{ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير . }
ما في الأرحام : ما في أرحام النساء من صفاته وأحواله ومستقبله وعمره ورزقه وشقى أو سعيد .
هذه الآية ختام سورة لقمان وتعرض جانبا من مظاهر علم الله تعالى فهو سبحانه علام الغيوب وتذكر الآية خمسة أمور :
1- إن الله عنده علم الساعة : فهو سبحانه المستأثر بمعرفة يوم القيامة لا يعلم ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل ، لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة . . . . ( الأعراف : 187 ) .
ولعل حكمة ذلك أن يظل الإنسان مترقبا الموت ، فقد يأتي فجأة في ليل أو نهار وفي الأثر : من مات فقد قامت قيامته .
2- وينزل الغيث : فهو سبحانه الذي يرسل المطر في وقته بلا تقديم ولا تأخير وفي بلد لا يتجاوزه إلى غيره وبمقدار تقتضيه حكمته .
3- ويعلم ما في الأرحام : فهو سبحانه العليم بكل ما يتصل بهذا الجنين من رزق وعمر وهداية أو ضلال وإن علم الإنسان ما يتصل بنوع الجنين من ذكورة أو أنوثة فإنه لا يعلم شيئا عن مستقبله وأجله ورزقه وشقاوته أو سعادته .
4- وما تدري نفس ماذا تكسب غدا لا يعلم الإنسان ماذا يكسب غدا من خير أو شر ومن نفع أو ضر ومن يسر أو عسر ومن صحة ، أو مرض ومن طاعة أو معصية كل ذلك في أمر الغيب يعلمه علام الغيوب وحده ، وشاءت حكمته أن يخفى ذلك ليستمر تعلق الإنسان بربه ودعاؤه له وصلاته فهو سبحانه يقول : ادعوني أستجب لكم . . . . ( غافر : 6 ) .
5- وما تدري نفس بأي أرض تموت أي لا يدري أحد اين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في بر أم في سهل أم في جبل .
هو سبحانه عالم الغيب مطلع على الظاهر والباطن محيط علمه بكل كبيرة وصغيرة ، خبير بخفايا النفوس وبواطنها وظواهرها .
قال تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } . ( الأنعام : 59 ) .
فهذا العلم الشامل لكل ما في الغيب وللبر والبحر وللأشجار والأوراق وللورقة الساقطة من فوق الشجر ولكل حبة في ظلمات الأرض وللأرض اليابسة والأرض التي غمرتها المياه كل ذلك مسجل في علم الله الذي لا يحول دونه حائل من ليل أو نهار أو أرض أو سماء أو غائب أو شاهد إن الله عليم خبير .
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مفاتح الغيب خمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير " . xiv
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلا يقال له الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد متى قيام الساعة ؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ؟ وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد ؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا ؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت ؟ فنزلت الآية : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
خلاصة ما اشتملت عليه سورة لقمان :
1- القرآن هداية ورحمة للمؤمنين .
2- قصص من ضل عن سبيل الله بغير علم واتخذ آيات الله هزؤا .
3- وصف العالم العلوي والعالم السفلي وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية الله .
4- قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة ثم نصائحه لابنه .
5- النعي على المشركين في ركونهم إلى التقليد إذا دعوا إلى النظر في الكون و عبادة الله .
6- تعجب الرسول من المشركين حيث يقرون بأن الله هو الخالق لكل شيء ثم هم يعبدون معه غيره ممن هو مخلوق مثلهم .
7- نعم الله ومخلوقاته لا حصر لها .
8- المر بالنظر إلى الكون وعجائبه لنسترشد بذلك إلى وحدانية الصانع .
9- الأمر بالخوف من عقاب الله يوم لا يجزى والد عن ولده .
10- مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر الله بعلمها .
11- إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات ظاهرها وباطنها .
i انظر تفسير القرآن للشيخ عز الدين بن عبد السلام ( 578-660ه ) اختصار النكث للما وردي ( 364-450ه ) تحقيق د . عبد الله بن إبراهيم الوهيبي طبع ونشر المحقق السعودية الإحساء ص . ب . 1730 هاتف 5820411 ، قال المحقق راجع فتح الباري ( 2/440- العيدين 9/202- النكاح 10/51- الأشربة ) وصحيح مسلم ( 2/607- صلاة العيدين-4 ) والمحلى لابن حزم ( 5/92 )أه . وقد ذكر علماؤنا أن الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، ويمكن أن يقاس عليه الغناء فالحسن منه والقليل منه في أيام الأعياد والزواج عند الأعمال الشاقة حسن ولهو مباح ، وما كان فيه ميوعة أو تخنث أو إغراء بالمحرم فحرام .
ii دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار :
رواه البخاري في الجمعة ( 952 ) وفي المناقب ( 3931 ) ومسلم في المناقب ( 892 ) والنسائي في العيدين ( 1593 ) وابن ماجة في النكاح ( 1898 ) وأحمد في مسنده ( 23529-24161-24431 ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت : وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا بكر أن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا " .
iii آتيناكم آتيناكم فحيانا وحياكم :
رواه ابن ماجة في النكاح( 1900 ) واحمد في مسنده ( 14778 ) من حديث ابن عباس قال : أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أهديتم الفتاة " ؟ قالوا : نعم فال : " أرسلتم معها من يغني " ؟ قالت : لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول أتيناكم آتيناكم فحيانا وحياكم " . .
iv التفسير الوسيط بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الحزب الحادي والأربعون ص 82-83 وبهامشه ما يأتي : في السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 289 أن عمرة بنت عبد الرحمن قالت : كانت النساء إذا تزوجت المرأة أو الرجل خرج جواري الأنصار يغنين ويلعبن فمروا في مجلس فيه رسول الله وهن يغنين ويقلن :
أهدى لها زوجها أكبشا يبحبحن في المريد
وزوجها في النادي يعلم ما في غد
فقال سبحان الله لا يعلم ما في غد إلا الله لا تقولوا هكذا و قولوا آتيناكم آتيناكم فحيانا وحياكم .
قال البيهقي هذا مرسل جيد هامش جمع الجوامع ص 2338 العدد 19 من الجزء الثاني تفسير القرآن العظيم إسماعيل ابن كثير تحقيق سامي بن محمد السلامة دار طبعة النشر والتوزيع السعودية الرياض ج 6 ص 332 .
v تفسير روح البيان للشيخ إسماعيل حقي البر سوي دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان مجلد 7 ص 71 .
vi تفسير ابن كثير تحقيق سامي بن محمد السلامة دار طيبة السعودية الرياض 6/333 .
رواه البخاري في الإيمان ( 32 ) وفي أحاديث الأنبياء ( 3360-3428-3429 ) وفي التفسير ( 4629-4776 ) وفي استتابة المرتدين ( 6918-6937 ) ومسلم في الإيمان ( 124 ) والترمذي في تفسير القرآن ( 3067 ) واحمد في مسنده ( 3578-4228 ) عن حديث عبد الله قال لما نزلت : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم . . . قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا لم يظلم فأنزل الله عز وجل : إن الشرك لظلم عظيم .
viii أي الذنب اعظم عند الله قال أن تجعل لله ندا :
رواه البخاري في تفسير القرآن ( 4477 ) ومسلم في الإيمان ( 86 ) من حديث عبد الله بن مسعود قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت : إن ذلك لعظيم قلت : ثم أي ؟ قال " أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك " قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " .
ix جامع البيان في تأويل آي القرآن تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310ه21/ 70 ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1968 م .
x إذا سمعتم صياح الديكة : رواه البخاري في بدء الخلق ( 3303 ) ومسلم في الذكر ( 2729 ) وأبو داود في الأدب ( 5102 ) والترمذي في الدعوات ( 3459 ) وأحمد في مسنده ( 8003 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا ، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا " .
xi إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق :
رواه أحمد في مسنده ( 8595 ) من حديث أبي هريرة .
xii إن من أحبكم إلب وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة :
رواه الترمذي في البر ( 2018 ) من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا : " إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهفون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون ، فما المتفيهفون ؟ قال : المتكبرون وقال الترمذي حديث غريب ورواه أحمد في مسنده ( 17278 ) من حديث أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقا الثرثارون المتفيقهون المتشدقون " ورواه أحمد في مسنده ( 8604 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بشراركم فقال " هم الثرثارون المتشدقون ألا أنبئكم بخياركم أحاسنكم أخلاقا " .
xiii يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار :
رواه مسلم في صفة القيامة ( 3807 ) وأحمد في مسنده ( 12699 ) من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له : يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط " .
xiv مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله :
رواه البخاري في تفسير القرآن ( 4627-4697-4778 ) وفي التوحيد ( 7379 ) واحمد في مسنده ( 4752 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما تفيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله " .
زعم الفراء أن هذا معنى النفي ، أي ما يعلمه أحد إلا الله تعالى . قال أبو جعفر النحاس : وإنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في قوله الله عز وجل : " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " [ الأنعام : 59 ] : ( إنها هذه ) .
قلت : قد ذكرنا في سورة " الأنعام " {[12631]} حديث ابن عمر في هذا ، خرجه البخاري . وفي حديث جبريل عليه السلام قال : ( أخبرني عن الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، هن خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما تكسب غدا ) قال : ( صدقت ) . لفظ أبي داود الطيالسيّ . وقال عبد الله بن مسعود : كل شيء أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم غير خمس : " إن الله عنده علم الساعة ، الآية إلى آخرها . وقال ابن عباس : هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى ، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن ؛ لأنه خالفه . ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم . والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء{[12632]} وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك ، حسبما تقدم ذكره في الأنعام{[12633]} . وقد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده . وروي أن يهوديا كان يحسب حساب النجوم ، فقال لابن عباس : إن شئت نبأتك نجم ابنك ، وأنه يموت بعد عشرة أيام ، وأنت لا تموت حتى تعمى ، وأنا لا يحول علي الحول حتى أموت . قال : فأين موتك يا يهودي ؟ فقال : لا أدري . فقال ابن عباس : صدق الله . " وما تدري نفس بأي أرض تموت " فرجع ابن عباس فوجد ابنه محموما ، ومات بعد عشرة أيام . ومات اليهودي قبل الحول ، ومات ابن عباس أعمى . قال علي بن الحسين راوي هذا الحديث : هذا أعجب الأحاديث . وقال مقاتل : إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد ، وبلادنا جدبة ، فأخبرني متى ينزل الغيث ، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت ، وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ماذا أعمل غدا ، وأخبرني متى تقوم الساعة ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية . ذكره القشيري والماوردي . وروى أبو المليح عن أبي عزة الهذلي قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - " إن الله عنده علم الساعة - إلى قوله - بأي أرض تموت " ) ذكره الماوردي ، وخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بمعناه . وقد ذكرناه في كتاب { التذكرة } مستوفى . وقراءة العامة : " وينزل " مشددا . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي مخففا . وقرأ أبي بن كعب : " بأية أرض " الباقون " بأي أرض " . قال الفراء : اكتفى بتأنيث الأرض من تأنيث أي . وقيل : أراد بالأرض المكان فذكر . قال الشاعر :
فلا مزنةٌ ودقت ودقها *** ولا أرض أبقلَ إبقالَها{[12634]}
وقال الأخفش : يجوز مررت بجارية أي جارية ، وأية جارية . وشبه سيبويه تأنيث " أي " بتأنيث كل في قولهم : كلتهن . " إن الله عليم خبير " " خبير " نعت ل " عليم " أو خبر بعد خبر . والله تعالى أعلم .
ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية ، ويأتي في{[54347]} آخر التي بعدها ، إما تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة ، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي ، لما في ذلك من الحكمة التي سيقت لها السورة ، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق ، فقال مؤكداً لما يعتقدون في كهانهم{[54348]} مظهراً الاسم الأعظم غير مضمر لشدة اقتضاء المقام له : { إن الله } أي بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال { عنده } أي خاصة ، ولو قيل له مثلاً ما أفاد الحضور ، ولو قيل " لديه " لأوهم التعبير بلدي{[54349]} التي هي للحضور أن ذلك كناية عن قربها جداً ، و{[54350]} أوهم أن علمه تعالى يتفاوت تعلقه بالأشياء بخصوص أو عموم لأجل أن " لدى " أخص من عند فكانت عند أوفق للمراد ، فإنها أفادت التمكن من العلم مع احتمال تأخرها وسلمت{[54351]} من تطرق احتمال فاسد إليها { علم الساعة } أي وقت قيامها ، لا علم لغيره بذلك أصلاً .
ولما كان سبحانه قد نصب عليها أمارات توجب ظنوناً في قربها ، وكشف بعض أمرها ، عبر تعالى{[54352]} بالعلم ، ولما كانوا قد ألحوا{[54353]} في السؤال عن وقتها ، وكانت{[54354]} أبعد الخمس عن علم الخلق ، وكانت شيئاً واحداً لا يتجزى
{ فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة }[ النازعات : 13 ] أبرزها سبحانه في جملة{[54355]} اسمية دالة على الدوام والثبوت على طريق الحصر ، وهذا هو المفتاح الأول من مفاتيح الغيب ينفتح به من العلوم ما يجل عن الحصر عن قيام الأنفس بأبدانها ، ماثلة على مذاقها بجميع أركانها ، وأشكالها وألوانها ، وسائر شأنها ، وطيران الأرواح بالنفخ{[54356]} إليها واحتوائها عليها على اختلاف أنواعهم ، وتغاير صورهم وأطوالهم ، وتباين ألسنتهم وأعمالهم ، إلى{[54357]} غير ذلك من الأمور ، وعجائب المقدور ، ثم سعيهم إلى الموقف ثم وقوفهم ، ثم{[54358]} حسابهم إلى استقرار الفريقين في الدارين ، هذا إلى موجهم من شدة الزحام ، والكروب العظام بعضاً في بعض . يطلبون من يشفع لهم في الحساب حتى يقوم المصطفى صلى الله عليه وسلم المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون إلى انتقاض السماوات ، وانكدار ما فيها من النيرات ، ونزول الملائكة بعد قيامهم من منامهم ، وهم من لا يحصى أهل سماء منهم ، كثرة ، {[54359]}كيف وقد{[54360]} أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلا و{[54361]} فيه ملك قائم يصلي ، هذا إلى تبدل الأراضي وزوال الجبال ، ونسف الأبنية والروابي والتلال ، وغير ذلك مما لا{[54362]} يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه .
{ المفتاح الثاني } : آية الله في خلقه على قيام الساعة ، وأدل الأدلة عليه{[54363]} وهو إنزال المطر الذي يكشف عن الاختلاط في أعماق الأراضي بالتراب الذي كان نباتاً ثم إعادته نبتاً كما{[54364]} كان من قبل على اختلاف ألوانه ، ومقاديره وأشكاله ، وأغصانه وأفنانه{[54365]} ، وروائحه وطعومه ، ومنافعه وطبائعه - إلى غير ذلك من شؤونه ، وأحواله وفنونه ، التي لا يحيط بها علماً إلا خالقها ومبدعها وصانعها .
ولما كانوا ينسبون الغيث{[54366]} إلى الأنواء أسند الإنزال إليه سبحانه ليفيد الامتنان ، وعبر بالجملة الفعلية للدلالة على التجدد فقال : { وينزل الغيث } بلام الاستغراق القائمة مقام التسوير{[54367]} ب " كل " وقد أفاد ذلك الاختصاص بالعلم بوقته ومكانه ومقداره وغير ذلك من شؤونه ، فإن من فعل شيئاً حقيقة لم يعلم أحد وقت فعله قبل وقوعه إلا من قبله .
المفتاح الثالث } : علم الأجنة وهو{[54368]} في الرتبة الثانية في الدلالة{[54369]} على البعث الكاشف عن تخطيطها وتصويرها ، وتشكيلها وتقديرها ، على وصفي الذكورة والأنوثة ، مع الوضوح أو الإشكال ، و{[54370]}الوحدة أو الكثرة ، والتمام أو النقص - إلى ما هناك من اختلاف المقادير والطبائع ، والأخلاق والشمائل ، والأكساب{[54371]} والصنائع ، والتقلبات في مقدار العمر والرزق في الأوقات والأماكن - وغير ذلك من الأحوال التي{[54372]} لا يحصيها إلا بارئ النسم ، ومحيي الرمم{[54373]} . ولما كانت للخلق في ذلك لكثرة الملابسات والمعالجات ظنون في وجود الحمل أولاً ، ثم في كونه ذكراً أو أنثى ثانياً ، ونحو ذلك بما{[54374]} ضرب عليه من الأمارات الناشئة عن طول التجارب ، وكثرة الممارسة ، عبر{[54375]} بالعلم فقال : { ويعلم ما في الأرحام } من ذكر أو أنثى حي أو ميت وغير ذلك ، وصيغة{[54376]} المضارع لتجدد الأجنة شيئاً فشيئاً وقتاً بعد وقت ، والكلام في اللام والاختصاص بالعلم كالذي قبله سواء .
{ المفتاح الرابع } : الكسب الناشئ عما في الأرحام الفاتح{[54377]} لكنوز السعادة وآفات الشقاوة والمسفر عن حقائق
الضمائر في صدقها عند البلاء وكذبها ، وعن مقادير العزائم ورتب الغرائز ، وعن أحوال الناس عند{[54378]} ذلك في الصداقة والعداوة والذكاء و{[54379]} الغباوة والصفاء والكدر والسلامة والحيل ، وغير ذلك من الصحة والعلل ، في اختلاف الأمور ، وعجائب المقدور ، في الخيور والشرور ، مما{[54380]} لا يحيط به إلا مبدعه ، وغارزه في عباده ومودعه{[54381]} ، ولكون الإنسان - مع أنه{[54382]} ألصق الأشياء به وألزمه له - لا يعلمه مع إيساعه الحيلة في{[54383]} معرفته ، عبر فيه بالدراية لأنها تدل على الحيلة بتصريف الفكر وإجالة الرأي - كما تقدم في سورة يوسف عليه السلام - أن مادة " درى " تدور على الدوران ، ومن لوازمه إعمال الحيلة وإمعان النظر ، فهي أخص من مطلق العلم فقال : { وما تدري نفس } أي من الأنفس البشرية وغيرها { ما } وأكد المعنى ب " ذا " وتجريد الفعل فقال : { ذا تكسب غداً } أي في المستقبل من خير أو شر بوجه من الوجوه ، و{[54384]} في نفي علم ذلك عن العبد مع كونه ألصق الأشياء به دليل ظاهر على نفي علم ما قبله عنه لأنه أخفى منه ، وقد تقدم إثبات علمه له سبحانه وتعالى ، فصار على طريق الحصر ، وعلم أيضاً أنه لا يسند{[54385]} إلى العبد الأعلى طريق الكسب لأنه لو كان مخلوقاً له لعلمه قطعاً ، فثبت أنه سبحانه وتعالى خالقه ، فعلم اختصاصه بعلمه من هذا الوجه أيضاً .
{ المفتاح الخامس } : مكان الموت الذي هو ختام الأمر الدنيوي وطي سجل الأثر الشهودي ، وابتداء الأمر الأخروي المظهر لأحوال البرزخ في النزول مع المنتظرين لبقية السفر إلى دائرة{[54386]} البعث وحالة الحشر إلى ما هنالك من ربح وخسران ، وعز وهوان ، وما للروح من الاتصال بالجسد والرتبة في العلو والسفول ، والصعود والنزول ، إلى ما وراء ذلك إلى ما لا آخرله مما لا يعلم تفاصيله وجمله وكلياته وجزئياته إلا مخترعه وبارئه ومصطنعه{[54387]} .
