السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

ثم إنه تعالى ذكر في السورة أحكاماً كثيرة : الحكم الأول : قوله تعالى : { الزانية والزاني } أي : غير المحصنين لرجمهما بالسنة وأل فيما ذكر موصولة وهو مبتدأ ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } أي : ضربة يقال : جلده إذا ضرب جلده ، ويزاد على ذلك بالسنة تغريب عام ، والرقيق على النصف مما ذكر ، ولا رجم عليه لأنه لا يتنصف .

واعلم أن الزنا من الكبائر ، ويدل عليه أمور : أحدها : أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى : { ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً } [ الفرقان ، 68 ] ، ثانيها : قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [ الإسراء ، 32 ] ، ثالثها : أن الله تعالى أوجب المائة فيه بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر وشرّع فيه الرجم ، وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، أما اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأما اللاتي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى وسوء الحساب وعذاب النار » ، وعن عبد الله قال : «قلت : يار رسول الله أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : أن تجعل لله نداً وهو خلقك ، قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ، قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك » فأنزل الله تعالى تصديقاً لذلك : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } » [ الفرقان ، 67 ]

والزنا إيلاج حشفة أو قدرها من مقطوعها من الذكر المتصل الأصلي من الآدمي الواضح ولو أشل وغير منتشر ، وكان ملفوفاً في خرقة بقبل محرم في نفس الأمر لعينه خال عن الشبهة المسقطة للحدّ مشتهي طبعاً بأن كان فرج آدمي حيّ ولا يشترط إزالة البكارة حتى لو كانت غوراء وأدخل الحشفة فيها ، ولم يزل بكارتها ترتب عليه حد الزنا بخلاف التحليل لا بدّ فيه من إزالة البكارة لقوله صلى الله عليه وسلم : «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » ، واختلف في اللواط هل يطلق عليه اسم الزنا أو لا ؟ فقال بعضهم : يطلق عليه لقوله صلى الله عليه وسلم : «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان » ، والذي عليه أكثر أصحابنا أنه غير داخل تحت اسم الزنا لأنه لو حلف لا يزني فلاط لم يحنث ، والحديث محمول على الإثم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان » ، وللشافعي في حده قولان ؛ أصحهما أن الفاعل إن كان محصناً فإنه يرجم ، وإلا فيجلد مائة ويغرب عاماً ، وأما المفعول فلا يتصور فيه إحصان فيجلد ويغرب ، والقول الثاني : يقتل الفاعل والمفعول به سواء كان محصناً أم لا لما روي عن ابن عباس أنه قال : من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به .

وأما إتيان البهائم فحرام بإجماع الأئمة ، واختلف في عقوبته على أقوال : أحدها : حد الزنا فيرجم الفاعل المحصن ويجلد غيره ويغرب ، والثاني : أنه يقتل محصناً كان أو غير محصن لما روي عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه » ، والثالث : وهو الأصح أنه يعزر ؛ لأن الحدّ شرع للزجر عما تميل النفس إليه ، وضعفوا حديث ابن عباس لضعف إسناده ، وهو وإن ثبت فهو معارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم : «نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله » .

وأما السحاق من النساء وإتيان المرأة الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه شيء من ذلك إلا التعزير والمقيم للحد هو الإمام أو نائبه ، وللسيد أن يقيم الحدّ على رقيقه ولا تجوز الشفاعة في إسقاط الحدّ ولا تركه ولا تخفيفه كما قال تعالى : { ولا تأخذكم } أي : على أي حال من الأحوال { بهما رأفة } أي : رحمة ورقة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها ، وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة والباقون بسكونها ، والسوسي على أصله من البدل ، وقيل : معنى الرأفة أن يخففوا الضرب { في دين الله } أي : الذي شرعه لكم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها » ، روي أن عمر رضي الله عنه جلد جارية له زنت ، فقال للجلاد : اضرب ظهرها ورجليها ، فقال له ابنه : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، فقال : يا بني إن الله تعالى لم يأمرنا بقتلها وقد ضربت فأوجبت . ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الحض على ذلك بقوله تعالى : { إن كنتم تؤمنون بالله } أي : الذي هو أرحم الراحمين فإنه ما شرع ذلك إلا رحمة للناس عموماً وللزانين خصوصاً فلا تزيدوا في الحد ولا تنقصوا منه شيئاً ، وفي الحديث «يؤتى بوال نقص من الحدود سوطاً فيقول : رحمة لعبادك ، فيقال له : أنت أرحم مني ، فيؤمر به إلى النار ، ويؤتي بمن زاد سوطاً فيقول : لينتهوا عن معاصيك ، فيؤمر به إلى النار » وعن أبي هريرة : إقامة حد بأرض خير من مطر أربعين ليلة ثم أتبع ذلك بما يرهبه بقوله تعالى : { واليوم الآخر } الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير والخفي والجلي { وليشهد } أي : وليحضر { عذابهما } أي : حدهما إذا أقيم عليهما { طائفة من المؤمنين } والطائفة الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة وأقلها ثلاثة أو أربعة وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء ، وعن ابن عباس في تفسيرها : أربعة إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله تعالى ، وعن الحسن : عشرة ، وعن قتادة : ثلاثة فصاعداً ، وعن عكرمة : رجلان فصاعداً ، وعن مجاهد : أقلها رجل فصاعداً ، وقيل : رجلان وفضل قول ابن عباس ؛ لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها الزنا ولا يجب على الإمام حضور رجم ولا على الشهود لأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما ، وإنما خص المؤمنين بالحضور ؛ لأن ذلك أفضح ، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل ، ويشهد له قول ابن عباس : إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله .

تنبيه : الضرب يكون بسوط لا حديد يجرح ولا خلق لا يؤلم ، ويفرق بين السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد ، واتفقوا على أنه يتقي المهالك كالوجه والبطن والفرج ويضرب على الرأس لقول أبي بكر رضي الله عنه : اضرب على الرأس فإن الشيطان فيه ، ولا يشد يده وينزع الثياب التي تمنع ألم الضرب كالفرو ، ولو فرق سياط الحدّ تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن يضرب كل يوم سوطاً أو سوطين ، فإن فرق وضرب والألم موجود كفى ، وإن وجب الحدّ على حامل لا يقام عليها حتى تضع وترضعه حتى ينفطم ويندب أن يحفر للمرأة إلى صدرها إن ثبت زناها بالبينة لا بإقرارها ولا يندب للرجل مطلقاً ، وإن وجب الحدّ على المريض نظر إن كان يرجى زواله كصداع انتظر أو لا يرجى كالزمانة فلا يؤخر ولا يضرب بالسياط بل بعثكال عليه مائة شمراخ ، فيقوم ذلك مقام جلده ، وأما في حال الحر والبرد الشديدين فإن كان الحدّ رجماً لم يؤخر لأن النفس مستوفاة ، وإن كان جلداً أخر إلى اعتدال الهواء ، ويقبل رجوع الزاني عن إقراره ، ولو في أثناء الحدّ ، وإذا مات في الحدّ يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين .