( سورة المدثر مكية ، وآياتها 56 آية ، نزلت بعد سورة المزمل )
وينطبق على سورة المدثر –من ناحية سبب نزولها ، ووقت نزولها- ما ينطبق على سورة المزمل . فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق ، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة ، وإيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم .
ويمكن التوفيق بين هذه الروايات ، بأن صدر سورة المدثر أول ما نزل من القرآن بعد سورة العلق ، وهو من أول السورة إلى قوله تعالى : ولربك فاصبر . ( المدثر : 7 ) .
وأن الآيات التالية قد نزلت بعد الجهر بالدعوة ، وربما كانت تعني شخصا معينا هو الوليد بن المغيرةi .
وأيا ما كان السبب والمناسبة ، فقد تضمنت السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي ، بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل ، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة . ( انظر الآيات من 1-7 ) .
ثم تضمنت بعد هذا تهديدا ووعيدا للمكذبين بالآخرة ، وبحرب الله مباشرة ، كما تضمنت سورة المزمل سواء بسواء . ( انظر الآيات من 8-17 ) .
وتعيّن سورة المدثر أحد المكذبين بصفته ، وترسم مشهدا من مشاهد كيده ، على نحو ما ورد في سورة القلم ، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحدا ، وقد قيل إنه الوليد بن المغيرة . ( انظر الآيات من 18-30 ) .
ثم تتحدث السورة عن عالم الغيب ، ووصف سقر ، والملائكة القائمين عليها ، وعددهم وامتحان الله لعباده بذلك العدد ، وذلك في آية واحدة طويلة هي الآية ( 31 ) .
ثم تتحدث عن مشاهد الكون ، وأدلتها على وجود الله . ( انظر الآيات من 32-37 ) .
كما تعرض مقام المجرمين ، ومقام أصحاب اليمين ، حيث يعترف المكذبون اعترافا طويلا ، بأسباب استحقاقهم للارتهان والقيد في يوم الجزاء والحساب ، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم ، الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع . ( انظر الآيات من 38-48 ) .
وفي ظل هذا المشهد المخزي ، والاعتراف المهين ، يتساءل مستنكرا موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير ، ويرسم لهم مشهدا ساخرا يثير الضحك والزراية ، من نفارهم الحيواني الشموس . ( انظر الآيات من 49 -51 ) .
ويكشف السياق عن حقيقة الغرور الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكّر الناصح ، ويبين أنه الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم ، والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة ، والسبب الآخر هو قلة التقوى . ( انظر الآيتين 52 ، 53 ) .
وفي الختام يجئ التقدير الجازم الذي لا مجاملة فيه ، وردّ الأمر كله إلى مشيئة الله وقدره . ( انظر الآيات من 54 -56 ) .
وهكذا تمثل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي ، الذي كافحه القرآن للجاهلية وتصوراتها في قلوب قريش ، كما كافح العناد والكيد ، والإعراض الناشئ عن العمد والقصد بشتى الأساليب . . . والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة ، واتجاهات سورة المزمل ، وسورة القلم ، مما يدل على أنها جميعا نزلت متقاربة ، لمواجهة حالات متشابهة .
وسورة المدثر قصيرة الآيات ، سريعة الجريان ، منوعة الفواصل ، يتئد إيقاعها أحيانا ، ويجري لاهثا أحيانا ، وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب ، وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر . . . وتصوير مشهد سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر .
1- 7- بدأت السورة بنداء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليقوم بأمر جليل هو إنذار البشرية ، وتخليصها من الشر في الدنيا ، ومن النار في الآخرة .
ثم يوجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه ، بأن يكبر ربه وحده ، فهو سبحانه الكبير المتعال ، وهو القوي المتين ، وهو على كل شيء قدير . ويوجهه إلى التطهر بأنواعه ، ويشمل طهارة الثوب ، وطهارة البدن ، وطهارة القلب ، ليكون أهلا للتلقي عن الملأ الأعلى ، ويوجهه إلى هجران الشرك ، وموجبات العذاب ، والتحرز والتطهر من مسّ هذا الدنس .
ويوجهه إلى إنكار ذاته ، وعدم المنّ بما يقدمه من الجهد أو استكثاره أو استعظامه ، فكل ما يقدمه الإنسان من خير هو بتوفيق الله وعونه ، وذلك يستحق الشكر لله لا المنّ والاستكثار .
ويوجهه أخيرا إلى الصبر على الطاعة ، والصبر على الأذى والتكذيب ، وعدم الجزع من أذى المخالفين .
