وأن يكون بحيث تتلاقى فى القلوب ، وتصفوا النفوس .
وتشع بينهما المودة والرحمة ، ويرضى كل واحد منهما بما قسم الله له .
وقوله : { والصلح خَيْرٌ } جملة معترضة من مبتدأ وخبر لتأكيد الصلح الذى حض الله عليه قبل ذلك أى : والصلح بين الزوجين خيرا من الفرقة وسوء العشرة ، اللهم إلا إذا استحال الصلح والوفاق بينهما فإنه فى هذه الحالة تكون الفرقة بينهما خيرا . { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } .
قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله { والصلح خَيْرٌ } . الظهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية كما أمسك النبى صلى الله عليه وسلم سودة على أن تركت يومها لعائشة ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه . وفعله هذا لتتأسى به أمته فى مشروعية ذلك وجوازه فهو أفضل فى حقه صلى الله عليه وسلم ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق قال : { والصلح خَيْرٌ } ، بل الطلاق بغيض إليه - سبحانه ولهذا جاء الحديث الذى رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " .
وقوله - تعالى - { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } جملة أخرى معترضة جئ بها لبيان ما جبل عليه الإِنسان من طباع ، وللحض على الصلح حتى ولو خالف ما طبعت عليه النفس من سجايا .
والفعل حضر يتعدى لواحد فدخلت عليه الهمزة فجعلت يتعدى لاثنين كما هنا . إذ المفعول الأول نائب الفاعل وهو الأنفس والمفعول الثانى كلمة الشح .
والشح : البخل مع الحرص ، والمراد : وأحضر الله الأنفس الشح . أى جبل الله النفوس على الشح بما تملكه ، فالمرأة لا تكاد تتسامع أنو تتنازل عن شئ من حقها ، والرجل كذلك لا يكاد يتنازل عن شئ من حقوقه ، لأن حرص الإِنسان على حقه طبيعة فيه . فعلى الزوجين أن يلاحظا ذلك وأن يخالفا ميولهما وطبعهما من أجل الإبقاء على الحياة الزوجية بصفاء ومودة .
فالجملة الكريمة ترشد الإِنسان إلى داء من أدوائه وتأمره بمعالجته حتى ولو أدى ذلك إلى مخالفة ما جبلت عليه نفسه .
ويرى ابن جرير أن المراد بالأنفس هنا أنفس النساء خاصة فقد قال ما ملخصه : وأولى القولين فى ذلك بالصواب : قول من قال : عنى بذلك . أحضرت أنفس النساء الشح بأنصبائهن من أزواجهن فى الأيام والنفقة . والشح . والإِفراط فى الحرص على الشئ . وهو فى هذا الموضع : إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها .
فتأويل الكلام : وأحضرت أنفس النساء أهواءهن من فرط الحرصَ على حقوقهن من أزواجهن ، والشح بذلك على ضرائرهن .
ثم قال : ويشهد لهذا ما روى فى سبب نزول الآية من أنها نزلت فى أمر رافع بن خديج وزوجته ، إذ تزوج عليها شابة ، فآثر الشابة عليها ، فأبت الكبيرة أن تقر على الأثرة ، فطلقها تطليقة وتركها .
فلما قارب انقضاء عدتها ، خيرها بين الفراق والرجعة والصبر على الأثرة . فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة فراجعها وآثر عليها . فلم تصبر . ففى ذلك دليل وضاح على أن قوله - تعالى - { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } إنما عنى به : وأحضرت أنفس النساء الشح بحقوقهن من أزواجهن على ما وصفنا .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالأمر بخشيته ومراقبته ، والسير فى طريق الصلح والوفاق فقال : { وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } .
أى : وإن تحسنوا - أيها الرجال - فى أقوالكم وأفعالكم إلى نسائكم وتتقوا الله فيهن : بأن تتركوا التعالى عليهن والإِعراض عنهن وتصبروا على مالا ترضونه منهن ، من دمامة أو تقصير فى واجباتهن . إن تفعلوا ذلك يرفع الله درجاتكم . ويجزل ثوباكم ، لأنه - سبحانه - خبير بكل أحوالكم وأعمالكم ، ولن يضيع - سبحانه - أجر من أحسن أعملا .
فالجملة الكريمة خطاب للأزواج بطريق الالتفات . لقصد استمالتهم وترغيبهم فى حسن معاملة نسائهم ، وسلوك طريق الصلح معهن .
هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : أن على الزوجين أن يحسنا العشرة الزوجية كل واحد منهما من جانبه ، وأن يصبر كل واحد منهما على ما يكون من صاحبه من هفوات ومخالفات لا تخلو منها طبيعة الحياة الزوجية . .
وأن أحد الزوجين وإذا تنازل عن بعض حقوقه للآخر بقصد الإِبقاء على الحياة الزوجية جاز ذلك ، فإذا رغب رجل - مثلا - فى طلاق زوجته لسبب من الأسباب وكانت الزوجة تريد البقاء معه ، وتنزلت المرأة عن بعض حقوقها فى سبيل من الأسباب وكانت الزوجة تريد البقاء معه ، وتنازلت المرأة عن بعض حقوقها فى سبيل أن تبقى معه وتراضيا على ذلك عن طيب خاطر ، بأن أعطته بعض المال - مثلا - فإن ما أخذه منها لا يعد مالا حراما فى مثل هذه الحالة . أما إذا تظاهر الرجل بالنشوز أو الإِعراض لكى ينال شيئا من حقوقها أو تتنازل له عن بعضها ، فإن ما يأخذه الرجل منها فى مثل هذه الحالة يكون أكلا لحقوق غيره بالباطل ، لأنه لم يكن راغبا حقيقة فى الطلاق وإنما تصنع النشوز أو الإِعراض اجتلابا لمالها ، واستدراراً لخيرها . وقد نهى الله عن كل ذلك بل أمر بترك النشوز ، ووعد من يحسن المعاشرة الزوجية ويتقى الله بالأجر الجزيل .
قال القرطبى ما ملخصخ : يجوز أن يعطى الزوج على أن تصبر . أو تعطى هى على أن يبقيها فى عصمته ، أو يقع الصلح بينهما على الصبر والأثرة - أى يؤثر غيرها عليها من غير عطاء فهذا كله مباح . وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشئ تعطيه إياها فقد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم مرة على صفية فقالت لعائشة ، أصلحى بينى وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب لك يومى .
قالت عائشة : فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إلى جانبه . فقال : " إليك عنى فإنه ليس بيومك " فقلت : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . وأخبرته الخبر ، فرضى عنها . وفيه أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلابإذن المفضولة ورضاها .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : فإن قيل : إن الله - تعالى - قال فى نشوز المرأة : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن } الآية وقال فى نشوز الرجل : { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } . الآية فجعل لنشوز المرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها فى المضجع ويضربها ولم يجعل لنشوز الرجل عقوبة من زوجته ، بل جعل له ترضية وتلطفا فما معنى ذلك ؟
والجواب عن ذلك : أن الله - تعالى - جعل الرجال قوامين على النساء ، فالرجل راعى المرأة ورئيسها المهيمن عليها . ومن قضية ذلك ألا يكون للمرءوس معاقبة رئيسه ، وإلا انقلب الأمر وضاعت هيمنة الرئيس .
وأن الله فضل الرجال على النساء فى العقل والدين . ومن قضية ذلك ألا يكون نشوز من الرجل إلا لسبب قاهر . ولكن المرأة لنقصان عقلها ودينها يكثر منها النشوز لأقل شئ تتوهمه سبباً .
وأن نشوز الرجل أمارة من أمارات الكراهة وإرادة الفرقة . وإذا كان الله قد جعل له حق الفرقة ولم يجعل للمرأة عليه سبيلا إذا هو أراد فرقتها فأولى ألا يجعل لها عليه سبيلا إذا بدت منه أمارات هذه الفرقة .
ثم نمضي خطوة أخرى مع التنظيم الاجتماعي - في محيط الأسرة - في هذا المجتمع الذي كان الإسلام ينشئه ، بمنهج الله المتنزل من الملأ الأعلى ، لا بعوامل التغير الأرضية في عالم المادة أو دنيا الإنتاج :
( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا . والصلح خير . وأحضرت الأنفس الشح . وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا . ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل ، فتذروها كالمعلقة . وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما . وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . وكان الله واسعا حكيما ) .
