تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللاتي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيائكم أبناءكم ذالكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل( 4 ) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا ءاباؤهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما( 5 ) }

المفردات :

جعل : خلق .

تظاهرون : الظهار قول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي يريد بذلك تحريمها كما تحرم الأم .

أدعيائكم : جمع دعي ، والمراد به هنا الابن بالتبني وقد كانت تجري عليه أحكام الابن في الجاهلية وصدر الإسلام .

السبيل : الطريق .

التفسير :

{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيائكم أبناءكم ذالكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل }

تمهيد :

ورد في أسباب النزول وفي تفسير القرطبي وابن كثير وغيرهما أن هذه الآية عالجت ما كان متفشيا في الجاهلية من أخطاء ومن هذه الأخطاء أن الظهار وهو قول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي . يحرم الزوجة فتحرم عليه كما تحرم الأم وقد بين القرآن أن هذا عدوان وتحريم للحلال فالزوجة أحلها الله للإنسان فلا يجوز أن يحرمها كما تحرم عليه الأم فالأم تجب طاعتها والبر بها والزوجة يحل الاستمتاع بها .

وكان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه إنسان لظرفه ونبله ألحقه بنسبه فقال : هذا ابني ويرثني فيصبح له حكم الابن في الميراث وفي حق' النسب إلى أبيه المدعى ، ولا يجوز للأب المدعى أن يتزوج امرأة ابنه بالتبني وقد أراد القرآن إبطال هذه العادة المستحكمة في الجاهلية واختار القرآن محمدا صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة عملية في ذلك .

قصة زيد بن حارثة

كان زيد بن حارثة مسببا من الشام سبته خيل من تهامة فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة ، فوهبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأقام عنده مدة ، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم " خيراه فغن اختاركما فهو لكما دون فداء " فاختار زيد بن حارثة الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : هذا الرجل ما رأيت منه إلا خيرا وأنا أفضله على أبي وعمي فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تعلقه به قال : " يا معشر الناس اشهدوا أن زيد بن حارثة ابني يرثني وأرثه " فرضي بذلك أبوه وعمه وكان يدعى زيد بنم محمد فلما حرم الله نسبة الولد إلى غير أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم له : " أنت زيد بن حارثة ابن شراحيل " .

من تفسير القرطبي

قال القرطبي في تفسير قوله تعالى :

{ ما جعل الله لرجل قلبين في جوفه . . . } عن الواحدي والقشيري وغيرهما : نزلت في جميل بن معمر الفهري وكان رجلا حافظا لما يسمع فقالت قريش : ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان وكان يقول : لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد ، فلما هزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر رآه أبو سفيان في العير وهو معلق إحدى نعليه في يده ، والأخرى في رجله فقال أبو سفيان : ما حال الناس ؟ قال انهزموا قال : فما بال إحدى نعليك في يدك ، والأخرى في رجلك قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعرفوا يومئذ أنه لو كانا له قلبان لما نسي نعله في يده . أه .

وقال ابن عباس : سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا له قلبان لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ، ثم عاد إلى شانه الأول فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل . 3

{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوعه . . . } خلق الله الإنسان وله اتجاه ومنهج وطريق يسير عليه فمن اختار الإسلام والإيمان والهداية سار في هذا الطريق ومن اختار الضلال أو الكفر أو النفاق سار في طريقه ومن أمثلة العرب : ( إنك لا تجني من الشوك العنب ) فالمؤمن يصدر عنه السلوك المستقيم والكافر يصدر عنه أفعال الكفر والضلال .

فلم يخلق الله لرجل قلبين في جوفه ، يكون في أحدهما إيمان وفي الآخر كفر بل الإنسان له قلب واحد فإذا اعتنق التقى والهدى ظهر ذلك في سلوكه وإذا اعتنق الفسوق والكفر ظهر ذلك في سلوكه .

قال صلى الله عليه وسلم " إن النور إذا دخل القلب اتسع له الصدر وانشرح قيل يا رسول الله هل لذلك من علامة ؟ قال " نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت " 4 ثم تلا قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه . . . ( الزمر : 22 ) .

{ وما جعل أزواجكم اللائي يظاهرون منهن أمهاتكم . . . } كان الرجل إذا قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي حرمت عليه على التأبيد فرسم القرآن طريقا جعل الطلاق مؤقتا بأن يعتق المظاهر رقبة ، فإن لم يجد صام ستين يوما فإن لم يجد أطعم ستين مسكينا قبل أن يقرب زوجته .

كما بين القرآن الكريم ان هناك فرقا بين الأم والزوجة فالأم تجب طاعتها والبر بها والزوجة أحل الله الاستمتاع بها واوجب لها حسن العشرة ، وحين يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي لا تتحول إلى أم ولا تكون الزوجة التي ظاهر منها زوجها مثل الأم .

