تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة المعارج

( سورة المعارج مكية ، وآياتها 44 آية ، نزلت بعد سورة الحاقة )

تبدأ السورة بهذا المطلع المتميز ، وهو سؤال سأله أحد الكافرين عن يوم القيامة ، سؤال تهكم أو استعجال لهذا اليوم .

وفي الإجابة على هذا السؤال وصفت السورة يوم القيامة وألوان الهوان النفسي والحسي الذي يصيب الكافرين فيه ، ثم وصفت هلع الإنسان وجزعه ، واستثنت المؤمنين الموصولين بالله ، فهم في يقين ثابت وأدب كريم .

تنوع أساليب القرآن :

سورة المعارج جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها القرآن في داخل النفس البشرية ، وخلال دروبها ومنحنياتها ، ورواسبها وركامها ، وهي أضخم من المعارك الحربية .

لقد سلك القرآن كل سبيل ليصل إلى نفوس المشركين ويقنع الجاحدين ، ويثبّت المؤمنين ، ولوّن القرآن في طرق الهداية والدعوة ، ومواجهة النفوس الجامحة .

( فتارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر ، من الدلائل الموحية والمؤثرات الجارفة ، وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة ، وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة ، والمسارة الودود التي تهفو لها المشاعر وتأنس لها القلوب ، وتارة يواجهها بالهول المرعب والصرخة المفزعة التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب ، وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة ، وتارة يواجهها بالأمل والرجاء الذي يهتف لها ويناجيها ، وتارة يتخيل مساربها ودروبها ومنحنياتها ، فيلقى عليها الأضواء الكاشفة . . . ومئات اللمسات والمؤثرات ، يطلع عليها قارئ القرآن الكريم )i وهو يتابع تلك المعركة الطويلة التي قادها القرآن على عادات الجاهلية وركامها حتى انتصر عليها .

وسورة المعارج لون من ألوان البيان القرآني ، في تقرير حقيقة الآخرة ، وما فيها من جزاء ، وموازين هذا الجزاء ، وإقرار هذه الحقيقة في النفوس . وتكاد تكون لونا من ألوان السياط اللاذعة ، والأضواء الكاشفة التي ساقها القرآن لتفتح عيون المشركين على ما هم فيه من ضلال ، وما ينتظرهم من حساب وعقاب .

مع آيات السورة

1- 5- يسأل المشركونii رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال استهزاء عن العذاب الذي يخوفهم به ، ويجيب الله سبحانه بأنه واقع لا شك في وقوعه ، ولا يستطيع أحد دفعه ، وهذا العذاب من الله ذي الدرجات العلى ، ويأمر الله نبيه بالصبر الجميل الهادئ .

6- 14- كان الكفار ينكرون حقيقة الآخرة ، ويرونها بعيدة الوقوع ، وقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة ، وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهشة والاستغراب .

وقد بينت الآيات أن ذلك اليوم قريب الوقوع ، وكل آت قريب ، ثم رسمت مشاهد هذا اليوم في مجال الكون وأغوار النفس ، وهي مشاهد توحي بالهول الشديد في الكون وفي النفس . وفي يوم القيامة تكون السماء ، كالمهل . والمهل : ذوب المعادن الكدر ، أي كدردي الزيت . وتكون الجبال . كالعهن : أي كالصوف الواهن المنتفش ، ويتمنى الكافر في ذلك اليوم لو يفتدي من العذاب ببنيه ، وزوجته وأخيه ، وقبيلته وجميع من في الأرض وهي صورة للهول الشديد الذي يصيب الكافر فيتمنى النجاة ولو قدم أعز الناس إليه ، ومن كان يفتديهم بنفسه في الحياة .

15- 18- تردع الآيات هذا الكافر عن تلك الأماني المستحيلة ، في الافتداء بالبنين والعشيرة . وتبين للكافر أن ما أمامه هو النار ، تتلظى وتتحرق ، وتنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا ، وهي غول مفزعة تنادي من أعرض عن الحق ، وحرص على المال وبخل به ، ليدخل فيها .

19- 21- جبل الإنسان على الهلع فهو قليل الصبر ، شديد الحرص ، يجزع إذا نزل به الضر والألم ، فلا يتصور أن هناك فرجا ، ومن ثم يأكله الجزع ، ويمزقه الهلع ، كما يغلبه الحرص والبخل عند وجود المال والعافية .

22- 35- تستثنى الآيات المصلين ، فإنهم يحافظون على صلاتهم ، فتمنحهم الصلاة الثبات والاستقرار ، وتراهم صابرين في البأساء ، شاكرين في النعماء ، يخرجون زكاة أموالهم ، ويتصدقون على الفقراء ، ويصدقون بيوم الجزاء ، ويخافون غضب الله وعقابه ، ويتسمون بالاستقامة والعفة ، وحفظ الفروج عن الحرام ، والتمتع بالحلال من الزوجة وملك اليمين ، وأداء الشهادة بالحق والعدل ، والمحافظة على الصلاة في أوقاتها ، وأداء سننها وآدابها وخشوعها ، تلك الصفات هي صفات هذا الفريق المؤمن الذي يستحق الجنة والتكريم ، ويتمتع بالنعيم الحسي والنعيم الروحي : أولئك في جنات مكرمون . ( المعارج : 35 ) .

36 ، 37- تعرض الآيتان مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة ، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول يتلو القرآن ، ثم يتفرقون حواليه جماعات وفئات ، لا ليسمعوا ويهتدوا ، ولكن ليستطلعوا ثم يتفرقوا يدبرون الكيد والرد على ما سمعوا .

38- أيطمعون في دخول الجنة وهم على هذا الحال من الإعراض والتكذيب ؟

39- 41- لقد خلقوا من ماء مهين ، وهم يعلمون أصل خلقتهم ، إن الله قادر على أن يخلق خيرا منهم ، وهم لا يسبقونه ولا يفوتونه ، ولا يهربون من مصيرهم المحتوم .

42 ، 43- ثم تتجه الآيات في الختام إلى وعيدهم وتهديدهم بيوم الجزاء ، يوم يخرجون من القبور مسرعين ، كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه ، وهم ، يوفضون . أي يسرعون .

40- وترسم الآية الأخيرة سماتهم ، وتلمح صورة ذليلة عانية ، في ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون به ، فيستريبون فيه ويشكون .

المعنى الإجمالي للسورة

( بيان جزاء الكافر في استعجال العذاب ، وطول القيامة وهولها ، وشغل الخلائق في ذلك اليوم المهيب ، وتصوير النفس البشرية في السراء والضراء ، وبيان محافظة المؤمنين على خصال الخير ، وطمع الكفار في غير مطمع ، وذل الكافرين يوم القيامة )iii في قوله تعالى : خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون . ( المعارج : 44 ) .

أسماء السورة :

من أسماء السورة : سأل سائل لافتتاحها بذلك ، والمعارج لقوله تعالى فيها : من الله ذي المعارج .

أهوال القيامة

بسم اله الرحمان الرحيم

{ سأل سائل بعذاب واقع 1 للكافرين ليس له دافع 2 من الله ذي المعارج 3 تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة 4 فاصبر صبرا جميلا 5 إنهم يرونه بعيدا 6 ونراه قريبا 7 يوم تكون السماء كالمهل 8 وتكون الجبال كالعهن 9 ولا يسأل حميم حميما 10 يبصّرونهم يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه 11 وصاحبته وأخيه 12 وفصيلته التي تؤويه 13 ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه 14 كلاّ إنها لظى 15 نزّاعة للشوى 16 تدعوا من أدبر وتولّى 17 وجمع فأوعى 18* }

المفردات :

سأل سائل : دعا داع .

ليس له دافع : إنه واقع لا محالة ، ونازل وحاصل ، لا مانع يردّه .

المعارج : واحدها معرج وهو المصعد ( أسانسير ) ، أي صاحب المصاعد والدرجات التي تصعد فيها الملائكة من سماء إلى سماء .

الروح : جبريل عليه السلام .

1

التفسير :

1 ، 2 ، 3 ، 4- سأل سائل بعذاب واقع* للكافرين ليس له دافع* من الله ذي المعارج* تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .

دعا داع ، وطلب كافر من كفار مكة لنفسه ولقومه نزول عذاب واقع لا محالة ، والسائل هو النضر ابن الحارث ، من صناديد قريش وطواغيتها ، لما خوّفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال استهزاء : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . ( الأنفال : 32 ) .

فأهلكه الله يوم بدر ، ومات شرّ ميتة ، ونزلت الآية بذمّه ، وهذا العذاب نازل بالكافرين لا محالة ، لا يستطيع أحد أن يدفعه أو يمنعه ، لأنه من الله الغالب ، ولا يغلب الله غالب .

من الله ذي المعارج .

هذا العذاب نازل وصادر من الله تعالى ، صاحب المصاعد التي تصعد منها الملائكة وتنزل بأمره ووحيه .

تعرج الملائكة والروح إليه . . .

تصعد الملائكة وجبريل الأمين من سماء إلى سماء ، إلى عرش الرحمان ، حيث تهبط أوامره سبحانه وتعالى ، ويد القدرة تمسك بزمام هذا الكون ، وترفع السماء ، وتبسط الأرض ، وتسخّر السحاب والفضاء ، وتيسّر مصاعد الملائكة إليه ومعها أعمال العباد .

روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة العصر وفي صلاة الفجر ، اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . ( الإسراء : 78 ) . فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم ربّهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : يا ربنا ، تركناهم وهم يصلّون ، وأتيناهم وهم يصلّون ، فاغفر لهم يوم الدّين )iv .

والملائكة عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .

في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .

أي : ذلك العذاب واقع لهؤلاء الكفار في يوم طويل ، يمتد إلى خمسين ألف سنة .

قال ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، ثم يدخلون النار للاستقرار .

والجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدّون . ( السجدة : 5 ) .

أن القيامة مواقف ومواطن ، فيها خمسون موطنا ، كل موطن ألف سنة ( وأن هذه المدة الطويلة تخفّ على المؤمن حتى تكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا )v .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المعارج

مكية وآياتها أربع وأربعون

{ سأل سائل } قرأ أهل المدينة والشام " سال " بغير همز وقرأ الآخرون بالهمز ، فمن همز فهو من السؤال ، ومن قرأ بغير همز قيل : هو لغة في السؤال ، يقال : سال يسال مثل خاف يخاف ، يعني سأل يسأل خفف الهمزة وجعلها ألفاً . وقيل : هو من السيل ، وسال واد من أودية جهنم ، يروى ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والأول أصح . واختلفوا في الباء في قوله : { بعذاب } قيل : هي بمعنى " عن " كقوله : { فاسأل به خبيرا }( الأنفال-32 ) أي عنه خبيراً . ومعنى الآية : سأل عن عذاب ، { واقع } نازل كائن على من ينزل ولمن ذلك العذاب .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

مكية وهي أربعون وثلاث آيات

{ سأل سائل } دعا داع .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية باتفاق . وهي أربع وأربعون آية .

قوله تعالى : " سأل سائل بعذاب واقع " قرأ نافع وابن عامر " سال سايل " بغير همزة . الباقون بالهمز . فمن همز فهو من السؤال . والباء يجوز أن تكون زائدة ، ويجوز أن تكون بمعنى عن . والسؤال بمعنى الدعاء ، أي دعا داع بعذاب ، عن ابن عباس وغيره . يقال : دعا على فلان بالويل ، ودعا عليه بالعذاب . ويقال : دعوت زيدا ، أي التمست إحضاره . أي التمس ملتمس عذابا للكافرين ، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة . وعلى هذا فالباء زائدة ، كقوله تعالى : " تنبت بالدهن{[15328]} " [ المؤمنون : 20 ] ، وقوله . " وهزي إليك بجذع النخلة{[15329]} " [ مريم : 25 ] فهي تأكيد . أي سأل سائل عذابا واقعا . " للكافرين " أي على الكافرين . وهو النضر بن الحارث حيث قال : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم{[15330]} " [ الأنفال : 32 ] فنزل سؤاله ، وقتل يوم بدر صبرا{[15331]} هو وعقبة بن أبي معيط ، لم يقتل صبرا غيرهما ، قاله ابن عباس ومجاهد . وقيل : إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري . وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك ، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك ، ونزكي أموالنا فقبلناه منك ، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك ، وأن نحج فقبلناه منك ، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا ! أفهذا شيء منك أم من الله ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله ) فولّى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله ؛ فنزلت : " سأل سائل بعذاب واقع " الآية . وقيل : إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك ، قاله الربيع . وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش . وقيل : هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين . وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار ، وهو واقع بهم لا محالة . وامتد الكلام إلى قوله تعالى : " فاصبر صبرا جميلا " [ المعارج : 5 ] أي لا تستعجل فإنه قريب . وإذا كانت الباء بمعنى عن - وهو قول قتادة - فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن يقع أو متى يقع . قال الله تعالى : " فاسأل به خبيرا{[15332]} " [ الفرقان : 59 ] أي سل عنه . وقال علقمة :