لقد نظم المنهج - من قبل - حالة النشوز من ناحية الزوجة ؛ والإجراءات التي تتخذ للمحافظة على كيان الأسرة [ وذلك في أوائل هذا الجزء ] فالآن ينظم حالة النشوز والإعراض حين يخشى وقوعها من ناحية الزوج ، فتهدد أمن المرآة وكرامتها ، وأمن الأسرة كلها كذلك . إن القلوب تتقلب ، وإن المشاعر تتغير . والإسلام منهج حياة يعالج كل جزئية فيها ، ويتعرض لكل ما يعرض لها ؛ في نطاق مبادئه واتجاهاته ؛ وتصميم المجتمع الذي يرسمه وينشئه وفق هذا التصميم .
فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة ؛ وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق - وهو أبغض الحلال إلى الله - أو إلى الإعراض ، الذي يتركها كالمعلقة . لا هي زوجة ولا هي مطلقة ، فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها ، أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية أو فرائضها الحيوية . كأن تترك له جزءا أو كلا من نفقتها الواجبة عليه . أو أن تترك له قسمتها وليلتها ، إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها ، وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها . . هذا كله إذا رأت هي - بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها - أن ذلك خير لها وأكرم من طلاقها :
( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ) . . هو هذا الصلح الذي أشرنا إليه . .
ثم يعقب على الحكم بأن الصلح إطلاقا خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق :
فينسم على القلوب التي دبت فيها الجفوة والجفاف ، نسمة من الندى والإيناس ، والرغبة في إبقاء الصلة الزوجية ، والرابطة العائلية .
إن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بواقعها كله . فهو يحاول - بكل وسائله المؤثرة - أن يرفع هذه النفس إلى أعلى مستوى تهيئها له طبيعتها وفطرتها . . ولكنه في الوقت ذاته لا يتجاهل حدود هذه الطبيعة والفطرة ؛ ولا يحاول أن يقسرها على ما ليس في طاقتها ؛ ولا يقول للناس : اضربوا رؤوسكم في الحائط فأنا أريد منكم كذا والسلام ! سواء كنتم تستطيعونه أو لا تستطيعونه !
إنه لا يهتف للنفس البشرية لتبقى على ضعفها وقصورها ؛ ولا ينشد لها أناشيد التمجيد وهي تتلبط في الوحل ، وتتمرغ في الطين - بحجة أن هذا واقع هذه النفس ! ولكنه كذلك لا يعلقها من رقبتها في حبل بالملأ الأعلى ، ويدعها تتأرجح في الهواء ؛ لأن قدميها غير مستقرتين على الأرض . بحجة الرفعة والتسامي !
إنه الوسط . . إنه الفطرة . . إنه المثالية الواقعية . أو الواقعية المثالية . . إنه يتعامل مع الإنسان ، بما هو إنسان . والإنسان مخلوق عجيب . هو وحده الذي يضع قدميه على الأرض ؛ وينطلق بروحه إلى السماء . في لحظة واحدة لا تفارق فيها روحه جسده ؛ ولا ينفصل إلى جسد على الأرض وروح في السماء !
وهو هنا - في هذا الحكم - يتعامل مع هذا الإنسان . وينص على خصيصة من خصائصه في هذا المجال : ( وأحضرت الأنفس الشح ) .
أي أن الشح حاضر دائمًا في الأنفس . وهو دائما قائم فيها . الشح بأنواعه . الشح بالمال . والشح بالمشاعر . وقد تترسب في حياة الزوجين - أو تعرض - أسباب تستثير هذا الشح في نفس الزوج تجاه زوجته . فيكون تنازلها له عن شيء من مؤخر صداقها أو من نفقتها - إرضاء لهذا الشح بالمال ، تستبقي معه عقدة النكاح ! وقد يكون تنازلها عن ليلتها - إن كانت له زوجة أخرى أثيرة لديه - والأولى لم تعد فيها حيوية أو جاذبية إرضاء لهذا الشح بالمشاعر ، تستبقي معه عقدة النكاح ! والأمر على كل حال متروك في هذا للزوجة وتقديرها لما تراه مصلحة لها . . لا يلزمها المنهج الرباني بشيء ؛ ولكنه فقط يجيز لها التصرف ، ويمنحها حرية النظر والتدبر في أمرها وفق ما تراه .
وفي الوقت الذي يتعامل المنهج الإسلامي مع طبيعة الشح هذه ، لا يقف عندها باعتبارها كل جوانب النفس البشرية . بل هو يهتف لها هتافا آخر ، ويعزف لها نغمة أخرى :
وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا .
فالإحسان والتقوى هما مناط الأمر في النهاية . ولن يضيع منهما شيء على صاحبة ، فإن الله خبير بما تعمله كل نفس ؛ خبير ببواعثه وكوامنه . . والهتاف للنفس المؤمنة بالإحسان والتقوى ، والنداء لها باسم الله الخبير بما تعمل ، هتاف مؤثر ، ونداء مستجاب . . بل هو وحده الهتاف المؤثر والنداء المستجاب .
- السيوطي: أخرج مالك عن رافع بن خديج أنه كانت تحته امرأة قد خلا من سنها، فتزوج عليها شابة فآثرها عليها، فأبت الأولى أن تقر، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة، وإن شئت تركتك؟ قالت: بل راجعني، فراجعها فلم تصبر على الأثرة، فطلقها أخرى وآثر عليها الشابة، فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه: {وإن امرأة خافت...}...
إذا خافت المرأة نشوز بعلها لا بأس عليها أن يصالحا، ونشوز البعل عنها بكراهيته لها، فأباح الله تعالى له حبسها على الكره لها، فلها وله أن يصالحا، وفي ذلك دليل على أن صلحها إياه بترك بعض حقها له...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها}: علمت من زوجها {نُشُوزا}: استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها، أَثَرَة عليها، وارتفاعا بها عنها، إما لبغضة، وإما لكراهة منه بعض أشياء بها، إما دمامتها، وإما سنها وكِبَرها، أو غير ذلك من أمورها.
{أوْ إعْرَاضا}: انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه، التي كانت لها منه. {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا} يقول فلا حرج عليهما، يعني: على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضَه عنها، أن يصلحا بينهما صلحا، وهو أن تترك له يومها، أو تضع عنه بعض الواجب لها من حقّ عليه، تستعطفه بذلك، وتستديم المُقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح. يقول: {والصّلْحُ خَيْرٌ} يعني: والصلح بترك بعض الحقّ استدامة للحرمة، وتماسكا بعقد النكاح، خير من طلب الفرقة والطلاق...
واختلفت القراء في قراءة قوله: «أنْ يَصّالَحا بَيْنَهُما صُلْحا» فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة بفتح الياء وتشديد الصاد، بمعنى: أن يتصالحا بينهما صلحا، ثم أدغمت التاء في الصاد فصيرتا صادا مشددة. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: {أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا} بضم الياء وتخفيف الصاد، بمعنى: اصلح الزوج والمرأة بينهما. وأعجب القراءتين في ذلك إليّ، قراءة من قرأ: «إلاّ أنْ يَصّالَحا بَيْنَهُما صُلْحا». بفتح الياء وتشديد الصاد، بمعنى: يتصالحا، لأن التصالح في هذا الموضع أشهر وأوضح معنى وأفصح وأكثر على ألسن العرب من الإصلاح، والإصلاح في خلاف الإفساد أشهر منه في معنى التصالح. فإن ظنّ ظانّ أن في قوله: {صُلْحا} دلالة على أن قراءة من قرأ ذلك: {يُصْلِحا} بضمّ الياء أولى بالصواب، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ، وذلك أن الصلح اسم وليس بفعل فيتسدلّ به على أولى القراءتين بالصواب في قوله: {يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا}.
{وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ وإنْ تُحْسِنُوا وَتَتّقُوا فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: وأحضرت أنفس النساء الشحّ على أنصبائهن من أنفس أزواجهن وأموالهن.
وقال آخرون: معنى ذلك: وأحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة الشحّ بحقه قبَل صاحبه. لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحلله، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها، فتعطفه عليها.
وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عني بذلك: أحضرت أنفس النساء الشحّ بأنصبائهن من أزواجهن في الأيام والنفقة. والشحّ: الإفراط في الحرص على الشيء، وهو في هذا الموضع: إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها.
فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءهن من فرط الحرص على حقوقهنّ من أزواجهنّ، والشحّ بذلك على ضرائرهن.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من قول من قال: عني بذلك: وأحضرت أنفس الرجال والنساء الشحّ، على ما قاله ابن زيد، لأن مصالحة الرجل امرأته بإعطائه إياها من ماله جعلاً على أن تصفح له عن القسم لها غير جائزة، وذلك أنه غير معتاض عوضا من جعله الذي بذله لها، والجعل لا يصحّ إلا على عوض: إما عين، وإما منفعة. والرجل متى جَعَل للمرأة جُعْلاً على أن تصفح له عن يومها وليلتها فلم يملك عليها عينا ولا منفعة. وإذا كان ذلك كذلك، كان ذلك من معاني أكل المال بالباطل. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لا وجه لقول من قال: عني بذلك: الرجل والمرأة.
{وَإنْ تُحْسِنُوا وَتَتّقُوا}: وإن تحسنوا أيها الرجال في أفعالكم إلى نسائكم إذا كرهتم منهنّ دمامة أو خُلُقا، أو بعض ما تكرهون منهنّ بالصبر عليهنّ، وإيفائهنّ حقوقهنّ، وعشرتهنّ بالمعروف. {وتَتّقُوا}: وتتقوا الله فيهنّ بترك الجور منكم عليهنّ فيما يجب لمن كرهتموه منهنّ عليكم من القسمة له والنفقة والعشرة بالمعروف. {فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}: فإن الله كان بما تعلمون في أمور نسائكم أيها الرجال من الإحسان إليهنّ، والعشرة بالمعروف، والجور عليهنّ فيما يلزمكم لهنّ ويجب {خَبِيرا} يعني عالما خابرا، لا يخفي عليه منه شيء، بل هو به عالم، وله محص عليكم، حتى يوفيكم جزاء ذلك المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا} يحتمل أن يكون رفع الحرج عن الزوج خاصة، وإن كان مضاف إليهما؛ إذ ليس للمرأة في ترك حقها حرج، وكذلك قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (البقرة: 229) ليس على المرأة جناح في الافتداء لأنها تفتدي بمالها. ولها أن تملك على مالها من شاءت، فكأنه قال عز وجل: فلا جناح عليه في أخذ ما افتدت أو في إبطال حقها، إن رضيت...
وقوله تعالى: {وإن تحسنوا وتتقوا} في أن تعطوهن أكثر من حقهن {وتتقوا} في ألا تبخسوا من حقهن شيئا. ويحتمل: {وإن تحسنوا} في إيفاء حقهن والتسوية بينهن، {وتتقوا} الجور والميل وتفضيل بعض على بعض. ويحتمل: {وإن تحسنوا} في اتباع ما أمركم الله من طاعته {وتتقوا} عما نهاكم من معاصيه...
هذه الآية دالّة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة، وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
من الأوجه التي يجوز فيها الصلح: الخلع، وهو الافتداء، وذلك إذا خافت المرأة أن يبغضها زوجها فلا يوفيها حقها، فلها أن تفتدي منه ويطلقها بتراضيهما، ولا إثم عليه فيما أخذ منها...
{والصلح خير} عام في كل صلح، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا،... فإذ لا شك في هذا فلا يكون صلح يجوز إمضاؤه، إلا صلحا شهد القرآن أو السنة بجوازه...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{والصلح خير} من النشوز والإعراض أي إن يتصالحا على شيء خير من أن يقيما على النشوز والكراهة بينهما... {وأحضرت الأنفس الشح} أي شحت المرأة بنصيبها من زوجها وشح الرجل على المرأة بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه منها {وإن تحسنوا} العشرة والصحبة {وتتقوا} الجور والميل {فإن الله كان بما تعملون خبيرا} لا يضيع عنده شيء...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«النشوز»: الارتفاع بالنفس عن رتبة حسن العشرة، و «الإعراض»: أخف من النشوز...
وقوله تعالى {والصلح خير} لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق... وقوله تعالى: {وإن تحسنوا} ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة وحمل خلق الزوجة والصبر على ما يكره من حالها. وتمكن الندب إلى الإحسان من حيث للزوج أن يشح فلا يحسن {وتتقوا} معناه: تتقوا الله في وصيته بالنساء، إذ هن عوان عند الأزواج حسبما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم»...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما صاروا يعطفون اليتامى أموالهم، وصاروا يتزوجون ذوات الأموال منهن ويضاجرون بعضهن؛ عقب ذلك تعالى بالإفتاء في أحوال المشاققة بين الأزواج فقال: {وإن امرأة} أي واحدة أو على ضرائر. ولما كان ظن المكروه مخوفاً قال: {خافت}... {صلحاً} بأن تلين هي بترك بعض المهر أو بعض القسم أو نحو ذلك، وأن يلين لها هو بإحسان العشرة في مقابلة ذلك...