وما جعل الولد المدعى مثل الابن لأنه ليس ابنا صلبيا وأجمع أهل التفسير على أن هذه الآية نزلت في زيد بن حارثة وقد أبطل الله هذا الإلحاق الوهمي وهذا النسب المزعوم بهذه الآية وبقوله تعالى : { ما كانا محمدا أبا أحد من رجالكم . . . } ( الأحزاب : 40 ) .

وهذا هو المقصود بالنفي قدم الله له نفي أمر حسي معروف وهو ازدواج القلب ثم أردفه بنفي أمرين معنويين هما : اجتماع الزوجية مع الظهار والتبني مع النسب فالثلاثة باطلة لا حقيقة لها .

{ ذالكم قولكم بأفواهكم . . . } هذا كلام تدعونه ليس له أساس في الواقع فليس لرجل من قلبين في جوفه والزوجة لن تكون أما والابن الدعى لن يكون ابنا حقيقيا هذه دعاوى بألسنتكم وأفواهكم لا واقع لها .

{ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . . . } والله هو الذي يقرر الصدق والعدل ويرشد إلى السبيل القويم الصحيح فدعوا قولكم وخذوا بقوله عز وجل .

جاء في صفوة التفاسير للأستاذ محمد علي الصابوني ما يأتي : والغرض من الآية التنبيه على بطلان مزاعم الجاهلية فكما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أما ، ولا الولد المتبني ابنا لأن الأم الحقيقة هي التي ولدته والابن الحقيقي هو الذي ولد من صلب الرجل فكيف يجعلون الزوجات المظاهر منهن أمهات ؟ وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناء لهم مع أنهم ليسوا من أصلابهم ؟ 5

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

قوله عز وجل :{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } نزلت في أبي معمر ، جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع ، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان ، وكان يقول : إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم ، فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده ، والأخرى في رجله ، فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس ؟ قال انهزموا ، قال : فما لك إحدى نعليك في يدك الأخرى في رجلك ؟ فقال أبو معمر : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده . وقال الزهري ، ومقاتل : هذا مثل ضربه الله عز وجل للمظاهر من امرأته وللمتنبي ولد غيره ، يقول : فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان ، ولا يكون له ولد واحد ابن رجلين . { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } قرأ أهل الشام والكوفة : اللائي ها هنا وفي سورة الطلاق بياء بعد الهمزة ، وقرأ قالون عن نافع ويعقوب بغير ياء بعد الهمزة ، وقرأ الآخرون بتليين الهمزة ، وكلها لغات معروفة ، تظاهرون قرأ عاصم بالألف وضم التاء وكسر الهاء مخففاً ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء والهاء مخففاً ، وقرأ ابن عامر بفتحها وتشديد الظاء ، وقرأ الآخرون بفتحها وتشديد الظاء والهاء من غير ألف بينهما . وصورة الظهار : أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . يقول الله تعالى : ما جعل نساءكم اللائي تقولون لهن هذا في التحريم كأمهاتكم ، ولكنه منكر وزور ، وفيه كفارة نذكرها إن شاء الله تعالى في سورة المجادلة . { وما جعل أدعياءكم } يعني : من تبنيتموه { أبناءكم } فيه نسخ التبني ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالابن المولود له ، يدعوه الناس إليه ، ويرث ميراثه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي ، وتبناه قبل الوحي ، وآخى بينه وبين حمزة ابن عبد المطلب ، فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة ، قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ونسخ التبني ، { ذلكم قولكم بأفواهكم } لا حقيقة له يعني قولهم زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم وادعاء نسب لا حقيقة له ، { والله يقول الحق } يعني : قوله الحق ، { وهو يهدي السبيل } أي : يرشدهم إلى سبيل الحق .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

فيه خمس مسائل :

الأولى- قال مجاهد : نزلت في رجل من قريش كان يدعى ذا القلبين من دهائه ، وكان يقول : إن لي في جوفي قلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد . قال : وكان من فهر . الواحدي والقشيري وغيرهما : نزلت في جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلا حافظا لما يسمع . فقالت قريش : ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان . وكان يقول : لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد . فلما هزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر ، رآه أبو سفيان في العير وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله ، فقال أبو سفيان : ما حال الناس ؟ قال انهزموا . قال : فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده . وقال السهيلي : كان جميل بن معمر الجمحي ، وهو ابن معمر بن حبيب بن وهب ابن حذافة بن جمح ، واسم جمح : تيم ، وكان يدعى ذا القلبين فنزلت فيه الآية ، وفيه يقول الشاعر :

وكيف ثَوَائِي بالمدينة بعد ما *** قضَى وطراً منها جميلُ بن معمر قلت : كذا قالوا جميل بن معمر . وقال الزمخشري : جميل بن أسد الفهري . وقال ابن عباس : سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا له قلبان ؛ لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول ، فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل . وقيل : نزلت في عبد الله بن خطل . وقال الزهري وابن حبان : نزل ذلك تمثيلا في زيد بن حارثة لما تبناه النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : كما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين . قال النحاس : وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة ، وهو من منقطعات الزهري ، رواه معمر عنه . وقيل : هو مثل ضرب للمظاهر ، أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان . وقيل : كان الواحد من المنافقين يقول : لي قلب يأمرني بكذا ، وقلب يأمرني بكذا ، فالمنافق ذو قلبين . فالمقصود رد النفاق . وقيل : لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب ، كما لا يجتمع قلبان في جوف . فالمعنى : لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب . ويظهر من الآية بجملتها نقي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت ، وإعلام بحقيقة الأمر ، والله أعلم .

الثانية- القلب بضعة{[12695]} صغيرة على هيئة الصنوبرة ، خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم ، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار ، يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهي ، ويضبطه فيه بالحفظ الرباني ، حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئا . وهو بين لمتين{[12696]} : لمة من الملك ، ولمة من الشيطان ، كما قال صلى الله عليه وسلم . خرجه الترمذي ، وقد مضى في " البقرة " {[12697]} . وهو محل الخطرات والوساوس ومكان الكفر والإيمان ، وموضع الإصرار والإنابة ، ومجرى الانزعاج والطمأنينة{[12698]} . والمعنى في الآية : أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان ، والهدى والضلال ، والإنابة والإصرار ، وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز ، والله أعلم .

الثالثة- أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لا أحد بقلبين ، ويكون في هذا طعن على المنافقين الذين تقدم ذكرهم ، أي إنما هو قلب واحد ، فإما فيه إيمان وإما فيه كفر ؛ لأن درجة النفاق كأنها متوسطة ، فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد . وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية ، متى نسي شيئا أو وهم . يقول على جهة الاعتذار : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .

الرابعة- قوله تعالى : " وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم " يعني قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . وذلك مذكور في سورة " المجادلة " {[12699]} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

الخامسة- قوله تعالى : " وما جعل أدعياءكم أبناءكم " أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة . وروى الأئمة أن ابن عمر قال : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت : " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " [ الأحزاب : 5 ] وكان زيد فيما روي عن أنس بن مالك وغيره مسبيا من الشأم ، سبته خيل من تهامة ، فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد ، فوهبه لعمته خديجة فوهبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه ، فأقام عنده مدة ، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم وذلك قبل البعث : ( خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء ) . فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حريته وقومه ، فقال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : ( يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه ) وكان يطوف على حلق قريش يشهدهم على ذلك ، فرضي ذلك عمه وأبوه وانصرفا . وكان أبوه لما سبي يدور الشأم ويقول :

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل *** أحيٌّ فيرجى أم أتى دونه الأجلْ

فوالله لا أدري وإني لسائل *** أغالك بعدي السَّهْلُ أم غالك الجبل

فيا ليت شعري هل لك الدهرَ أوبةٌ *** فحسبي من الدنيا رجُوعك لي بَجَلْ{[12700]}

تُذَكِّرُنيهِ الشمس عند طلوعها *** وتعرِض ذكراه إذا غَرْبُهَا أفَلْ

وإن هبت الأرياح هَيَّجْنَ ذكره *** فيا طول ما حُزْنِي عليه وما وجل

سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا *** ولا أسأم التَّطْوَافَ أو تسأم الإبل

حياتيَ أو تأتي عليَّ منيتي *** فكل امرئ فان وإن غرَّهُ الأملْ

فأخبر أنه بمكة ، فجاء إليه فهلك عنده . وروي أنه جاء فخيره النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وانصرف . وسيأتي من ذكره وفضله وشرفه شفاء عند قوله : " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها " {[12701]} [ الأحزاب : 37 ] إن شاء الله تعالى . وقتل زيد بمؤتة من أرض الشأم سنة ثمان من الهجرة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمره في تلك الغزاة ، وقال : ( إن قتل زيد فجعفر فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة ) . فقتل الثلاثة في تلك الغزاة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي زيد وجعفر بكى وقال : ( أخواي ومؤنساي ومحدثاي ) .


[12695]:البضعة (بالفتح وقد تكسر) القطعة من اللحم.
[12696]:اللمة (بالفتح) الهمة والخطرة تقع في القلب.
[12697]:راجع ج 1 ص 187 فما بعد.
[12698]:في بعض النسخ: " والطمأنينة والاعتدال".
[12699]:راجع ج 17 ص 279 فما بعد.
[12700]:بجل: كنعم زنة ومعنى. وأبجله الشيء: كفاه.
[12701]:راجع ص 188 من هذا الجزء.