فإن تسألوني بالنِّسَاء فإنني *** بصيرٌ بأدواءِ النساءِ طبيبُ

أي عن النساء . ويقال : خرجنا نسأل عن فلان وبفلان . فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون .


[15328]:راجع جـ 12 ص 114.
[15329]:راجع جـ 11 ص 94.
[15330]:راجع جـ 81 ص 398.
[15331]:الصبر: نصب الإنسان للقتل.
[15332]:راجع جـ 13 ص 63.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

سورة سأل وتسمى المعارج{[1]}

مقصودها إثبات القيامة وإنذار من كفر بها وتصوير عظمتها بعظمة ملكها وطول يومها وتسلية المنذر بها بما لمن كذبه بما له من الصغار والذل والتبار{[2]} ودل على وجوب وقوعها سابقا بما {[3]}ختمه بتسميتها{[4]} في السورة الماضية بالحاقة تنبيها على أنه لا بد منها ولا محيد عنها ، ودل على ذلك بالقدرة في أولها والعلم في أثنائها و{[5]}التّنزه عما في إهمالها من النقص في آخرها/ ولا خفاء بما أخبر من أنه أرسل جميع رسله بالتحذير منها فأرسل نوحا عليه السلام في الزمان الأقدم كما ذكر في سورته عند ما اختلف الناس بعد ما كانوا عليه في زمان أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام من الإتفاق{[6]} على الدين الحق فافترقوا إلى مصدق ومكذب ، فعلم منه أن من بعده أولى بذلك لقربهم منها ، وأتبع ذلك الإعلام أنه دعا إلى ذلك الجن الذين كان سبيلهم فيها سبيل الآدميين ، وأتبع ذلك- ]{[7]} بعد إرسال أول الرسل بها زمانا- آخرهم زمانا وأولهم نبوة حين كان نبيا وآدم بين الروح والجسد ، فبدأ في سورة المزمل بنبوته{[8]} ومزيد تزكيته وتقديسه ورفعته والإخبار عن رسالته والتحذير من مخالفته ، وأتبع ذلك الإنذار{[9]} بها بالصدع بالرسالة بمحو كل ضلالة ، فلما تقررت نبوته وثبتت رسالته على أجمل الوجوه وأجلاها وأبينها وأعلاها وأشرفها وأولاها ، جعل سبحانه سورة القيامة كلها لها إعلاما بأن الأمر [ عظيم- ]{[10]} جدا يجب الاعتناء به والتأهب له والاجتهاد بغاية القوة وإفراغ الجهد ، ثم أتبع ذلك الإنسان دلالة على أنه المقصود بالذات من الأكوان ، فلا يسوغ في الحكمة أن يجعله سبحانه سدى ، وبين كثيرا من أحوالها ثم أقسم في المرسلات أن أمرها حق لا بد منه ولا مندوحة عنه ، ثم عجب في " عم " [ منهم-{[11]} ] في تساؤلهم عنها وتعجيبهم منها ثم أقسم على وقوعها في النازعات وصور من أمرها وهزاهزها ما أراد ، ثم أولى ذلك الدلالة في سورة عبس على أن من الناس من طبع على قلبه فلا حيلة في تصديقه بها مع ما يتبين بالسورة الماضية وغيرها من أمرها ، ثم صورها في " كورت " تصويرا صارت من رأى عين لو كشف الغطاء ما ازداد الموقنون بها يقينا ، ثم بين في الانفطار أن الأمور فيها ليست على منهاج الأمور هنا ، بل الأسباب كلها منقطعة والأنساب مرتفعة ، والكل خاضعون مخبتون خاشعون ، أعظمهم في الدنيا تجبرا أشدهم{[12]} هنالك صغارا وتحسرا ، ثم أتبع ذلك من يستحق هنالك النكال والسلاسل والأغلال ، ثم أولاه رفعة أهل الإيمان الذين طبعهم على الإقرار بها والعرفان ، واستمر [ على{[13]}- ] هذا إلى آخر القرآن قل أن تأتي سورة إلا وهي معرفة بها غاية المعرفة إلى أن ختم بالدين إشارة بذلك إلى أن معرفتها هي [ الدين-{[14]} ] .

