الطائفة : الجماعة أقل من الفرقة ، بدليل قوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة . . . } ( التوبة : 122 ) .
فأصلحوا بينهما : فكفوهما عن القتال بالنصيحة ، أو بالتهديد والتعذيب .
أمر الله : الصلح ، لأنه مأمور به في قوله تعالى : { وأصلحوا ذات بينكم . . . } ( الأنفال : 1 ) .
فأصلحوا بينهما بالعدل : بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات ، بحيث يكون الحكم عادلا ، حتى لا يؤدي النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى .
وأقسطوا : واعدلوا في كل شأن من شئونكم ، وأصل الإقساط : إزالة القسط ( بالفتح ) وهو الجور ، والقاسط : الجائر ، كما قال تعالى : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } . ( الجن : 15 ) .
9- { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
الإسلام رباط متين بين المسلمين ، وقد حث القرآن الكريم على صلة الرحم ، ورأب الصدع ، والإصلاح بين الناس .
قال تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } . ( النساء : 114 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تحاقدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله تعالى )9 .
والآية التاسعة من سورة الحجرات أصل في دعوة المسلمين إلى لزوم الوحدة والجماعة ، وقتال البغاة ، والصلح بين المتخاصمين بالعدل والقسط .
إن تخاصمت جماعتان أو فئتان من المسلمين ، فينبغي أن نسارع إلى الصلح بينهما بالحسنى والإرشاد ، والكلمة الطيبة والتوجيه ، وذكر محاسن الفئة الأخرى ومحامدها ، ورغبتها في الصلح والحب والمودة .
قال صلى الله عليه وسلم : ( ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين فينمي خيرا أو يقول خيرا )10 .
فمن أراد الصلح بين فئتين ، وسمع كلمة طيبة من إحداهما فنماها وزادها ، أو اخترعها رغبة في التواصل والصلح بين المتخاصمين ، فلا يسمى كذابا بل مصلحا .
{ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . . . }
فإن لم تستجب إحدى الفئتين إلى الصلح ، ولم تخضع للحكم بالعدل ، واحتمت بالعدوان والبغي على الفئة الأخرى ، وجب ردع المعتدي وتحذيره وإنذاره أولا ، ومحاولة استدراجه إلى الصلح ، فإن رفض وبغى تعبن قتاله إلى أن يرجع إلى حكم الله ، وهو الصلح بين المتنازعين .
{ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } .
إن رجعت الفئة المعتدية عن بغيها ، وقبلت الصلح والتعاون مع الوسطاء ، وجب على الأمة أن تصلح بين المتنازعين بالعدل والحق والقسط ( بكسر القاف ) .
{ إن الله يحب المقسطين } . إن الله يحب العادلين في الحكم ، حتى نقطع دابر النزاع من أساسه ، وتعود الأمور هادئة آمنة نافعة راشدة .
قال صلى الله عليه وسلم : ( إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ ، بين يدي الرحمان عز وجل بما أقسطوا في الدنيا ) . أخرجه ابن أبي حاتم ، والنسائي ، وإسناده جيد قوي ، ورجاله على شرط الصحيح .
وأخرج مسلم ، والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور ، على يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا )11 .
قوله عز وجل : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } الآية . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا مسدد ، حدثنا معمر قال سمعت أبي يقول : إن أنسا قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إليك عني ، والله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار النبي صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنها نزلت : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } . ويروى أنها لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم ( فاصطلحوا ) وكف بعضهم عن بعض . وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مماراة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذن حقي منك عنوة ، لكثرة عشيرته ، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ، ولم يكن بينهما قتال بالسيوف . وقال سفيان عن السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل ، وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى علية وحبسها ، فبلغ ذلك قومها فجاؤوا ، وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال ، فأنزل الله عز وجل : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما ، { فإن بغت إحداهما } تعدت إحداهما ، { على الأخرى } وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله ، { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء } ترجع { إلى أمر الله } في كتابه وحكمه ، { فإن فاءت } رجعت إلى الحق ، { فأصلحوا بينهما بالعدل } بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله ، { وأقسطوا } اعدلوا . { إن الله يحب المقسطين* }
قوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين 9 إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } .
ذلك أمر من الله لعباده المؤمنين بالإصلاح بين الفئتين المقتتلتين منهم ، فدين الإسلام رحمة من الله للعالمين ، يرسخ فيهم المودة والتعاون والإخاء ويحذرهم العداوة والبغضاء وسوء الخصام ويوجب أن يغيض كل أسباب الشقاق والنزاع والمباغضة وإذا وقع شيء من ذلك بين فئتين من المؤمنين أن يبادروا سراعا للتوفيق والإصلاح بين الفئتين المتخاصمتين المقتتلتين . لا جرم أن الإصلاح بين المسلمين عمل جليل ومبارك يكتب الله فيه حسن الجزاء للأبرار الذين يصلحون بين إخوانهم المسلمين ، فقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي بكر ( رضي الله عنه ) قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي ( رضي الله عنه ) فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول : " إن ابني هذ سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " فكان كما قال صلى الله عليه وسلم ، إذ أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الذي وقع بينهم من حرب تثير في النفس الألم والحزن .
أما في سبب نزول الآية : فقد روي عن أنس قال : يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : إليك عني ، فوالله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار : لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه . وغضب لكل واحد منهما أصحابه ، وكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنه أنزلت فيهم : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } {[4290]} وقيل غير ذلك من الأسباب .
والمستفاد : وجوب الإصلاح بين المسلمين إذا ما وقع بينهم نزاع أو شقاق أو اقتتال . والطائفة : تعني الواحد فما فوقه ، والطائفة من الشيء : القطعة منه{[4291]} .
قوله : { فأصلحوا بينهما } أمر بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين بدعوتهما إلى الاحتكام إلى كتاب الله فهو يقضي لهما أو عليهما .
قوله : { فإن بغت إحداهما على الأخرى } بغت من البغي وهو العدول عن القصد . بغى على الناس بغيا ، أي ظلمهم واعتدى عليهم فهو باغ ، وجمعه بغاة . وبغى : سعى بالفساد{[4292]} . والمراد : إذا اعتدت إحدى الطائفتين ولم تستجب لنداء الحق أو حكم الله فأبت إلا التطاول والفساد { فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله } أي قاتلوا هؤلاء البغاة حتى يثوبوا إلى الحق والصواب ويقبلوا بحكم الله في كتابه الكريم .
قوله : { فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل } { فاءت } من الفيء وهو الرجوع ، أي إن رجعت الفئة المتعدية المتجاوزة عن بغيها ورضيت بالاحتكام إلى كتاب الله ، فأصلحوا بين الطائفتين بتحري الحق والصواب والأخذ للطائفة المظلومة من الظالمة حتى يزول ما أصابها من حيف وبغي .