{وإن تحسنوا} أي توقعوا الإحسان بالإقامة على نكاحكم وما ندبتم إليه من حسن العشرة وإن كنتم كارهين {وتتقوا} أي توقعوا التقوى بمجانبة كل ما يؤذي نوع أذى إشارة إلى أن الشحيح لا محسن ولا متق...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَإِنِ امرأة خافت} شروعٌ في بيان ما لم يُبيَّن فيما سلف من الأحكام...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
لا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا} الخوف توقع ما يكره بوقوع بعض أسبابه أو ظهور بعض أماراته،... بأن ثبت لها ذلك وتحقق ولم يكن وهما مجردا، أو وسواسا عارضا، يدل على ذلك جعل فعل الخوف المذكور، مفسرا لفعل محذوف، للاحتراس من بناء الحكم على أساس الوسوسة التي تكثر عند النساء وهو من إيجاز القرآن البديع وذلك أن المرأة إذا رأت زوجها مشغولا بأكبر العظائم المالية أو السياسية أو حل أعوص المسائل العلمية، أو بغير ذلك من المشاكل الدنيوية أو المهمات الدينية، لا تعد ذلك عذرا يبيح له الإعراض عن مسامرتها أو منادمتها، أو الرغبة عن مناغاتها ومباعلتها، والواجب عليها أن تتبين وتتثبت فيما تراه من أمارات النشوز والإعراض، فإذا ظهر لها أن ذلك لسبب خارجي لا لكراهتها والرغبة عن معاشرتها بالمعروف فعليها أن تعذر الرجل وتصبر على ما لا تحب من ذلك، وإن ظهر لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها. {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا}... وإنما يحل للرجل ما تعطيه من حقها إذا كان برضاها لاعتقادها أنه خير لها من غير أن يكون ملجئا إياها إليه بما لا يحل له من ظلمها أو إهانتها... [إذ] المقصد هو التراضي والمعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}... يؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح...
بقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ ْ} أي: جبلت النفوس على الشح... أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك. فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد نظم المنهج -من قبل- حالة النشوز من ناحية الزوجة؛ والإجراءات التي تتخذ للمحافظة على كيان الأسرة [وذلك في أوائل هذا الجزء] فالآن ينظم حالة النشوز والإعراض حين يخشى وقوعها من ناحية الزوج، فتهدد أمن المرآة وكرامتها، وأمن الأسرة كلها كذلك. إن القلوب تتقلب، وإن المشاعر تتغير. والإسلام منهج حياة يعالج كل جزئية فيها، ويتعرض لكل ما يعرض لها؛ في نطاق مبادئه واتجاهاته؛ وتصميم المجتمع الذي يرسمه وينشئه وفق هذا التصميم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف لبقية إفتاء الله تعالى. وهذا حكم اختلال المعاشرة بين الزوجين، وقد تقدّم بعضه في قوله: {واللاتي تخافون نشوزهنّ} [النساء: 34] الآية، في هذه السورة، فذلك حكم فصْل القضاء بينهما، وما هنا حكم الانفصال بالصلح بينهما،... وصيغة {فلا جناح} من صيغ الإباحة ظاهراً، فدلّ ذلك على الإذن للزوجين في صلح يقع بينهما. وقد علم أنّ الإباحة لا تذكر إلاّ حيث يظنّ المنع،... ويحتمل أن تكون صيغة {لا جناح} مستعملة في التحريض على الصلح، أي إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة، فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية؛ شبّه حال من ترك الصلح واستمرّ على النشوز والإعراض بحال من ترك الصلح عن عمد لظنّه أنّ في الصلح جناحاً. فالمراد الصلح بمعنى إصلاح ذات البين، والأشهر فيه أن يقال الإصلاح. والمقصود الأمر بأسباب الصلح، وهي: الإغضاء عن الهفوات، ومقابلة الغلظة باللين، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله: {وإن يتفرّقا يغن الله كلاّ من سعته}...
