( سورة المعارج مكية ، وآياتها 44 آية ، نزلت بعد سورة الحاقة )
تبدأ السورة بهذا المطلع المتميز ، وهو سؤال سأله أحد الكافرين عن يوم القيامة ، سؤال تهكم أو استعجال لهذا اليوم .
وفي الإجابة على هذا السؤال وصفت السورة يوم القيامة وألوان الهوان النفسي والحسي الذي يصيب الكافرين فيه ، ثم وصفت هلع الإنسان وجزعه ، واستثنت المؤمنين الموصولين بالله ، فهم في يقين ثابت وأدب كريم .
سورة المعارج جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها القرآن في داخل النفس البشرية ، وخلال دروبها ومنحنياتها ، ورواسبها وركامها ، وهي أضخم من المعارك الحربية .
لقد سلك القرآن كل سبيل ليصل إلى نفوس المشركين ويقنع الجاحدين ، ويثبّت المؤمنين ، ولوّن القرآن في طرق الهداية والدعوة ، ومواجهة النفوس الجامحة .
( فتارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر ، من الدلائل الموحية والمؤثرات الجارفة ، وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة ، وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة ، والمسارة الودود التي تهفو لها المشاعر وتأنس لها القلوب ، وتارة يواجهها بالهول المرعب والصرخة المفزعة التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب ، وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة ، وتارة يواجهها بالأمل والرجاء الذي يهتف لها ويناجيها ، وتارة يتخيل مساربها ودروبها ومنحنياتها ، فيلقى عليها الأضواء الكاشفة . . . ومئات اللمسات والمؤثرات ، يطلع عليها قارئ القرآن الكريم )i وهو يتابع تلك المعركة الطويلة التي قادها القرآن على عادات الجاهلية وركامها حتى انتصر عليها .
وسورة المعارج لون من ألوان البيان القرآني ، في تقرير حقيقة الآخرة ، وما فيها من جزاء ، وموازين هذا الجزاء ، وإقرار هذه الحقيقة في النفوس . وتكاد تكون لونا من ألوان السياط اللاذعة ، والأضواء الكاشفة التي ساقها القرآن لتفتح عيون المشركين على ما هم فيه من ضلال ، وما ينتظرهم من حساب وعقاب .
1- 5- يسأل المشركونii رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال استهزاء عن العذاب الذي يخوفهم به ، ويجيب الله سبحانه بأنه واقع لا شك في وقوعه ، ولا يستطيع أحد دفعه ، وهذا العذاب من الله ذي الدرجات العلى ، ويأمر الله نبيه بالصبر الجميل الهادئ .
6- 14- كان الكفار ينكرون حقيقة الآخرة ، ويرونها بعيدة الوقوع ، وقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة ، وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهشة والاستغراب .
وقد بينت الآيات أن ذلك اليوم قريب الوقوع ، وكل آت قريب ، ثم رسمت مشاهد هذا اليوم في مجال الكون وأغوار النفس ، وهي مشاهد توحي بالهول الشديد في الكون وفي النفس . وفي يوم القيامة تكون السماء ، كالمهل . والمهل : ذوب المعادن الكدر ، أي كدردي الزيت . وتكون الجبال . كالعهن : أي كالصوف الواهن المنتفش ، ويتمنى الكافر في ذلك اليوم لو يفتدي من العذاب ببنيه ، وزوجته وأخيه ، وقبيلته وجميع من في الأرض وهي صورة للهول الشديد الذي يصيب الكافر فيتمنى النجاة ولو قدم أعز الناس إليه ، ومن كان يفتديهم بنفسه في الحياة .
15- 18- تردع الآيات هذا الكافر عن تلك الأماني المستحيلة ، في الافتداء بالبنين والعشيرة . وتبين للكافر أن ما أمامه هو النار ، تتلظى وتتحرق ، وتنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا ، وهي غول مفزعة تنادي من أعرض عن الحق ، وحرص على المال وبخل به ، ليدخل فيها .
19- 21- جبل الإنسان على الهلع فهو قليل الصبر ، شديد الحرص ، يجزع إذا نزل به الضر والألم ، فلا يتصور أن هناك فرجا ، ومن ثم يأكله الجزع ، ويمزقه الهلع ، كما يغلبه الحرص والبخل عند وجود المال والعافية .
