فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ} (36)

واختلف في قوله { فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } بما هو متعلق ؛ فقيل : متعلق بما قبله : أي كمشكاة في بعض بيوت الله ، وهي المساجد ، كأنه قيل : مثل نوره كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت ، وقيل : متعلق بمصباح . وقال ابن الأنباري : سمعت أبا العباس يقول : هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب ، كأنه قيل : وهي في بيوت ، وقيل : متعلق بتوقد : أي توقد في بيوت ، وقد قيل متعلق بما بعده ، وهو { يسبح } أي يسبح له رجال في بيوت ، وعلى هذا يكون قوله { فِيهَا } تكريراً كقولك ، زيد في الدار جالس فيها . وقيل : إنه منفصل عما قبله ، كأنه قال الله : في بيوت أذن الله أن ترفع . قال الحكيم الترمذي : وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه . وقد قيل على تقدير تعلقه بمشكاة ، أو بمصباح ، أو بتوقد ما الوجه في توحيد المصباح ، والمشكاة ، وجمع البيوت ؟ ولا تكون المشكاة الواحدة ، ولا المصباح الواحد إلاّ في بيت واحد . وأجيب : بأن هذا من الخطاب الذي يفتح أوّله بالتوحيد ، ويختم بالجمع كقوله سبحانه : { يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } [ الطلاق : 1 ] ونحوه . وقيل : معنى { في بيوت } : في كلّ واحد من البيوت ، فكأنه قال : في كلّ بيت ، أو في كلّ واحد من البيوت . واختلف الناس في البيوت ، على أقوال : الأوّل أنها المساجد ، وهو قول مجاهد والحسن وغيرهما . الثاني أن المراد بها بيوت بيت المقدس ، روي ذلك عن الحسن . الثالث : أنها بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، روي عن مجاهد . الرابع : هي البيوت كلها ، قاله عكرمة . الخامس : أنها المساجد الأربعة الكعبة ، ومسجد قباء ، ومسجد المدينة ، ومسجد بيت المقدس ، قاله ابن زيد . والقول الأوّل أظهر لقوله : { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } ، والباء من بيوت تضم ، وتكسر كلّ ذلك ثابت في اللغة ، ومعنى { أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } : أمر وقضى ، ومعنى { تُرْفَعَ } تبنى ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، وغيرهما ، ومنه قوله سبحانه : { وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت } [ البقرة : 127 ] . وقال الحسن البصري ، وغيره : معنى ترفع تعظم ، ويرفع شأنها ، وتطهر من الأنجاس ، والأقذار ، ورجحه الزجاج وقيل : المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين ، ومعنى { يُذْكَرَ فِيهَا اسمه } كلّ ذكر لله عزّ وجلّ ، وقيل هو التوحيد ، وقيل : المراد تلاوة القرآن ، والأوّل أولى .

{ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } قرأ ابن عامر وأبو بكر { يسبح } بفتح الباء الموحدة مبنياً للمفعول ، وقرأ الباقون بكسرها مبنياً للفاعل إلاّ ابن وثاب ، وأبا حيوة ، فإنهما قرأ بالتاء الفوقية ، وكسر الموحدة ، فعلى القراءة الأولى يكون القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلاثة ، ويكون رجال مرفوع على أحد وجهين : إما بفعل مقدّر ، وكأنه جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل من يسبحه ؟ فقيل يسبحه رجال . الثاني : أن رجال مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وعلى القراءة الثانية يكون { رجال } فاعل { يسبح } ، وعلى القراءة الثالثة يكون الفاعل أيضاً رجال ، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال .

واختلف في هذا التسبيح ما هو ؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة ، قالوا : الغدوّ صلاة الصبح ، والآصال : صلاة الظهر والعصر والعشاءين ، لأن اسم الآصال يشملها ، ومعنى بالغدوّ والآصال : بالغداة والعشي وقيل : صلاة الصبح والعصر ، وقيل المراد صلاة الضحى ، وقيل : المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي ، وهو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله ، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده ، وهذا أرجح مما قبله ، لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل يدل على خلاف ما ذهب إليه الأوّلون ، وهو ما ذكرناه .

/خ38