ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم ، إكراما له وتعظيما ، وعبودية لله تعالى ، فامتثلوا أمر الله ، وبادروا كلهم بالسجود ، { إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى } امتنع عن السجود ، واستكبر عن أمر الله وعلى آدم ، قال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } وهذا الإباء منه والاستكبار نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه ، فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره .
وفي هذه الآيات من العبر والآيات ، إثبات الكلام لله تعالى ، وأنه لم يزل متكلما ، يقول ما شاء ، ويتكلم بما شاء ، وأنه عليم حكيم ، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه التسليم ، واتهام عقله ، والإقرار لله بالحكمة ، وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة ، وإحسانه بهم ، بتعليمهم ما جهلوا ، وتنبيههم على ما لم يعلموه .
منها : أن الله تعرف لملائكته ، بعلمه وحكمته ، ومنها : أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم ، وأنه أفضل صفة تكون في العبد ، ومنها : أن الله أمرهم بالسجود لآدم ، إكراما له ، لما بان فضل علمه ، ومنها : أن الامتحان للغير ، إذا عجزوا عما امتحنوا به ، ثم عرفه صاحب الفضيلة ، فهو أكمل مما عرفه ابتداء ، ومنها : الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن ، وبيان فضل آدم ، وأفضال الله عليه ، وعداوة إبليس له ، إلى غير ذلك من العبر .
وبعد أن بين القرآن في الآيات السابقة بعض الكرامات التي خص الله بها آدم ، انتقل إلى بيان كرامة أخرى أكرم الله بها آدم - عليه السلام - وهي أمره للملائكة بالسجود له ، ثم بيان ما حصل بينه وبين إبليس ، فقال - تعالى - :
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر . . . }
قوله - تعالى - : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ . . . } إلخ ، معطوف على قوله - تعالى قبل ذلك { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ . . . . } إلخ ، من باب عطف القصة على القصة ، وإعادة ( إذ ) بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه ، تنبيه على أن الجملة مقصودة بذاتها ، لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام .
والسجود : لغة التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره ، وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة .
وللعلماء في كيفية السجود الذي أمر به الملائكة لآدم أقوال : أرجحها أن السجود المأمور به في الآية يحمل على المعنى المعروف في اللغة ، أي : أن الله - تعالى - أمرهم بفعل تجاه آدم يكون مظهراً من مظاهر التواضع والخضوع له تحية وتعظيماً ، وإقراراً له بالفضل دون وضع الجبهة على الأرض الذي هو عبادة ، إذ عبادة غير الله شرك يتنزه الملائكة عنه .
وعلى هذا الرأي سار علماء أهل السنة . وقيل : إن السجود كان لله ، وآدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون تحية له ، وإلى هذا الرأي اتجه علماء المعتزلة ، وقد قالوا ذلك هرباً من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ، فإن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة ، والصالحون من البشر أفضل من الملائكة ، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم ، وخالفت المعتزلة في ذلك ، وقالت : الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة .
والذي نراه أن ما سار عليه أهل السنة أرجح ، لأن ما ذهب إليه المعتزلة يبعده أن المقام مقام لإِظهار فضل آدم هو لون من الابتلاء والاختبار ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وينفذ ما سبق به العلم ، واقتضته المشيئة والحكمة :
ثم بين - سبحانه - ما حدث من الملائكة ومن إبليس فقال :
{ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين } .
إبليس : اسم مشتق من الإِبلاس ، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس ، وفعله أبلس ، والراجح أنه اسم أعجمي ، ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة وهو كائن حي ، وقد أخطأ من حمله على معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس ، إذ ليس من المعقول أن يكون كذلك معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس ، إذ ليس من المعقول أن يكون كذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه . قال - تعالى - { يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } وقوله : { أبى واستكبر } الإِباء : الامتناع عن الفعل أنفة مع التمكن منه . والاستكبار : التكبر والتعاظم والغرور ، بمعنى أن يرى الشخص في نفسه علواً على غيره ، وهو خلق مذموم .
وكان في قوله : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } بمعنى صار .