وأشار في " تبت " إليها وأتبعها الإخلاص إشارة إلى أنه لا يسلم فيهال إلا الموحدون المعاذون من الفتن الظاهرة والباطنة ، المتصفون بالمحامد المتعاظمة المتكاثرة ، فآذن ذلك أن أكثر غاية القرآن في أمرها العظيم الشأن لأنه/{[15]}لا كتاب بعد هذا الكتاب{[16]} ينتظر ولا أمة أشرف من هذه {[17]}تخص بيان{[18]} أعظم من بيانها وهو{[19]} أحد الأوجه التي فاق بها القرآن على الكتب الماضية والصحف الكائنة في القرون الخالية ، وآذن ذلك بأن الأمر قد قرب والهول قد دهم والخوف قد قدح ، ليشمر أهل الاختصاص في النجاة من عذابها والخلاص ، حين لا مفر ولا ملجأ ولات حين مناص ، نسأل الله العافية في يومها والعيشة الراضية ، وعلى هذا المقصد دل اسمها " سأل " وكذا المعارج وهما أنسب ما فيها للدلالة على ذلك ، وقانا الله سبحانه وتعالى من آفاتها والمهالك آمين ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي تنقطع{[20]} الأعناق والآمال{[21]} دون عليائه ( الرحمان ) الذي أوضح نعمة البيان وعم بها وشهرها حتى صارت في الوضوح إلى حد لا مطمع [ لأحد{[22]} ] في [ ادعاء-{[23]} ] خفائه ( الرحيم ) الذي [ اصطفى- ]{[24]} من عباده{[25]} من وفقه [ للفهم-{[26]} ] عنه والطاعة له ، فكان من أوليائه .

لما ختم أمر الطامة الكبرى في الحاقة حتى{[68255]} ثبت أمره ، وتساوى سره وجهره ، {[68256]}ودل عليها{[68257]} حتى لم يبق هناك نوع لبس في وجوب التفرقة في الحكمة بين {[68258]}المحسن والمسيء{[68259]} ، وختم بأن ترك ذلك مناف للكمال فيما نتعارقه{[68260]} من أمور العمال{[68261]} بعد أن أخبر أنه يعلم أن منهم مكذبين ، وكان السائل عن شيء يدل على أن{[68262]} السائل ما فهمه حق فهمه ، ولا اتصف بحقيقة علمه ، عجب في أول هذه ممن سأل عنها فقال : { سأل } ودل على أنه لو لم يسأل عنها إلا واحد من العباد لكان جديراً بالتعجب منه والإنكار عليه بالإفراد في قوله : { سائل } وهو من السؤال في قراءتي من خفف بإبدال الهمزة ألفاً ومن همز .

ولما كان سؤالهم من وقت مجيء الساعة والعذاب وطلبهم تعجيل ذلك إنما هو استهزاء ، ضمن " سأل " استهزاء ثم حذفه ودل عليه بحال انتزعها منه وحذفها ودل عليها بما تعدى به فقال ، أو أنه حذف مفعول السؤال المتعدي " بعن " ليعم{[68263]} كل مسؤول عنه إشارة إلى أن من{[68264]} تأمل الفطرة الأولى وما تدعو إليه من الكمال فأطاعها فكان مسلماً فاضت عليه العلوم ، وبرقت له متجليه أشعة الفهوم ، فبين المراد من دلالة النص بقوله : { بعذاب } أي عن يوم القيامة بسبب عذاب أو مستهزئاً بعذاب عظيم جداً { واقع * }