1- 30- حين ينفخ إسرافيل في الصور ، يجد الكافرين أمامهم يوما عسيرا ، لا يسر فيه ولا هوادة ، بل يجدون الحساب السريع ، والجزاء العادل ، والعقاب الرادع .
وقد روى ابن جرير الطبري أن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة ، حين فكر في تهمة يلصقها بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ادعى أن النبي ساحر ، وقد كان الوليد يسمى الوحيد لأنه وحيد في قومه ، فماله كثير ، فيه الزرع والضرع والتجارة ، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع ، أسلم منهم ثلاثة : خالد وهشام والوليد ، وقد بسط الله له الرزق ، وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة في قومه ، وكان يسمى ريحانة قريش .
ويتجه السياق إلى تهديد هذا المشرك فيقول : خلّ بيني وبين هذا المشرك ، الذي أخرجته من بطن أمه وحيدا ، لا مال له ولا ولد ، ثم بسطت له الرزق والجاه العريض ، فكفر بأنعم الله عليه .
لقد أعطيته المال الكثير ، ورزقته بنين من حوله حاضرين شهودا ، فهو منهم في أنس وعزوة ، ومهدت له الحياة ، ويسرتها له تيسيرا ، ثم هو يطمع في مزيد من الثراء والجاه . . كلا ، لن نزيده من نعمنا ، بل سنذهب عنه كل ما أنعمنا به عليه ، لأنه كان معاندا ومعارضا لآيات القرآن الكريم ، سأكلفه ما لا يطيق من كربة وضيق ، كأنما يصعد في السماء ، أو يصعد الجبال الوعرة الشاقة .
إنه فكر وتروى ماذا يقول في القرآن ، وبماذا يصفه حين سئل عن ذلك ، ثم لعن كيف قدر ، ثم نظر إلى قومه في جد مصطنع ، وقطب وجهه عابسا ، وقبض ملامح وجهه باسرا ليستجمع فكره ، فقال : ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن السحرة ، كمسيلمة وأهل بابل ، وليس هذا من كلام الله ، وإنما هو من كلام البشر .
سأدخله سقر ، وما أعلمك بشأنها ، إنها شيء أعظم وأهول من الإدراك ، فهي : لا تبقي ولا تذر . ( المدثر : 28 ) .
فهي تكنس كنسا ، وتبلع بلعا ، وتمحو محوا ، فلا يقف لها شيء ، ولا يبقى وراءها شيء ، ولا يفضل منها شيء ، وهي : لوّاحة للبشر . ( المدثر : 29 ) . تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه .
وعلى النار تسعة عشر ، لا ندري أهم أفراد من الملائكة الغلاظ الشداد ، أم صفوف ، أم أنواع من الملائكة وصنوف .
31- ولم نجعل المدبرين لأمر النار إلا ملائكة ، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم ؟
وما جعلنا عددهم تسعة عشر إلا امتحانا للذين كفروا ، وليستيقن الذين أوتوا الكتاب بصحة القرآن ، لأنهم يرون أن ما يجيء فيه موافق لما في كتبهم ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، وذلك بتصديق أهل الكتاب له ، وتستشعر قلوب المؤمنين حكمة الله في هذا العدد ، وتقديره الدقيق في الخلق ، وتثبت هذه الحقيقة في قلوب أهل الكتاب ، وقلوب المؤمنين ، فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله .
وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق والكافرون : ماذا أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل ؟
كذلك يضل الله من يشاء من المنافقين والمشركين ، لسوء استعدادهم ، ويهدي من يشاء من المؤمنين ، لتزكية نفوسهم ، وتوجيه استعدادهم للخير ، وما يعلم جموع خلق الله إلا هو ، وإن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر ، فإن لهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه ، وما هذه السورة إلا تذكرة للبشر .
32 -37- كلا وحق القمر ، والليل إذا تولى ، والصبح إذا تجلى ، إن الآخرة وما فيها ، أو سقر والجنود التي عليها ، هي إحدى الأمور الكبيرة العجيبة ، المنذرة للبشر ، بما وراءهم من الخطر ، ولكل نفس أن تختار طريقها ، وأن تتقدم في سبيل الخير أو تتخلف عنه .
38- 48- تعرض الآيات مقام أصحاب اليمين ، فهم في جنات يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين .
ويقال لهم : أيها المجرمون ما الذي أدخلكم في جهنم ؟ فيعترفون اعترافا طويلا مفصلا ، يتناول الجرائر الكثيرة التي انتهت بالمجرمين إلى سقر .