وجاء العطف في قوله { فَسَجَدُواْ . . . } بالفاء المفيدة للتعقيب ، للإشارة إلى أن الملائكة قد بادروا بالامتثال بدون تردد ، ولم يصدهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق ، مظهر فساد وسفك دماء ، لأنهم منزهون عن المعاصي .
وللعلماء في كون إبليس من الملائكة أم لا قولان :
أحدهما : أنه كان منهم لأنه - سبحانه - أمرهم بالسجود لآدم ، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود ، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصياً ، ولما استحق الخزي والنكال .
ولأن الأصل في المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه . وقد اختار هذا الرأي ابن عباس ، وابن مسعود وجمهور المفسرين .
وقيل إنه ليس منهم لقوله - تعالى - { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإِنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة . وقد اختار هذا القول الحسن وقتادة وغيرهما .
وقد حاول ابن القيم أن يجمع بين الرأيين فقال : والصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد ، فإن إبليس كان من الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله . كان من نار وأصل الملائكة من نور ، فالنافي كونه من الملائكة . والمثبت لم يتواردا على محل واحد .
ولما كان استثناء إبليس من الساجدين لا يدل على أنه ترك السجود عصياناً ، إذ قد يكون تركه لعذر ، دل بقول : { أبى واستكبر } على أنه امتنع من السجود أنفة ، وتعاظماً ، وأردف هذا التعاظم والغرور باعتراضه على الله - في تفصيل آدم ، فصار بذلك في فريق الكافرين ، ولذا ختمت الآية بقوله - تعالى - : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } أي : صار بسبب عصيانه واستكباره من الكافرين بالله ، الجاحدين لنعمه ، البعيدين عن رحمته ورضوانه .
( وإذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم . فسجدوا ) . .
إنه التكريم في أعلى صوره ، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة . لقد وهب سر المعرفة ، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق . . إن ازدواج طبيعته ، وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه ، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة . . إن هذا كله بعض أسرار تكريمه .
ولقد سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي الجليل .
( إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ) . .
وهنا تتبدى خليقة الشر مجسمة : عصيان الجليل سبحانه ! والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله . والعزة بالإثم . والاستغلاق عن الفهم .
ويوحي السياق أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة ، إنما كان معهم . فلو كان منهم ما عصى . وصفتهم الأولى أنهم ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) . . والاستثناء هنا لا يدل على أنه من جنسهم ، فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء ، كما تقول : جاء بنو فلان إلا أحمد . وليس منهم إنما هو عشيرهم وإبليس من الجن بنص القرآن ، والله خلق الجان من مارج من نار . وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة .
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
قال أبو جعفر : أما قوله : وإذْ قُلْنَا فمعطوف على قوله : وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْمَلاَئِكَةِ كأنه قال جل ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل معدّدا عليهم نعمه ، ومذكرهم آلاءه على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل : اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم ، فخلقت لكم ما في الأرض جميعا ، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، فكرّمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي ، وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له . ثم استثنى من جميعهم إبليس ، فدل باستثنائه إياه منهم على أنه منهم ، وأنه ممن قد أُمِرَ بالسجود معهم ، كما قال جل ثناؤه : إلاّ إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ قالَ مَا مَنَعَكَ أنْ لاَ تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمره من الملائكة بالسجود لاَدم . ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لاَدم ، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره ونَفَى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم .
ثم اختلف أهل التأويل فيه هل هو من الملائكة أم هو من غيرهم ؟ فقال بعضهم بما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة ، يقال لهم «الجنّ » ، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة . قال : فكان اسمه الحارث . قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحيّ . قال : وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد ، عن عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض وكان من أشدّ الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حيّ يسمون جنّا .
وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد ، عن عطاء ، عن طاوس ، أو مجاهد أبي الحجاج ، عن ابن عباس وغيره بنحوه ، إلا أنه قال : كان ملكا من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض وعمّارها ، وكان سكان الأرض فيهم يسمون الجنّ من بين الملائكة .
وحدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : جعل إبليس على ملك سماء الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ ، وإنما سموا الجن لأنهم خزّان الجنة ، وكان إبليس مع ملكه خازنا .
وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا حسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان سماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض . قال : قال ابن عباس : وقوله : كانَ منَ الجنّ ، إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنا عليها ، كما يقال للرجل : مكي ، ومدني ، وكوفي ، وبصري . قال ابن جريج : وقال آخرون : هم سبط من الملائكة قبيلة ، فكان اسم قبيلته الجن .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلة من الجن ، وكان إبليس منها ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض .
وحدثت عن الحسن بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، يقول في قوله : فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ قال : كان ابن عباس يقول : إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، ثم ذكر مثل حديث ابن جريج الأول سواء .
وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثني شيبان ، قال : حدثنا سلام بن مسكين ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان إبْلِيس رئيس ملائكة سماء الدنيا .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذْ قُلْنا للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنّ كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن . وكان ابن عباس يقول : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود ، وكان على خزانة سماء الدنيا . قال : وكان قتادة يقول : جنّ عن طاعة ربه .
وحدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ قال : كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : أما العرب فيقولون : ما الجنّ إلا كلّ من اجتنّ فلم ير . وأما قوله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ أي كان من الملائكة ، وذلك أن الملائكة اجتنّوا فلم يروا ، وقد قال الله جل ثناؤه : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنةِ نَسَبا وَلَقدْ علمتِ الجنّةُ أنهم لَمُحْضَرُونَ وذلك لقول قريش : إن الملائكة بنات الله . فيقول الله : إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها ، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذرّيته نسبا . قال : وقد قال الأعشى ، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري ، وهو يذكر سليمان بن داود وما أعطاه الله :
وَلَوْ كانَ شَيْء خالِدا أوْ مُعَمّرا لَكانَ سُلَيْمَانُ البَرِيّ مِنَ الدّهْرِ
بَرَاهُ إلهي واصْطَفَاهُ عبادَهُ وَمَلّكَهُ مَا بَيْنَ ثُرْيَا إلى مِصْرِ
وَسَخّرَ مِنْ جِنّ المَلائِكِ تِسْعَةً *** قِياما لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أجْرِ
قال : فأبت العرب في لغتها إلا أن «الجنّ » كل ما اجتنّ . يقول : ما سمى الله الجن إلا أنهم اجتنوا فلم يُرَوْا ، وما سمى بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنّوا ، فما ظهر فهو إنس ، وما اجتنّ فلم يُرَ فهو جنّ . وقال آخرون بما :
حدثنا به محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول في قوله : إلا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ إلجاءٌ إلى نسبه ، فقال الله : أفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي الآية . . . وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو سعيد اليحمدي ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا سوار بن الجعد اليحمدي ، عن شهر بن حوشب قوله : مِنَ الجِنّ قال : كان إبليس من الجنّ الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء .
وحدثني عليّ بن الحسين ، قال : حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال ، قال : حدثني سنيد بن داود ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن موسى بن نمير ، وعثمان بن سعيد بن كامل ، عن سعد بن مسعود ، قال : كانت الملائكة تقاتل الجنّ ، فسُبي إبليس وكان صغيرا ، فكان مع الملائكة فتعبّد معها . فلما أمروا بالسجود لاَدم سجدوا ، فأبى إبليس فلذلك قال الله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر ، عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلاً يقال لهم الجنّ ، فكان إبليس منهم ، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض فعصى ، فمسخه الله شيطانا رجيما .
قال : وحدثنا يونس ، عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : إبليس أبو الجنّ ، كما آدم أبو الإنس .
وعلة من قال هذه المقالة ، أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أنه خلق إبليس من نار السموم ومن مارج من نار ، ولم يخبر عن الملائكة أنه خلقها من شيء من ذلك . وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجن . فقالوا : فغير جائز أن ينسب إلى غير ما نسبه الله إليه . قالوا : ولإبليس نسل وذرّية ، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد .
حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شريك ، عن رجل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : إن الله خلق خلقا ، فقال : اسجدوا لاَدم فقالوا : لا نفعل . فبعث الله عليهم نارا تحرقهم . ثم خلق خلقا آخر ، فقال : إني خالق بشرا من طين ، اسجدوا لاَدم فأبوا ، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم . قال : ثم خلق هؤلاء ، فقال : اسجدوا لاَدم فقالوا : نعم . وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لاَدم .
قال أبو جعفر : وهذه علل تنبىء عن ضعف معرفة أهلها . وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى ، فخلق بعضا من نور ، وبعضا من نار ، وبعضا مما شاء من غير ذلك . وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عما خلق منه ملائكته وإخباره عما خلق منه إبليس ما يوجب أن يكون إبليس خارجا عن معناهم ، إذ كان جائزا أن يكون خلق صنفا من ملائكته من نار كان منهم إبليس ، وأن يكون أفرد إبليس بأن خلقه من نار السموم دون سائر ملائكته . وكذلك غير مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأن كان له نسل وذرية لما ركب فيه من الشهوة واللذّة التي نزعت من سائر الملائكة لما أراد الله به من المعصية .
وأما خبر الله عن أنه من الجن ، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جِنّا ، كما قد ذكرنا قبلُ في شعر الأعشى ، فيكون إبليس والملائكة منهم لاجتنانهم عن أبصار بني آدم .
قال أبو جعفر : وإبليس «إفعيل » من الإبلاس : وهو الإياس من الخير والندم والحزن . كما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : إبليس أبلسه الله من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته .
وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي ، قال : كان اسم إبليس الحارث ، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيرا .
قال أبو جعفر : وكما قال الله جل ثناؤه : فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ يعني به أنهم آيسون من الخير ، نادمون حزنا ، كما قال العجاج :
يا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْما مُكْرَسَا قالَ نَعَمْ أعْرِفُهُ وأبْلَسا
وَحَضَرَتْ يَوْمَ الخَمِيسِ الأخْماس وَفِي الوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإبْلاسْ
فإن قال لنا قائل : فإن كان إبليس كما قلت «إفعيل » من الإبلاس ، فهلاّ صرف وأُجري ؟ قيل : ترك إجراؤه استثقالاً إذ كان اسما لا نظير له من أسماء العرب ، فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التي لا تجري ، وقد قالوا : مررت بإسحاق ، فلم يجروه ، وهو من أسحقه الله إسحاقا ، إذ كان وقع مبتدأ اسما لغير العرب ثم تسمت به العرب فجرى مجراه ، وهو من أسماء العجم في الإعراب ، فلم يصرف . وكذلك أيوب إنما هو فيعول من آب يئوب .
وتأويل قوله : أبى يعني جل ثناؤه بذلك إبليس أنه امتنع من السجود لاَدم فلم يسجد له . واستكبر يعني بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله في السجود لاَدم .
وهذا وإن كان من الله جل ثناؤه خبرا عن إبليس ، فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه ، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحقّ . وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله والتذلل لطاعته والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم اليهودُ الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحبارهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته عارفين وبأنه لله رسول عالمين ، ثم استكبروا مع علمهم بذلك عن الإقرار بنبوّته والإذعان لطاعته ، بغيا منهم له وحسدا ، فقرّعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لاَدم حسدا له وبغيا نظير فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، إذ جاءهم بالحقّ من عند ربهم حسدا وبغيا .
ثم وصف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلاً في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمره الله بالخضوع له ، فقال جل ثناؤه : وكان يعني إبليس من الكافرين من الجاحدين نعم الله عليه وأياديه عنده بخلافه عليه فيما أمره به من السجود لاَدم ، كما كفرت اليهود نعم ربها التي آتاها وآباءها قبل : من إطعام الله أسلافهم المنّ والسلوى ، وإظلال الغمام عليهم وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم ، خصوصا ما خصّ الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه ومشاهدتهم حجة الله عليهم فجحدت نبوّته بعد علمهم به ، ومعرفتهم بنبوّته حسدا وبغيا . فنسبه الله جل ثناؤه إلى الكافرين ، فجعله من عدادهم في الدين والملة ، وإن خالفهم في الجنس والنسبة ، كما جعل أهل النفاق بعضهم من بعض لاجتماعهم على النفاق ، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم ، فقال : المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال ، فكذلك قوله في إبليس : كانَ مِنَ الكَافِرِينَ كان منهم في الكفر بالله ومخالفته أمره وإن كان مخالفا جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم .
ومعنى قوله : وكانَ مِنَ الكَافِرينَ أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذ .
وقد رُوي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أنه كان يقول في تأويل قوله : وكانَ مِنَ الكافِرِينَ في هذا الموضع وكان من العاصين .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وكانَ مِنَ الكافِرِينَ يعني العاصين .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله .
وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه . وكان سجود الملائكة لاَدم تكرمة لاَدم وطاعة لله ، لا عبادة لاَدم . كما :
حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذْ قُلْنَا للْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فكانت الطاعة لله ، والسجدة لاَدم ، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته .
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له ، اعترافا بفضله ، وأداء لحقه واعتذارا عما قالوا فيه ، وقيل : أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } امتحانا لهم وإظهارا لفضله . والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر ، وإلا عطفه بما يقدر عاملا فيه على الجملة المتقدمة ، بل القصة بأسرها على القصة الأخرى ، وهي نعمة رابعة عدها عليهم . والسجود في الأصل تذلل مع تطامن قال الشاعر :
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر *** . . .
وقلن له اسجد لليلى فاسجدا *** . . .
يعني البعير إذا طأطأ رأسه . وفي الشرع : وضع الجبهة على قصد العبادة ، والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى ، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيما لشأنه ، أو سببا لوجوبه فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجا للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات ، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات ، أمرهم بالسجود تذللا لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته ، وشكرا لما أنعم عليهم بواسطته ، فاللام فيه كاللام في قول حسان رضي الله تعالى عنه :
أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو في قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس }
وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له ، كسجود إخوة يوسف له ، أو التذلل والانقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم . والكلام في أن المأمورين بالسجود ، الملائكة كلهم ، أو طائفة منهم ما سبق .
{ فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } امتنع عما أمر به ، استكبارا من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه ، أو يعظمه ويتلقاه بالتحية ، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه . والإباء : امتناع باختيار . والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره . والاستكبار طلب ذلك بالتشبع .
{ وكان من الكافرين } أي في علم الله تعالى ، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادا بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله : { أنا خير منه }جوابا لقوله : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين } . لا بترك الواجب وحده . والآية تدل على أن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له ، ولو من وجه ، وأن إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولا يصح استثناؤه منهم ، ولا يرد على ذلك قوله سبحانه وتعالى : { إلا إبليس كان من الجن } لجواز أن يقال إنه كان من الجن فعلا ومن الملائكة نوعا ، ولأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روي : أن من الملائكة ضربا يتوالدون يقال لهم الجن ومنهم إبليس . ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول : إنه كان جنيا نشأ بين أظهر الملائكة ، وكان مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه ، أو الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم ، فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به ، علم أن الأصاغر أيضا مأمورون به ، والضمير في فسجدوا راجع إلى القبيلين كأنه ، قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس ، وأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم عدم العصمة ، كما أن من الإنس معصومين والغالب فيهم عدم العصمة ، ولعل ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات ، وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما . وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلذلك صح عليه التغير عن حاله والهبوط من محله ، كما أشار إليه بقوله عز وعلا : { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } لا يقال : كيف يصح ذلك والملائكة خلقت من نور والجن من نار ؟ لما روت عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال : " خلقت الملائكة من النور ، وخلق الجن من مارج من نار " لأنه كالتمثيل لما ذكرنا فإن المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك ، غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق ، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور ، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصرف ، وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص ، والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر ، والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره ، وأن الأمر للوجوب ، وأن الذي علم الله تعالى من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة ، إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمنا وهو الموافاة المنسوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى .