بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ} (180)

{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أي فرض عليكم { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْرًا } ، أي مالاً . الخير في القرآن على وجوه ، أحدها : المال كقوله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } وقوله : { يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 215 ] ، { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاًّنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 272 ] أي المال . والثاني : الإيمان كقوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] أي إيماناً ، وكقوله تعالى : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدرى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إني إِذًا لَّمِنَ الظالمين } [ هود : 31 ] . والثالث الخير : الفضل كقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون قال كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فتعالى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين } [ المؤمنون : 109 و118 ] . والرابع : العافية كقوله : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ } [ الأنعام : 17 ] { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم } [ يونس : 107 ] . والخامس : الأجر كقوله : { والبدن جعلناها لَكُمْ مِّن شعائر الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر كذلك سخرناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الحج : 36 ] أي أجر .

وقال بعضهم : الوصية واجبة على كل مسلم ، لأن الله تعالى قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } ، أي فرض عليكم الوصية . وروي عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَةً وَعِنْدَهُ مَالٌ يُوَصِي بِهِ ، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَه » وقال بعضهم : هي مباحة وليست بواجبة . وقد روي عن الشعبي أنه قال : الوصية ليست بواجبة فمن شاء أوصى ومن شاء لم يوص .

وقال إبراهيم النخعي : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ، وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه فإن أوصى فحسن ، وإن لم يوص فليس عليه شيء . وقال بعضهم : إن كان عليه حج أو كفارة أي شيء من الكفارات فالوصية واجبة ، وإن لم يكن عليه شيء من الواجبات فهو بالخيار إن شاء أوصى وإن شاء لم يوص . وبهذا القول نأخذ .

ثم بيّن مواضع الوصية فقال تعالى : { الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف } . قال مجاهد : كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين ، فصارت الوصية للوالدين منسوخة . وروى جويبر ، عن الضحاك أنه قال : نسخت الوصية للوالدين والأقربين ممن يرث ، وثبتت الوصية لمن لا يرث من القرابة . ويقال : في الآية تقديم وتأخير ، معناه كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين إذا حضر أحدكم الموت ؛ وكانوا يوصون للأجنبيين ولم يوصوا للقرابة شيئاً ، فأمرهم الله تعالى بالوصية للوالدين والأقربين . ثم نسخت الوصية للوالدين بآية الميراث في قوله : { بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين } ، أي واجباً عليهم .