قالوا : دخلنا جهنم لأننا لم نك من المؤمنين ، ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض في الباطل مع الخائضين ، وكنا نكذب بيوم الجزاء والحساب ، حتى جاءنا الموت الذي يقطع كل شك ، وينهي كل ريب ، فما تنفعهم بعد ذلك شفاعة الشافعين ، لأنه يكون قد انقضى وقت الإمهال .
49- 56- فما لهم عن التذكرة معرضين ، إذا كان الحال في الآخرة سيكون كما وصفنا في الآيات السابقة ، فما بالهم معرضين عن القرآن ، كأنهم –في هربهم من سماع كلام الله ونفورهم منه- حمير نافرة ، فرت من أسد تطلب النجاة من بطشه ، تلك هيئتهم الظاهرة .
ثم يرسم القرآن نفوسهم من الداخل ، وما يعتلج فيها من المشاعر ، فيبين أن الحسد هو الذي منعهم من الإيمان ، بل يرغب كل منهم أن يكون في منزلة الرسول ، وأن يؤتى صحفا تنشر على الناس وتعلن ، وإنما حملهم على ذلك أنهم لا يصدّقون بالآخرة ، ولا يخافون أهوالها ، إن هذا القرآن تذكرة تنبّه وتذكّر ، فمن أراد الانتفاع بالقرآن قرأه وانتفع به .
وما يهتدون إلا بمشيئة الله ، وهو سبحانه أهل بأن يتقى عذابه ، وترجى مغفرته ، وهو سبحانه صاحب المغفرة يتفضل بها على عباده وفق مشيئته .
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الإيمان ، وتقرير صعوبة القيامة على أهل الكفر والعصيان ، وتهديد الوليد بن المغيرة الذي منحه الله مالا وفيرا ، وعشرة من البنين ، وبسط له في العيش لكنه قابل هذه النعم بالجحود والعناد .
وذكر جل شأنه كيف استهزأ الوليد برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف اتهمه بالسحر ، فأنذره الله تعالى بسقر ، ثم وصفها ووصف زبانية الجحيم ، وعذاب أهل النار ، ثم ذكر تعالى الأبرار ونعيمهم ، والمجرمين وصفاتهم ، وهي البعد عن الصلاة والإيمان ، والبخل بالمال ، والخوض في إيذاء المؤمنين ، لقد سلبوا هداية السماء ، ففروا من سماع القرآن فرار حمر الوحش إذا رأت أسدا ، وحرمت قلوبهم بركة التقوى ، والله تعالى هو الجدير بأن يتقيه العباد ، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة .
إرشادات للنبي صلى الله عليه وسلم في بدء الدعوة
{ يا أيها المدّثر 1 قم فأنذر 2 وربك فكبّر 3 وثيابك فطهّر 4 والرّجز فاهجر 5 ولا تمنن تستكثر 6 ولربك فاصبر 7 فإذا نقر في النّاقور 8 فذلك يومئذ يوم عسير 9 على الكافرين غير يسير 10 }
المدّثر : المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم .
قم : من مضجعك ، أو قم قيام عزم وتصميم .
فأنذر : فحذّر الناس ، وخوفهم من عذاب الله .
1 ، 2- يا أيها المدّثر* قم فأنذر .
روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت ، فنوديت ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، فرجعت فقلت : دثروني ، فأنزل الله : يا أيها المدثر* قم فأنذرii .
يا أيها المتلفف بثيابه ، أو المتدثر بالنبوة والكمالات النفسية ، أو المتغشّي بثوبه رعبا من رؤية الملك ، قم من مضجعك ، أو قم قيام عزم وتصميم ، وشمّر عن ساعد الجدّ ، فقد جاء الأمر الإلهي باصطفائك رسولا ، وجاء الأوان لتباشر مهمتك ، لتدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به ، وتحذرهم من عذاب الآخرة .
قل ابن كثير : قم فأنذر . أي : شمّر عن ساق العزم وأنذر الناس .
سور المدثر مكية وآياتها ست وخمسون ، نزلت بعد سورة المزمل . وهي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم ، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي ( يعني أنه بعد نزول الوحي بمدة فَتَرَ بعض الوقت ) فقال : بينما أنا أمشي في جبل حراء إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قِبَلَ السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء بين السماء والأرض ، فهويت على الأرض ، وخفت ورجعت إلى أهلي فقلت : دَثّروني دثروني ، وصبّوا عليّ ماء باردا ، فأنزل الله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } إلى قوله تعالى { والرّجز فاهجر } .
