السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة وألف وخمسمائة وعشرة أحرف .

{ بسم الله } الذي من تولاه أغناه عمن سواه { الرحمن } الذي شمل برحمة البيان من حاطه بالعقل ورعاه { الرحيم } الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه ونزل في حاطب بن أبي بلتعة .

{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي } أي : وأنتم تدّعون موالاتي { وعدوّكم } أي : العريق في عدواتكم ما دمتم على مخالفته في الدين ، { أولياء } وذلك ما روي «أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي يقال لها : سارة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح ، فقال لها : أمسلمة جئت ، قالت : لا ، قال : أفمهاجرة جئت ، قالت : لا ، قال : فما جاء بك ، قالت : كنتم الأهل والموالي والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي تعني قتلوا يوم بدر فاحتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني ، فقال صلى الله عليه وسلم فأين أنت عن شباب أهل مكة وكانت مغنية نائحة قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب على إعطائها ، فكسوها وحملوها وزوّدوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً ، واستحملها كتاباً لأهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم ، وقد توجه إليكم بجيش كالليل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله تعالى بكم ، وأنجز له موعده فيكم فالله وليه وناصره فخرجت سارة ، ونزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ، وعماراً ، وعمر ، وطلحة ، والزبير ، والمقداد ، وأبا مرثد ، وكانوا فرساناً ، وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها . فأدركوها فجحدت وحلفت ما معها كتاب ففتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع ، فقال عليّ : والله ما كذبنا ، ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّ سيفه ، وقال : أخرجي الكتاب ، وإلا والله لأجردنك ولأضربنّ عنقك ، فلما رأت الجدّ أخرجته من عقاص شعرها فخلوا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة : هي أحدهم فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً ، وقال له : هل تعرف هذا الكتاب ، قال : نعم ، قال : فما حملك عليه ، فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش ، وروى عزيزاً فيهم أي : غريباً ولم أكن من أنفسها ، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري ، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أنّ الله تعالى ينزل عليهم بأسه ، وإنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدّقه وقبل عذره ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : «وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ففاضت عينا عمر » ، وقال : الله ورسوله أعلم . وإضافة العدوّ إلى الله تعالى تغليظاً في خروجهم ، وهذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكفار ، وتقدّم نظيره في قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء } [ آل عمران : 28 ] وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] روي أنّ حاطباً لما سمع { يا أيها الذين آمنوا } غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان .

ثم إنه تعالى استأنف بيان هذا الاتخاذ بقوله تعالى مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله تعالى : { تلقون } أي : جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو { إليهم } على بعدهم منكم حساً ، ومعنى { بالمودّة } أي : بسببها قال القرطبي : تلقون إليهم بالمودّة ، يعني : بالظاهر لأنّ قلب حاطب كان سليماً بدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «أمّا صاحبكم فقد صدق » هذا نص في إسلامه وسلامة فؤاده وخلوص اعتقاده . وقرأ حمزة بضم الهاء ، والباقون بكسرها . وقوله تعالى : { وقد كفروا } أي : غطوا جميع مالكم من الأدلة { بما } أي : بسبب ما { جاءكم من الحق } أي : الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه فيه أوجه :

أحدها : الاستئناف .

ثانيها : الحال من فاعل تتخذوا .

ثالثها : الحال من فاعل تلقون ، أي : لا تتولوهم ولا توادّوهم ، وهذه حالهم . وقوله تعالى : { يخرجون الرسول } يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون تفسير الكفر هم فلا محل له على هذين ، وأن يكون حالاً من فاعل كفروا . وقوله تعالى : { وإياكم } عطف على الرسول وقدم عليهم تشريفاً له صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى : { أن تؤمنوا } أي : توقعوا حقيقة الإيمان مع التجدّد والاستمرار { بالله } أي : الذي اختص بجميع صفات الكمال { ربكم } أي : المحسن إليكم تعليل ليخرجون ، والمعنى : يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله ، أي : لأجل إيمانكم بالله .

قال ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تغليب المخاطب والالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان { إن كنتم خرجتم } أي : عن أوطانكم ، وقوله تعالى : { جهاداً في سبيلي } أي : بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها { وابتغاء مرضاتي } أي : ولأجل تطلبكم أعظم الرغبة لرضاي علة للخروج ، وعمدة للتعليق ، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه لا تتخذوا . وقرأ الكسائي بالإمالة محضة ، والباقون بالفتح . وقوله تعالى : { تسرون } أي : توجدون جميع ما يدل على مناصحتكم إياهم والتودّد { إليهم بالمودّة } أي : بسببها بدل من تلقون قاله ابن عطية . قال ابن عادل : ويشبه أن يكون بدل اشتمال لأنّ إلقاء المودّة يكون سرّاً وجهراً ، أو استئناف واقتصر عليه الزمخشري { وأنا } أي : والحال أني { أعلم } أي : من كل أحد حتى من نفس الفاعل ، وقرأ نافع بمدّ الألف بعد النون { بما أخفيتم وما أعلنتم } قال ابن عباس : بما أخفيتم قي صدوركم وما أظهرتم بألسنتكم ، أي : فأي فائدة لأسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به ، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة { ومن يفعله } أي : يوجد أسرار خبر إليهم ويكاتبهم { منكم } أي : في وقت من الأوقات { فقد ضلّ } أي : عمي ومال وأخطأ { سواء السبيل } أي : قويم الطريق الواسع الموصل إلى القصد قويمه وعدله . قال القرطبي : هذا كله معاتبة لحاطب ، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه فإنّ المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب ، كما قال القائل :

إذا ذهب العتاب فليس ودّ *** ويبقى الودّ ما بقي العتاب

وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد ، والباقون بالإدغام .