فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ} (36)

{ فِي بُيُوتٍ } أي : ذلك المصباح يوقد في بيوت ، وقيل : متعلق بما قبله ، أي كمشكاة في بعض بيوت الله ، وهي المساجد ، كأنه قيل : مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة من صفتها كيت وكيت ، وقيل : صفة لزجاجة . وقال ابن الأنباري : سمعت أبا العباس يقول : هو حال للمصباح ، والزجاجة ، والكوكب ، كأنه قيل : وهي في بيوت ، وعلى هذه الأقوال لا يوقف على { عليم } وقيل : متعلق بما بعده ، وهو يسبح الآتي ، أي : يسبح رجال في بيوت ، وعلى هذا يكون قولها فيها ؛ تكريرا للتوكيد ، والتذكير ، والإيذان بأن التقديم للاهتمام ، لا لقصر التسبيح على الوقوع في البيوت فقط .

وقيل : متعلق بمحذوف ، أي : سبحوه في بيوت ، وعلى هذين القولين يوقف على { عليم } فهذه ستة أوجه ذكرها السمين ، وغيره . وقيل : إنه منفصل عما قبله ، كأنه قال تعالى : الله في بيوت أذن الله أن ترفع . قال الحكيم الترمذي : وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه ، وقد قيل على تقدير تعلقه بمشكاة أو بمصباح ، أو بيوقد ، ما الوجه في توحيد المصباح ، والمشكاة ، وجمع البيوت ، ولا تكون المشكاة الواحدة ، ولا المصباح الواحد إلا في بيت واحد . وأجيب بأن هذا من الخطاب ، الذي يفتح أوله بالتوحيد . ويختم بالجمع ، كقوله سبحانه : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } ونحوه .

وقيل معنى في بيوت في كل واحد من البيوت فكأنه قال : في كل بيت ، أو في كل واحد من البيوت ، واختلف الناس في البيوت على أقوال الأول أنها جميع المساجد ، وهو قول مجاهد ، والحسن وغيرهما . قال ابن عباس : بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض . الثاني أن المراد بها بيوت بيت المقدس ، روي ذلك عن الحسن ، الثالث أنها بيوت النبي صلى الله عليه وسلم روي هذا عن مجاهد ، الرابع : هي البيوت كلها قاله عكرمة . الخامس . أنها المساجد الأربعة الكعبة ، ومسجد قبا ، ومسجد المدينة ، ومسجد بيت المقدس ، قاله ابن زيد والقول الأول أظهر لقوله : { يسبح له فيها بالغدو والآصال } والباء من بيوت تضم وتكسر كل ذلك ثابت في اللغة ، ومعنى :

{ أَذِنَ اللَّهُ } أمر وقضى ومعنى { أَن تُرْفَعَ } تبنى قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما ومنه قوله سبحانه ، { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } . وقال الحسن البصري : وغيره معنى ترفع تعظم فلا يذكر فيها الخنا من القول ، ويرفع شأنها وتطهر من الأنجاس والأقذار ، ورجحه الزجاج ، وقيل المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين .

{ وَ } معنى { يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } كل ذكر لله عز وجل ، وقيل هو التوحيد ، وقيل المراد تلاوة القرآن ، والأولى أولى ، وفي القرطبي قد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد ، لأنهم لا يتحرزون عن الأقذار والأوساخ فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد . وقد ورد في تعظيم المساجد وتنزيهها عن القذر واللغو وتنظيفها وتطييبها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها .

36

واختلف في هذا التسبيح ما هو ؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة قالوا : الغدوة صلاة الصبح ، والآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الآصال يشملها ، والمعنى يصلي له فيها بالغداة صلاة الصبح . وبالآصال صلاة الظهر والعصر ، والعشائين ، وإنما وحد الغدو ، لأن صلاته واحدة ، وفي الآصال صلوات ، والآصال جمع أصل جمع أصيل ، وهو العشي ، وقيل صلاة الصبح والعصر .

وقيل المراد صلاة الضحى ، قاله ابن عباس وعنه في الآية قال : هي المساجد تركم ، وينهى عن اللغو فيها ، ويذكر فيها اسم الله ، يتلى فيها كتابه ، يسبح له فيها بالغدو والآصال ، صلاة الغداة ، وصلاة العصر ، وهما أول ما فرض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما ويذكر بهما عباده ، وعنه قال : إن صلاة الضحى لفي القرآن ، وما يغوص عليها إلا غواص في هذه الآية ، وقيل المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي ، وهو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله ، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده ، وهذا أرجح مما قبله ، لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل ، يدل على خلاف ما ذهب إليه الأولون وهو ما ذكرناه ،