فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

وقيل قوله : { الزانية والزاني } تفصيل ما أجمل من الآيات البينات ، والزنا هو وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح وقيل هو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا و { الزانية } هي المرأة المطاوعة للزنا ، الممكنة منه ، كما تنبئ عنه الصيغة المكرهة ، وكذلك { الزاني } وتقديم الزانية على الزاني لأنها الأصل في الفعل لكون الداعية فيها أوفر ، ولولا تمكينها منه لم يقع ، قاله أبو سعود ؛ إنما قدمت المرأة هنا وأخرت في آية حد السرقة لأن الزنا إنما يتولد بشهوة الوقاع ، وهي في المرأة أقوى وأكثر ، والسرقة إنما تتولد من الجسارة والقوة والجرأة ، وهي في الرجل أقوى وأكثر ، قاله الكرخي .

وقيل وجه تقدين الزانية على الزاني ههنا أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة منهن ، وقيل لأن العار فيهن أكثر ، إذ موضوعهن الحجبة والصيانة فقدم ذكر الزانية تغليظا واهتماما .

{ فاجلدوا } الجلد الضرب ، يقال : جلده إذا ضرب جلده ، مثل بطنه إذا ضرب بطنه ورأسه إذا ضرب رأسه ، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الأخفش ، وعلى مذهب سيبويه التقدير فيما يتلى عليكم حكم الزانية ؛ ثم بين ذلك بقوله : { فاجلدوا } والخطاب في هذه الآية الكريمة للأئمة ومن قام مقامهم ، وقيل للمسلمين أجمعين لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعا ، والإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود . { كل واحد منهما مائة جلدة } هو حد الزاني الحر البالغ البكر ، وكذلك الزانية ، وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد وهو تغريب عام وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : التغريب إلى رأي الإمام ، والحديث يرده ، وقال مالك : يجلد الرجل ويغرب ، وتجلد المرأة ولا تغرب ، وأما المملوك والمملوكة فجلد كل واحد منهما خمسين جلدة لقوله سبحانه : { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وهذا نص في الإماء ألحق بهن العبيد لعدم الفارق .

وأما من كان محصنا من الأحرار فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة ؛ وبإجماع أهل العلم ، بل القرآن المنسوخ لفظه ، الباقي حكمه وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ، وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة ، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في ذلك في شرحه للمنتقي ، وقد مضى الكلام في حد الزنا مستوفى ، وهذه الآية ناسخة لآية الحبس آية الأذى اللتين في سورة النساء ، وزاد النسفي والتغريب منسوخ بالآية ، وليس بصحيح فقد أثبتته السنة الصحيحة كما أشرنا إليه .

{ وَلَا تَأْخُذْكُم } بالتأنيث مراعاة للفظ ، وبالياء لأنه مجازي ، وللفصل بالمفعول والجار { بِهِمَا رَأْفَةٌ } يقال رأف يرأف ، على وزن فعلة ، ورأفة على وزن فعالة ، مثل النشأة والنشاءة ، وكلاهما بمعنى الرقة والرحمة . وقيل هي أرق الرحمة وأشدها .

{ فِي دِينِ اللَّهِ } أي في طاعته وحكمه ، كما في قوله : ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ، أي لا يأخذهم الدين في استيفاء الحدود فتعطلوها ، وهذا قول مجاهد وعكرة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي . وقيل تخففوا الضرب ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن .

قال الزهري : يجتهد في حد الزنا والفرية ، أي القذف ، ويخفف في حد الشرب . وقيل يجتهد في حد الزنا ويخفف دون ذلك في حد القذف ودونه في حد الشرب ، ثم قال : مثبتا للمأمورين ومهيجا لهم .

{ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } أي إن كنتم تصدقون بالتوحيد والبعث الذي فيه جزاء الأعمال لا تعطلوا الحدود ، وفي إلهاب الغضب لله ولدينه ، وذلك لأن الإيمان بهما يقتضي التجلد في طاعة الله وفي إجراء أحكامه ، وذكر اليوم الآخر لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة في الحدود وتعطيلها ، والحاصل أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الحث والمتانة ولا يأخذهم اللين والهوان في استيفاء حدود الله ، وكفى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في ذلك حيث قال : " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " {[1273]} .

{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } أي لتحضر الجلد إذا أقيم عليها زيادة في التنكيل بهما وشيوخ العار عليها واشتهار فضيحتها { طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } ندبا ، والطائفة الفرقة التي تكون حافة حول الشيء من الطوف ، وأقلها ثلاثة ، لأنه أقل الجميع ، وقيل اثنان . قاله عكرمة . وقيل واحد . قاله مجاهد . وقيل أربعة لأنهم عدد شهود الزنا . وقيل عشرة .

قال ابن عباس : الطائفة الرجل فما فوقه ، ولا يجب على الإمام حضور رجم ، ولا على الشهود ، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمها ، وإنما خص المؤمنين بالحضور لأن ذلك أفضح ، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل ، وتسمية الجلد عذابا دليل على أنه عقوبة ،


[1273]:مسلم 1688/ البخاري 1687