وقد اشتملت السورة على الإنذار ، وتكبير الله ، وتطهير النفس من دنيء الأخلاق وتطهير الثياب للمؤمن ، وهذا يعني أن النظافة من أهم أصول الإسلام . وفيها الأمر للرسول بالصبر على أذى المشركين وهجر الأوثان وكل ما يؤدي إلى العذاب ، وتهذيب الرسول الكريم وتعليمه أن لا يمنّ على أصحابه بما يعلّمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر بذلك عليهم ، ولا على الفقراء بما يعطيهم استكثارا لتلك العطايا ، وإنما عليه أن يتجه إلى الله تعالى . . . . فإن الخلق عباده والرسول الكريم أب لهم ومعلم ومرشد .
فأما الكفار الجاحدون فإنهم سيلقَون جزاءهم يوم ينفخ في الصور . ثم ذكر أوصاف بعض هؤلاء المعاندين وأحد جبابرتهم ، وهو الوليد بن المغيرة ، وأنه أعطي مالا كثيرا وعشيرة ورياسة ووجاهة ، ووصفه بالعناد والعبوس والاستكبار ، وكيف أنه استهزأ بالقرآن الكريم وقال عنه إنه سحر يؤثَر ،
وما ينتظر هذا الرجل من العذاب يوم القيامة ، يوم يُدخله الله سَقَرَ التي عليها تسعة عشر من الملائكة . . إلى آخر ما سيأتي من عظيم أمرها . ثم ذكر أن كل نفس مرهونة بعملها ، وأن المؤمنين يتمتعون في جنات النعيم ، ويتساءلون عن المجرمين : ما الذي أدخلكم سقر ؟ فيقر أولئك بذنوبهم ، بأنهم لم يؤمنوا ، ولم يتصدّقوا على الفقراء والمساكين ، وكانوا يكذّبون بيوم الدين . ففي ذلك اليوم لا تنفعهم شفاعة ، بل يكونون كالحمير الفارّة من الأسد بفعل الخوف والجزع ، وأن هذا القرآن { تذكرة ، فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة . . . . } .
المدّثر : أصلُه المتدثر وهو الذي يتغطَّى بثيابه ويلتفّ بها .
{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }
تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد ، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالاجتهاد في عبادة الله القاصرة والمتعدية ، فتقدم هناك الأمر له بالعبادات الفاضلة القاصرة ، والصبر على أذى قومه ، وأمره هنا بإعلان الدعوة{[1274]} ، والصدع بالإنذار ، فقال : { قُمِ }
{ يا أيها المدثر } أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : " سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ؟ قال : { يا أيها المدثر } ، قلت : يقولون : { اقرأ باسم ربك الذي خلق }( العلق - 1 ) ؟ قال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلت له مثل الذي قلت ، فقال جابر : لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري هبطت ، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ، ونظرت من خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني وصبوا علي ماء بارداً ، قال : فدثروني وصبوا علي ماء بارداً ، قال فنزلت : { يا أيها المدثر* قم فأنذر * وربك فكبر } " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، عن عقيل قال ابن شهاب : سمعت أبا سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله قال : " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي ، قال : فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فخشيت منه رعبا حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني فزملوني ، فأنزل الله تعالى :{ يا أيها المدثر * قم فأنذر } إلى قوله : { فاهجر } قال أبو سلمة : والرجز الأوثان ، ثم حمي الوحي وتتابع " .
مكية في قول الجميع . وهي ست وخمسون آية .
وقال مقاتل : معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه : ( فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض ) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فجئثت{[1]} منه فرقا ، فرجعت فقلت زملوني زملوني ، فدثروني ، فأنزل الله تعالى : " يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر " ) في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال : ( ثم تتابع الوحي ) . خرجه الترمذي أيضا وقال : حديث حسن صحيح . قال مسلم : وحدثنا زهير بن حرب ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي قال : سمعت يحيى يقول : سألت أبا سلمة : أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : " يا أيها المدثر " فقلت : أو " أقرأ " . فقال : سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : " يا أيها المدثر " فقلت : أو " أقرأ " فقال جابر : أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي ، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحدا ، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا ، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخذتني رجفة شديدة ، فأتيت خديجة فقلت دثروني ، فدثروني فصبوا علي ماء ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر وثيابك فطهر " ) خرجه البخاري وقال فيه : ( فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا ، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت : " يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر . ولا تمنن تستكثر " ) . ابن العربي : وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من عقبة ( بن ربيعة{[2]} ) أمر ، فرجع إلى منزله مغموما ، فقلق واضطجع ، فنزلت : " يا أيها المدثر " وهذا باطل . وقال القشيري أبو نصر : وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر ، فوجد من ذلك غما وحم ، فتدثر بثيابه ، فقال الله تعالى : " قم فانذر " أي لا تفكر في قولهم ، وبلغهم الرسالة .