والتعريف في قوله: {والصلح خير} تعريف الجنس وليس تعريف العهد، لأنّ المقصود إثبات أنّ ماهية الصلح خير للناس، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه، وليس المقصود أنّ الصلح المذكورَ آنفاً، وهو الخلع، خير من النزاع بين الزوجين، لأنّ هذا، وإنّ صحّ معناه، ألاّ أنّ فائدة الوجه الأوّل أوفر، ولأنّ فيه التفادي عن إشكال تفضيل الصلح على النزاع في الخيرية مع أنّ النزاع لا خير فيه أصلاً...
{وأحضرت الأنفس الشحّ}... هذا التعقيب تنفيراً من العوارض المانعة من السماحة والصلح، ولذلك ذيّل بقوله: {وإن تحسنوا وتتّقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً} لما فيه من الترغيب في الإحسان والتقوى...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الواجب الديني على المرأة والرجل أن يعملا بأنفسهما على إصلاح ما بينهما فتتطامن المرأة للعاصفة ويقرب الرجل امرأته إليه، ويترك شماسه وإعراضه ويتطامن لأهله، ويعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، وإن التطامن من الرجل لزوجه لتكون العشرة على مودة ورحمة هو عين العزة فالكريم لا يذل أهله والذليل هو الذي يهين أهله، وقد لوحظ في التعبير أمور ثلاثة. أولها: أنه عبر عن طلب الصلح بقوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما} وذلك ترفق في الإيجاب، فعبر عنه بنفي الإثم لكيلا يتوهم أحدهما أن في التساهل عن بعض حقه إثما. والصلح يقتضي أن يتسامح أحد الفريقين في جزء من حقه، لينال خيرا أكثر مما تسامح فيه، فإذا تركت المرأة بعض حقها لتدوم العشرة بالمعروف فذلك لا إثم فيه. بل فيه الخير. ثانيها: أنه أكد الصلح بقوله "صلحا "للإشارة إلى أن الصلح في هذا المقام لا يكون صلحا ظاهرا، بل يكون نفسيا بحيث تتلاقى القلوب وتصفو النفوس، ويحل الوئام محل الخصام، فليس الصلح في هذه الحال إنهاء لمشكلة فقط، بل هو تلاقي القلوب على المودة والرحمة. ثالثها: أن الله تعالى أكد الصلح بقوله تعالى أولا "والصلح خير "أي أنه في ذاته خير يعم الطرفين من تسامح يناله من الخير بمقدار ما تسامح أو بأضعاف ما تسامح، فهو قد أعطى ليأخذ وتساهل لتلزم ولتدوم نعمة الزوجية...
ورتب الحق الحكم على مجرد الخوف من النشوز لا حدوث النشوز بالفعل، وهذه لفتة لكل منا ألا يترك المسائل حتى تقع، بل عليه أن يتلافى أسبابها قبل أن تقع، لأنها إن وقعت ربما استعصى عليه تداركها وإن رأت المرأة بعضا من ملامح نشوز الزوج فعليها أن تعالج الأمر...
"فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا "والصلح هنا مهمة الاثنين معا، لأن كل مشكلة لا تتعدى الرجل والمرأة يكون حلها يسيرا، والذي يجعل المشكلات صعبة هم هؤلاء الذين يتدخلون في العلاقة بين الرجل والمرأة وليس بينهما ما يبن الرجل والمرأة والرجل قد يختلف مع المرأة ويخرج من المنزل ويهدأ ويعود، فتقول له الزوجة كلمة تنهي الخلاف لكن إن تدخل أحد الأقارب فالمشكلة قد تتعقد من تدخل من لا يملك سببا أو دفعا لحل المشكلة...
وبعد ذلك يتابع الحق: "وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا" يوضح لنا سبحانه: أنا خالقكم وأعلم طبائعكم وسجاياكم وأعلم أنني عندما أطلب من المرأة أن تتنازل عن شيء من نفقتها كمهرها أو هدية الخطبة الأولى (الشبكة)، أو أن تتنازل له عن ليلتها لينام عند الزوجة الأخرى. وأعلم أن هذا قد يصعب على النفس، وكذلك يصعب على الرجل أن يتنازل عن مقاييسه إياكم أن يستولي الشح على تصرفاتكم بالنسبة لبعضكم البعض،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
يمكننا أن نفهم أن التنازل الذي يراد من الزوجة تقديمه ليس في مقابل إقناع الزوج بالقيام بحقها الشرعي الذي فرضه الله عليه؛ فإن ذلك أمر واجب لا يتحدث القرآن عن الدخول في مفاوضات الصلح من أجله، لأن الانحراف عنه غير شرعي، بل هو في مقابل تنازل الزوج عن حقه في الطلاق، الأمر الذي يجعل الدعوة إلى الصلح، دعوةً إلى بناء الحياة الزوجية على أساس التراضي والوفاق، في الحالات التي تتحرك الظروف في اتجاه تهديمها وإزالتها من حياة الطرفين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد قلنا سابقاً في هامش الآيتين (34 و35) من نفس سورة النساء إِنّ كلمة «نشوز» مشتقة من المصدر «نشز» بمعنى «الأرض المرتفعة» وحين تستخدم هذه العبارة في شأن الرجل والمرأة تعني ذلك «التكبر» و«الطغيان».