22- 35- تستثنى الآيات المصلين ، فإنهم يحافظون على صلاتهم ، فتمنحهم الصلاة الثبات والاستقرار ، وتراهم صابرين في البأساء ، شاكرين في النعماء ، يخرجون زكاة أموالهم ، ويتصدقون على الفقراء ، ويصدقون بيوم الجزاء ، ويخافون غضب الله وعقابه ، ويتسمون بالاستقامة والعفة ، وحفظ الفروج عن الحرام ، والتمتع بالحلال من الزوجة وملك اليمين ، وأداء الشهادة بالحق والعدل ، والمحافظة على الصلاة في أوقاتها ، وأداء سننها وآدابها وخشوعها ، تلك الصفات هي صفات هذا الفريق المؤمن الذي يستحق الجنة والتكريم ، ويتمتع بالنعيم الحسي والنعيم الروحي : أولئك في جنات مكرمون . ( المعارج : 35 ) .
36 ، 37- تعرض الآيتان مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة ، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول يتلو القرآن ، ثم يتفرقون حواليه جماعات وفئات ، لا ليسمعوا ويهتدوا ، ولكن ليستطلعوا ثم يتفرقوا يدبرون الكيد والرد على ما سمعوا .
38- أيطمعون في دخول الجنة وهم على هذا الحال من الإعراض والتكذيب ؟
39- 41- لقد خلقوا من ماء مهين ، وهم يعلمون أصل خلقتهم ، إن الله قادر على أن يخلق خيرا منهم ، وهم لا يسبقونه ولا يفوتونه ، ولا يهربون من مصيرهم المحتوم .
42 ، 43- ثم تتجه الآيات في الختام إلى وعيدهم وتهديدهم بيوم الجزاء ، يوم يخرجون من القبور مسرعين ، كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه ، وهم ، يوفضون . أي يسرعون .
40- وترسم الآية الأخيرة سماتهم ، وتلمح صورة ذليلة عانية ، في ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون به ، فيستريبون فيه ويشكون .
( بيان جزاء الكافر في استعجال العذاب ، وطول القيامة وهولها ، وشغل الخلائق في ذلك اليوم المهيب ، وتصوير النفس البشرية في السراء والضراء ، وبيان محافظة المؤمنين على خصال الخير ، وطمع الكفار في غير مطمع ، وذل الكافرين يوم القيامة )iii في قوله تعالى : خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون . ( المعارج : 44 ) .
من أسماء السورة : سأل سائل لافتتاحها بذلك ، والمعارج لقوله تعالى فيها : من الله ذي المعارج .
{ سأل سائل بعذاب واقع 1 للكافرين ليس له دافع 2 من الله ذي المعارج 3 تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة 4 فاصبر صبرا جميلا 5 إنهم يرونه بعيدا 6 ونراه قريبا 7 يوم تكون السماء كالمهل 8 وتكون الجبال كالعهن 9 ولا يسأل حميم حميما 10 يبصّرونهم يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه 11 وصاحبته وأخيه 12 وفصيلته التي تؤويه 13 ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه 14 كلاّ إنها لظى 15 نزّاعة للشوى 16 تدعوا من أدبر وتولّى 17 وجمع فأوعى 18* }
ليس له دافع : إنه واقع لا محالة ، ونازل وحاصل ، لا مانع يردّه .
المعارج : واحدها معرج وهو المصعد ( أسانسير ) ، أي صاحب المصاعد والدرجات التي تصعد فيها الملائكة من سماء إلى سماء .
1 ، 2 ، 3 ، 4- سأل سائل بعذاب واقع* للكافرين ليس له دافع* من الله ذي المعارج* تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
دعا داع ، وطلب كافر من كفار مكة لنفسه ولقومه نزول عذاب واقع لا محالة ، والسائل هو النضر ابن الحارث ، من صناديد قريش وطواغيتها ، لما خوّفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال استهزاء : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . ( الأنفال : 32 ) .
فأهلكه الله يوم بدر ، ومات شرّ ميتة ، ونزلت الآية بذمّه ، وهذا العذاب نازل بالكافرين لا محالة ، لا يستطيع أحد أن يدفعه أو يمنعه ، لأنه من الله الغالب ، ولا يغلب الله غالب .
هذا العذاب نازل وصادر من الله تعالى ، صاحب المصاعد التي تصعد منها الملائكة وتنزل بأمره ووحيه .