وقيل : اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا : قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج ، وهم يتساءلون عن أمر محمد ، وقد اختلفتم في الإخبار عنه ، فمن قائل يقول مجنون ، وآخر يقول كاهن ، وآخر يقول شاعر ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد ، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه ، وتسميه العرب به ، فقام منهم رجل فقال : شاعر ، فقال الوليد : سمعت كلام ابن الأبرص ، وأمية بن أبي الصلت ، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما ؛ فقالوا : كاهن . فقال : الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط ؛ فقام آخر فقال : مجنون ، فقال الوليد : المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط . وانصرف الوليد إلى بيته ، فقالوا : صبأ الوليد بن المغيرة ، فدخل عليه أبو جهل وقال : مالك يا أبا عبد شمس ! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه ، زعموا أنك قد احتجت وصبأت . فقال الوليد : ما لي إلى ذلك حاجة ، ولكني فكرت في محمد ، فقلت : ما يكون من الساحر ؟ فقيل : يفرق بين الأب وابنه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين المرأة وزوجها ، فقلت : إنه ساحر . شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون : إن محمدا ساحر . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة ، ونزلت : " يا أيها المدثر " . وقال عكرمة : معنى " يا أيها المدثر " أي المدثر بالنبوة وأثقالها . ابن العربي : وهذا مجاز بعيد ؛ لأنه لم يكن تنبأ بعد . وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل .
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها المدثر " أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه ، أي تغشى بها ونام ، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما . وقرأ أبي " المتدثر " على الأصل .
الثانية- قوله تعالى : " يا أيها المدثر " : ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد ويا فلان ، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة " المزمل " . ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي إذ نام في المسجد : ( قم أبا تراب ) وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه ؛ خرجه مسلم . ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق : ( قم يا نومان ) وقد تقدم .
سورة المدثر{[1]}
مقصودها الجد والاجتهاد في الإنذار بدار البوار لأهل الاستكبار ، وإثبات البعث في أنفس المكذبين الفجار ، والإشارة بالبشارة لأهل الادكار ، بحلم العزيز/الغفار ، واسمها المدثر{[2]} أدل ما فيها على ذلك ، وذلك واضح لمن تأمل النداء{[3]} والمنادى به والسبب { بسم الله } {[4]}الملك الأعلى الواحد القهار { الرحمن } الذي عم بنعمتي الإيجاد والبيان الأبرار والفجار { الرحيم* } الذي خص أهل أصفيائه بالاستبصار ، والتوفيق إلى ما يوصل إلى دار القرار .
ولما{[69659]} ختمت " المزمل " بالبشارة لأرباب{[69660]} البصارة بعدما بدئت بالاجتهاد{[69661]} في الخدمة المهيىء للقيام بأعباء الدعوة ، افتتحت هذه بمحط-{[69662]} حكمة الرسالة وهي النذارة لأصحاب{[69663]} الخسارة ، فقال معبراً بما فيه بشارة بالسعة في المال والرجال والصلاح وحسن الحال في الحال والمآل ، ومعرفاً بأن المخاطب في غاية اليقظة بالقلب وإن ستر القالب : { يا أيها المدثر * } المشتمل بثوبه ، من تدثر{[69664]} بالثوب : اشتمل به ، والدثار - بالكسر ما فوق الشعار من الثياب ، والشعار ما لاصق البدن " الأنصار شعار والناس دثار " والدثر : المال الكثير ، ودثر الشجر : أورق ، وتدثير الطائر : إصلاحه عشه ، والتعبير بالأداة الصالحة للقرب والبعد يراد به غاية القرب بما عليه السياق وإن كان التعبير بالأداة فيه نوع ستر {[69665]}لذلك مناسبة للتدثر{[69666]} ، واختير التعبير بها{[69667]} لأنه لا يقال بعدها إلى ما جل وعظم من الأمور ، وكان الدثار لم يعم بدنه الشريف بما دل عليه التعبير بالإدغام دون{[69668]} الإظهار الدال على المبالغة لأن المراد إنما كان ستر العين ليجتمع القلب ، فيكفي في ذلك ستر الرأس وما قاربه من البدن ، والإدغام شديد المناسبة للدثار .