وقد بيّنت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة، وفي هذه الآية إِشارة لنشوز الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إِذا أحست من زوجها التكبر والإِعراض عنها، وتبيّن أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها، وتتصالح مع زوجها، من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع، فتقول: (وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً).
ولمّا كانت المرأة تتنازل عن بعض حقوقها طوعاً وعن طيب خاطر ومن غير إِكراه فلا ذنب في هذا العمل، حيث عبّرت الآية عن ذلك بعبارة «فلا جناح» أي لا ذنب، للدلالة على الحقيقة المذكورة.
وعند النظر إِلى سبب نزول الآية، نستخلص منها مسألتين فقهيتين:
الأُولى: إِنّ حكماً مثل تقسيم أيّام الأُسبوع بين الزوجات، له طابع الحق أكثر من طابع الحكم، ولذلك فبإِمكان المرأة التخلي عن هذا الحق بشكل تام إِذا شاءت أو بصورة جزيئة.
والمسألة الثّانية: إِنّ التراضي والتصالح لا يشترط أن يكون بالمال، بل يصح أن يكون بالتنازل عن حق من الحقوق.
بعد ذلك تؤكد الآية على أنّ الصلح خير وأحسن، حيث تقول: (والصلح خير) وهذه الجملة الصغيرة مع أنّها جاءت في مجال الخلافات العائلية، لكنها تبيّن قانوناً كلياً عاماً شاملا، وتؤكد أنّ الصلح هو المبدأ الأوّل في كل المجالات، وأنّ الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإِنسانية السليمة، ولذلك فلا تسوغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إِلاّ في الحالات الاستثنائية الطارئة.
وهذا الأمر على عكس ما يصوّره الماديون من أنّ الصراع من أجل البقاء هو الأصل في حياة الموجودات الحيّة، ويزعمون أن التكامل يحصل من خلال هذا الصراع.
وقد كان هذا النوع من التفكير سبباً في بروز الكثير من النزاعات الدّموية والحروب في القرون الأخيرة، لكن الإِنسان لا يقاس بالحيوانات الأخرى المفترسة بسبب ما يملكه من عقل وإِحساس، وإِنّ تكامله يتمّ في ظل التعاون وليس في ظل النزاع، ومن حيث المبدأ فإِن الصراع من أجل البقاء حتى في الحيوانات لا يعتبر مبدأ مقبولا للتكامل.
وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إِلى أنّ الإِنسان بسبب غريزة حبّ الذات التي يمتلكها تحيط به أمواج البخل، بحيث أنّ كل إِنسان يسعى إِلى نيل حقوقه دون التنازل عن أقل شيء منها، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع، تقول الآية: (وأحضرت الأنفس الشح).
ولذلك فلو أحسّ كلّ من الزوجين بأنّ البخل هو منبع الكثير من الخلاف وأدركوا حقيقة البخل وأنّه من الصفات القبيحة، وسعوا لإِصلاح ذات بينهم وأبدوا العفو والصفح، فسوف لا يؤدي هذا إِلى زوال الخلاف والنزاع العائلي فحسب، بل سيؤدي أيضاً إِلى إِنهاء الكثير من الصراعات الاجتماعية.
ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم الوارد في الآية، وجه الخطاب إِليهم في نهايتها ودعوا إِلى فعل الخير والتزام التقوى، ونبهوا إِلى أنّ الله يراقب أعمالهم دائماً فليحذروا الانحراف عن جادة الحق والصواب، تقول الآية في هذا المجال: (وإِن تحسنوا وتتقوا فإِن الله كان بما تعملون خبيراً).