تعرج الملائكة والروح إليه . . .
تصعد الملائكة وجبريل الأمين من سماء إلى سماء ، إلى عرش الرحمان ، حيث تهبط أوامره سبحانه وتعالى ، ويد القدرة تمسك بزمام هذا الكون ، وترفع السماء ، وتبسط الأرض ، وتسخّر السحاب والفضاء ، وتيسّر مصاعد الملائكة إليه ومعها أعمال العباد .
روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة العصر وفي صلاة الفجر ، اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . ( الإسراء : 78 ) . فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم ربّهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : يا ربنا ، تركناهم وهم يصلّون ، وأتيناهم وهم يصلّون ، فاغفر لهم يوم الدّين )iv .
والملائكة عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
أي : ذلك العذاب واقع لهؤلاء الكفار في يوم طويل ، يمتد إلى خمسين ألف سنة .
قال ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، ثم يدخلون النار للاستقرار .
والجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدّون . ( السجدة : 5 ) .
أن القيامة مواقف ومواطن ، فيها خمسون موطنا ، كل موطن ألف سنة ( وأن هذه المدة الطويلة تخفّ على المؤمن حتى تكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا )v .
سورة المعارج مكية وآياتها أربع وأربعون ، نزلت بعد الحاقة . وسميت " سورة المعارج " لقوله تعالى " من الله ذي المعارج " يعني ذات الدرجات الرفيعة . وقد سماها الطبري : سورة " سأل سائل " ، وهي كالتتمة لها في وصف القيامة وعذاب النار وحقيقة الآخرة التي تصدّت لها . ولكن سورة المعارج تعالجها بطريقة أخرى ، فتذكر أن عذاب الكافرين الذي طلبوه لابد واقع ، من الله صاحب الرفعة ورفيع الدرجات ، في يوم مقداره خمسون ألف سنة من سنين الدنيا . وفيها أمِر الرسول الكريم أن يصبر على استهزائهم واستعجالهم العذاب ، وأنه آت قريب . ثم يعقُب وصف ذلك اليوم كيف تكون السماء ، والأرض والجبال ، وكيف يُشغل كل امرئ بنفسه فلا يسأل عن أحد من أقربائه وأصدقائه . وكيف يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب ذلك اليوم ببنيه وزوجته وأخيه وعشيرته ، ولكن كل ذلك
لا يُغنيه شيئا ، ولا أحد من جميع من في الأرض يستطيع أن ينجيه . وتتحدث السورة بعد ذلك عن جهنم وأهوالها .
ثم تتناول النفس البشر البشرية وكيف تكون في الضراء والسراء ، وأن الإنسان طُبع على الهلع والجزع إذا مسه المكروه والعسر ، شديد المنع والحرمان إذا أصابه الخير واليسر ، إلا المؤمنين المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون ، فإن الله يعصمهم ويوفقهم إلى الخير . وقد أفاضت السورة في مدحهم وتعداد أوصافهم ، فأولئك المؤمنون { في جنات مُكرمون } من الله تعالى .
وكذلك في السورة إنكار على الكافرين لأطماعهم الفاسدة . ثم يأتي الختام بوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتركهم على سفههم ولعبهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون .
كان زعماءُ قريش كثيراً ما يسألون الرسولَ الكريم عن موضوع القيامة ، ويقولون إنّ محمداً يخوّفُنا بالعذاب ، فما هذا العذاب ؟ ومتى يكون ؟ وكان النضرُ بن الحارث ومعه كثيرون يقولون ، منكرين ومستهزئين : متى هذا الوعد ؟ وينكرون البعثَ والجزاءَ أشدَّ الإنكار . فردّ الله عليهم بهذه السورة الكريمة .
إن العذابَ الذي طلبه السائلون واقعٌ بهم لا محالة .
قرأ الجمهور : سأل سائل بالهمزة . وقرأ نافع وابن عامر : سال بغير همزة .
{ سأل سائل } قرأ أهل المدينة والشام " سال " بغير همز وقرأ الآخرون بالهمز ، فمن همز فهو من السؤال ، ومن قرأ بغير همز قيل : هو لغة في السؤال ، يقال : سال يسال مثل خاف يخاف ، يعني سأل يسأل خفف الهمزة وجعلها ألفاً . وقيل : هو من السيل ، وسال واد من أودية جهنم ، يروى ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والأول أصح . واختلفوا في الباء في قوله : { بعذاب } قيل : هي بمعنى " عن " كقوله : { فاسأل به خبيرا }( الأنفال-32 ) أي عنه خبيراً . ومعنى الآية : سأل عن عذاب ، { واقع } نازل كائن على من ينزل ولمن ذلك العذاب .