ولما كان لا يعلمه الإنسان بنوع حيلة مع شدة حذره منه وحبه{[54388]} لو أنفق جميع ما يمكله لكي يعلمه ، عبر عنه بما عبرعن الذي قبله فقال مؤكداً بإعادة النافي والمسند : { وما تدري } وأظهر لأنه أوضح وأليق بالتعميم فقال : { نفس } أي من البشر وغيره { بأيّ أرض تموت } ولم يقل : بأي وقت ، لعدم القدرة على الانفكاك عن الوقت مع القدرة على الانفكاك عن مكان معين ، وإحاطة العلم بكراهة كل أحد للموت ، فكان ذلك{[54389]} أدل دليل على جهله بموضوع{[54390]} موته إذ لوعلم به لبعد عنه ولم يقرب منه ، وقد روى البخاري{[54391]} حديث المفاتيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم قرأ { إن الله عنده علم الساعة } الآية " ، وله{[54392]} عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث سؤال جبرئيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة فأخبره ببعضها وقال{[54393]} : " خمس لا يعلمهن إلا الله { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث } " - إلى آخر السورة ، فقد دل الحديث قطعاً على أن الآية فيما{[54394]} ينفرد سبحانه وتعالى بعلمه ، وقد رتبها سبحانه{[54395]} هذا الترتيب {[54396]}لما تقدم{[54397]} من الحكمة وعلم سر إتيانه بها تارة في جملة اسمية وتارة في فعلية ، وتارة ليس فيها ذكر للعلم ، وأخرى يذكر فيها ، ويسند إليه سبحانه ، ولكن لا على وجه الحصر ، وتارة بنفي العلم عن غيره فقط من غير إسناد للفعل إليه ، وعلم سر قوله " بأيّ أرض " دون أيّ وقت ، كما في بعض طرق{[54398]} الحديث .
ولما {[54399]}كان قد{[54400]} أثبت سبحانه لنفسه اختصاص العلم عن الخلق بهذه الأشياء ، أثبت بعدها ما هو أعلم لتدخل فيه ضمناً فيصير مخبراً بعلمه لها مرتين ، فقال على وجه التأكيد لأنهم ينكرون بعض ما يخبر به ، وذلك يستلزم إنكارهم لبعض علمه : { إنّ الله } أي المختص بأوصاف الكمال والعظمة والكبرياء والجلال { عليم } أي شامل العلم للأمور كلها ، كلياتها وجزئياتها ، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه على الغير في هذه الخمس تارة نصاً وأخرى بطريق الأولى أو باللازم ، فانطبق الدليل على الدعوى - والله الموفق .
ولما أثبت{[54401]} العلم على هذا الوجه ، أكده لأجل ما سيقت له السورة بقوله : { خبير } أي يعلم خبايا الأمور ، وخفايا الصدور ، كما يعلم ظواهرها وجلاياها ، كل عنده على حد سواء ، فهو الحكيم في ذاته وصفاته ، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده ، لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم ، باختلاف هذا النظام ، على ما فيه من الإحكام ،
فقد انطبق آخر السورة - بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر{[54402]} مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة - على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها ، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لا سيما الإيقان بالآخرة ، كان حكيماً خبيراً عليماً مهذباً مهدياً مقرباً علياً ، فسبحان من هذا كلامه ، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه ، ولا إله غيره وهو اللطيف .
فقد انطبق آخر السورة - بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة - على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها ، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لا سيما الإيقان بالآخرة ، كان حكيماً خبيراً عليماً مهذباً مهدياً{[1]} مقرباً علياً ، فسبحانه من هذا كلامه ، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه ، {[2]}ولا إله غيره وهو اللطيف{[3]} .