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[9]:- سورة 38 آية 29.
[10]:- في م وظ: اخرجه.
[11]:- ليس في م.
[12]:- ليس في م.
[13]:- في النسخ كلها: لا، وفي البخاري: ما، وقول علي رضي الله عنه نقل من البخاري فأثبتناها.
[14]:- في ظ: فهما، وفي متن البخاري كذلك، وعلى حاشيته: فهم.
[15]:- في ظ ومد: عمرو.
[16]:- من م ومد وظ، وفي الأصل: فابتغوا.
[17]:- من م ومد وظ، وهو الصحيح لما في البخاري: عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، وفي الأصل: بكر.
[18]:- زيد في م: عنى.
[19]:- من م ومد وظ، وفي الأصل: هذا و – كذا.
[20]:- وفي مد: عنهما.
[21]:- في م: فقه.
[22]:- قال الشيخ العارف بالله أبو محمد روزبهان ابن أبي النصر البقلي الشيرازي في تفسيره المسمى بعرائس البيان في حقائق القرآن ما نصه: قال جعفر بن محمد: كتاب الله على أربعة أشياء: العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فالعبارة للعوام والإشارة للخواص واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما من آية إلا ولها أربعة معان: ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة والباطن الفهم والحد هو احكام الحلال والحرام والمطلع هو مراد الله من العبد به، قيل: القرآن عبارة – الخ؛ لمزيد التفصيل فليراجع ج1 ص4.
[23]:- في م ومد: تعرفه.
[24]:- زيد في م وظ: يعنى علما.
[25]:- ليست هذه العبارة في ظ ولفظ "الدين" فقط ليس في م.
[26]:- من م ومد وظ؛ وفي الأصل: فأمدى.
[68255]:- في ظ وم: حتما
[68256]:-من ظ وم، وفي الأصل: كل فيها.
[68257]:- من ظ وم، وفي الأصل: كل فيها.
[68258]:- من ظ وم، وفي الأصل: المسيء والمحسن.
[68259]:- من ظ وم، وفي الأصل: المسيء والمحسن.
[68260]:- من ظ وم، وفي الأصل: مفارقة.
[68261]:- من ظ وم، وفي الأصل: الثماني.
[68262]:- زيد من ظ وم.
[68263]:- من ظ وم، وفي الأصل: ليتم.
[68264]:-زيد من ظ وم.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مكية ، وآياتها أربع وأربعون . ويقع الحديث عن القيامة وأهوالها وأحداثها في شطر عظيم من السورة . والحديث عن أمر الساعة وأخبارها وويلاتها ونوازلها يحتل من سور القرآن وآياته متسعا كبيرا . وذلك يكشف عن بالغ الأهمية لهذه الحقيقة الكونية العظمى وهي فناء العالم وقيام الناس لرب العالمين .

ويبين الله في السورة حقيقة الإنسان على أنه هلوع ، فهو بذلك جزوع بالشر ، منوع عند الخير . باستثناء المؤمنين الذين يخشون الله فيطيعون أوامره ويلتزمون أحكام دينه . وغير ذلك من ألوان التذكير والتحذير .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ سأل سائل بعذاب واقع 1 للكافرين ليس له دافع 2 من الله ذي المعارج 3 تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة 4 فاصبر صبرا جميلا 5 إنهم يرونه بعيدا 6 ونراه قريبا 7 يوم تكون السماء كالمهل 8 وتكون الجبال كالعهن 9 ولا يسئل حميم حميما } .

ذكر أن السائل هو النضر بن الحارث إذ قال : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } فنزل سؤاله وقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط ، ولم يقتل صبرا{[4625]} غيرهما وسأل ، بالهمز معناه دعا . فالسؤال ههنا يراد به الدعاء . والمعنى : دعا داع بعذاب . كما تقول : دعا على فلان بالويل أو بالعذاب . والمقصود بالسؤال هنا سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم لا محالة .


[4625]:أسباب النزول للنيسابوري ص 294 وتفسير القرطبي جت 18 ص 278.