{ سأل سائل بعذاب واقع } من قرأ سائل بالهمز احتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون بمعنى : الدعاء أي : دعا داع بعذاب واقع ، وقد تكون الإشارة إلى قول الكفار أمطر علينا حجارة من السماء وكان الذي قالها النضر بن الحارث .
والآخر : أن يكون بمعنى الاستخبار أي : سأل سائل عن عذاب واقع ، والباء على هذا بمعنى عن وتكون الإشارة إلى قوله : { متى هذا الوعد } وغير ذلك .
وأما من قرأ سال بغير همز فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مخففا من المهموز ، فيكون فيه المعنيان المذكوران .
والثاني : أن يكون من سال السيل إذا جرى ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس سال سيل ، وتكون الباء على هذا كقولك ذهبت بزيد ، وإذا كان من السيل احتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون شبه العذاب في شدته وسرعة وقوعه بالسيل .
وثانيهما : أن تكون حقيقة قال زيد بن ثابت : في جهنم واد يقال له : سائل فتلخص من هذا أن في القراءة بالهمز يحتمل معنيين وفي القراءة بغير همز أربعة معان .
سورة سأل وتسمى المعارج{[1]}
مقصودها إثبات القيامة وإنذار من كفر بها وتصوير عظمتها بعظمة ملكها وطول يومها وتسلية المنذر بها بما لمن كذبه بما له من الصغار والذل والتبار{[2]} ودل على وجوب وقوعها سابقا بما {[3]}ختمه بتسميتها{[4]} في السورة الماضية بالحاقة تنبيها على أنه لا بد منها ولا محيد عنها ، ودل على ذلك بالقدرة في أولها والعلم في أثنائها و{[5]}التّنزه عما في إهمالها من النقص في آخرها/ ولا خفاء بما أخبر من أنه أرسل جميع رسله بالتحذير منها فأرسل نوحا عليه السلام في الزمان الأقدم كما ذكر في سورته عند ما اختلف الناس بعد ما كانوا عليه في زمان أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام من الإتفاق{[6]} على الدين الحق فافترقوا إلى مصدق ومكذب ، فعلم منه أن من بعده أولى بذلك لقربهم منها ، وأتبع ذلك الإعلام أنه دعا إلى ذلك الجن الذين كان سبيلهم فيها سبيل الآدميين ، وأتبع ذلك- ]{[7]} بعد إرسال أول الرسل بها زمانا- آخرهم زمانا وأولهم نبوة حين كان نبيا وآدم بين الروح والجسد ، فبدأ في سورة المزمل بنبوته{[8]} ومزيد تزكيته وتقديسه ورفعته والإخبار عن رسالته والتحذير من مخالفته ، وأتبع ذلك الإنذار{[9]} بها بالصدع بالرسالة بمحو كل ضلالة ، فلما تقررت نبوته وثبتت رسالته على أجمل الوجوه وأجلاها وأبينها وأعلاها وأشرفها وأولاها ، جعل سبحانه سورة القيامة كلها لها إعلاما بأن الأمر [ عظيم- ]{[10]} جدا يجب الاعتناء به والتأهب له والاجتهاد بغاية القوة وإفراغ الجهد ، ثم أتبع ذلك الإنسان دلالة على أنه المقصود بالذات من الأكوان ، فلا يسوغ في الحكمة أن يجعله سبحانه سدى ، وبين كثيرا من أحوالها ثم أقسم في المرسلات أن أمرها حق لا بد منه ولا مندوحة عنه ، ثم عجب في " عم " [ منهم-{[11]} ] في تساؤلهم عنها وتعجيبهم منها ثم أقسم على وقوعها في النازعات وصور من أمرها وهزاهزها ما أراد ، ثم أولى ذلك الدلالة في سورة عبس على أن من الناس من طبع على قلبه فلا حيلة في تصديقه بها مع ما يتبين بالسورة الماضية وغيرها من أمرها ، ثم صورها في " كورت " تصويرا صارت من رأى عين لو كشف الغطاء ما ازداد الموقنون بها يقينا ، ثم بين في الانفطار أن الأمور فيها ليست على منهاج الأمور هنا ، بل الأسباب كلها منقطعة والأنساب مرتفعة ، والكل خاضعون مخبتون خاشعون ، أعظمهم في الدنيا تجبرا أشدهم{[12]} هنالك صغارا وتحسرا ، ثم أتبع ذلك من يستحق هنالك النكال والسلاسل والأغلال ، ثم أولاه رفعة أهل الإيمان الذين طبعهم على الإقرار بها والعرفان ، واستمر [ على{[13]}- ] هذا إلى آخر القرآن قل أن تأتي سورة إلا وهي معرفة بها غاية المعرفة إلى أن ختم بالدين إشارة بذلك إلى أن معرفتها هي [ الدين-{[14]} ] .
