48- { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } .
تأتي هذه الآية تسلية ومواساة للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي : إن أعرض أهل مكة عن دعوتك ولم يؤمنوا برسالتك فقد أدّيت واجبك ، ولست حفيظا عليهم ، ولا مسئولا عن إيمانهم ، ما عليك إلا تبليغ الدعوة إليهم ، وتركهم أحرارا يختارون ما يشاءون .
قال تعالى : { فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر } . ( الغاشية : 21 ، 22 ) .
وقال سبحانه : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء . . . } ( البقرة : 272 ) .
ومن طبيعة الإنسان أنه إذا جاءت إليه النعمة فرح بها ، فهو يسعد بالنعمة كالصحة والغنى والأمن ويستبشر بها ، وإذا نزل به المرض أو الفقر أو أي مصيبة بسبب سلوكه ومعاصيه ، فإن الجزع والهلع ينزل بساحته ، وكذلك الكفر والجحود ، إلا من ألهمه الله الصواب .
قال تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين } . ( المعارج : 19-22 ) .
إن ذلك بسبب عدم الإيمان ، وعدم صدق اليقين ، وعظم شأن الدنيا عند الإنسان ، فإذا جاءت النعمة فرح بها كثيرا ، وما علم أن الدنيا كلها عارية وكل ما فيها مردود ، وأن الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة ففيها النعيم الدائم ، وإذا نزلت بساحة الإنسان المصائب بسبب سلوكه اشتد به الحزن والهلع والكفر والجحود ، بخلاف المؤمن فإنه صابر على البلاء ، شاكر لله على النعماء .
قال صلى الله عليه وسلم : ( عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن )21 .
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة وتوجيه له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه فلا تهتم بهم فما أرسلناك رقيباً ومحاسباً عليهم { إِنْ عَلَيْكَ } أي ما عليك { إِلاَّ البلاغ } لا الحفظ وقد فعلت .
{ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً } أي نعمة من الصحة والغنى والأمن ونحوها { فَرِحَ بِهَا } أريد بالإنسان الجنس الشامل للجميع وهو حينئذ بمعنى الأناسي أو الناس ولذا جمع ضميره في قوله سبحانه : { وَإِن تُصِبْهُمْ } وليست للاستغراق والجمعية لا تتوقف عليه فكأنه قيل : وإن تصب الناس أو الأناسي { سَيّئَةٌ } بلاء من مرض وفقر وخوف وغيرها { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بسبب ما صدر منهم من السيئات { فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ } بليغ الكفر ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويستعظمها ولا يتأمل سببها بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق لها .
وأل فيه أيضاً للجنس ، وقيل : هي فيهما للعهد على أن المراد المجرمون ، وقيل : هي في الأول للجنس وفي الثاني للعهد ، وقال الزمخشري : أراد بالإنسان الجمع لا الواحد لمكان ضمير الجمع ولم يرد إلا المجرمين لأن إصابة السيئة بما قدمت أيديهم إنما يستقيم فهيم ، ثم قال : ولم يقل فإنه لكفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال سبحانه : { إن إنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] { إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } [ العاديات : 6 ] ففهم منه العلامة الطيبي أنها في الأول للعهد وأن المراد الكفار المخاطبون في قوله تعالى : { استجيبوا لِرَبّكُمْ } [ الشورى : 47 ] فإن أعرضوا { وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ } ، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بتصميمهم على الكفران والإيذان بأنهم لا يرعوون مما هم فيه وأنها في الثاني للجنس ليكون المعنى ليس ببدع من هذا الإنسان المعهود الإصرار لأن هذا الجنس موسوم بكفران النعم فيكون ذم المطلق دليلاً على ذم المقيد ، وفي «الكشف » أنه أراد أن الإنسان أي الأول للجنس الصالح للكل وللبعض وإذا قام دليل على إرادة البعض تعين وقد قام لما سلف أن الإصابة في غير المجرمين للعوض الموفي ولم يذهب إلى أن اللام للعهد وجعل قوله تعالى : { فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ } للجنس ليكون تعليلاً للمقيد بطريق الأولى ومطابقاً لما جاء في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ؛ ولا بأس بأن يجعل إشارة إلى السالف فإنه للجنس أيضاً ، ويكون في وضع المظهر موضع المضمر الفائدة المذكورة مراراً بل هو أدل على القانون الممهد في الأصول وبكون كليهما للجنس أقول ؛ وإسناد الكفران مع أنه صفة الكفرة إلى الجنس لغلبتهم فهو مجاز عقلي حيث أسند إلى الجنس حال أغلب أفراده لملابسته الأغلبية ، ويجوز أن يعتبر أغلب الأفراد عين الجنس لغلبتهم على غيرهم فيكون المجاز لغوياً ، وكذا يقال في إسناد الفرح إذا كان بمعنى البطر فإنه أيضاً من صفات الكفرة بل أن كان أيضاً بمعناه المعروف وهو انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية فإنه وإن لم يكن من خواص الكفار بل يكون في المؤمنين أيضاً اضطراراً أو شكراً إلا أنه لا يعم جميع أفراد الجنس وإن قلت بعمومه لم تحتج إلى ذلك كما إذا فسرته بالبطر على إرادة العهد في الإنسان ، وإصابة السيئة بالذنوب غير عامة للأفراد أيضاً فحال إسنادها يعلم مما ذكرنا ؛ وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة بلفظ الماضي إلى نون العظمة للتنبية على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع وأنه مراد بالذات من الجواب المطلق سبحانه وتعالى كما أن تصدير الثانية بإن وإسناد الإصابة بلفظ المضارع إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها وأنها بمنزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات والقصد الأولى ، وإقامة علة الجزاء مقام الجزاء مبالغة في ذمهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.