وأشار في " تبت " إليها وأتبعها الإخلاص إشارة إلى أنه لا يسلم فيهال إلا الموحدون المعاذون من الفتن الظاهرة والباطنة ، المتصفون بالمحامد المتعاظمة المتكاثرة ، فآذن ذلك أن أكثر غاية القرآن في أمرها العظيم الشأن لأنه/{[15]}لا كتاب بعد هذا الكتاب{[16]} ينتظر ولا أمة أشرف من هذه {[17]}تخص بيان{[18]} أعظم من بيانها وهو{[19]} أحد الأوجه التي فاق بها القرآن على الكتب الماضية والصحف الكائنة في القرون الخالية ، وآذن ذلك بأن الأمر قد قرب والهول قد دهم والخوف قد قدح ، ليشمر أهل الاختصاص في النجاة من عذابها والخلاص ، حين لا مفر ولا ملجأ ولات حين مناص ، نسأل الله العافية في يومها والعيشة الراضية ، وعلى هذا المقصد دل اسمها " سأل " وكذا المعارج وهما أنسب ما فيها للدلالة على ذلك ، وقانا الله سبحانه وتعالى من آفاتها والمهالك آمين ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي تنقطع{[20]} الأعناق والآمال{[21]} دون عليائه ( الرحمان ) الذي أوضح نعمة البيان وعم بها وشهرها حتى صارت في الوضوح إلى حد لا مطمع [ لأحد{[22]} ] في [ ادعاء-{[23]} ] خفائه ( الرحيم ) الذي [ اصطفى- ]{[24]} من عباده{[25]} من وفقه [ للفهم-{[26]} ] عنه والطاعة له ، فكان من أوليائه .
لما ختم أمر الطامة الكبرى في الحاقة حتى{[68255]} ثبت أمره ، وتساوى سره وجهره ، {[68256]}ودل عليها{[68257]} حتى لم يبق هناك نوع لبس في وجوب التفرقة في الحكمة بين {[68258]}المحسن والمسيء{[68259]} ، وختم بأن ترك ذلك مناف للكمال فيما نتعارقه{[68260]} من أمور العمال{[68261]} بعد أن أخبر أنه يعلم أن منهم مكذبين ، وكان السائل عن شيء يدل على أن{[68262]} السائل ما فهمه حق فهمه ، ولا اتصف بحقيقة علمه ، عجب في أول هذه ممن سأل عنها فقال : { سأل } ودل على أنه لو لم يسأل عنها إلا واحد من العباد لكان جديراً بالتعجب منه والإنكار عليه بالإفراد في قوله : { سائل } وهو من السؤال في قراءتي من خفف بإبدال الهمزة ألفاً ومن همز .
ولما كان سؤالهم من وقت مجيء الساعة والعذاب وطلبهم تعجيل ذلك إنما هو استهزاء ، ضمن " سأل " استهزاء ثم حذفه ودل عليه بحال انتزعها منه وحذفها ودل عليها بما تعدى به فقال ، أو أنه حذف مفعول السؤال المتعدي " بعن " ليعم{[68263]} كل مسؤول عنه إشارة إلى أن من{[68264]} تأمل الفطرة الأولى وما تدعو إليه من الكمال فأطاعها فكان مسلماً فاضت عليه العلوم ، وبرقت له متجليه أشعة الفهوم ، فبين المراد من دلالة النص بقوله : { بعذاب } أي عن يوم القيامة بسبب عذاب أو مستهزئاً بعذاب عظيم جداً { واقع * }