مدنية ، وهي إحدى عشرة آية ، وقيل : اثنتا عشرة آية ، وقيل : ثلاث عشرة آية ومائتان وتسع وأربعون كلمة ، وألف وستون حرفاً .
{ بسم الله } الذي له جميع صفات الكمال { الرحمن } الذي عم برحمته والنوال { الرحيم } الذي خص بتمام النعمة ذوي الهمم العوال .
وقرأ : { يا أيها النبي } نافع بالهمزة وسهل الهمزة من إذا وأبدلها أيضاً واواً . خصه صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمته واعتباراً لرآسته ، وإنه لسان قومه والذي يصدرون عن رأيه ، ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكم كلهم وساداً مسد جميعهم .
وقيل : إنه على إضمار قول ، أي يا أيها النبي قل لأمتك { إذا طلقتم النساء } أي : أردتم طلاق هذا النوع واحدة منهن فأكثر . وقيل : إنه خطاب له ولأمته ، والتقدير : يا أيها النبي وأمته فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه كقوله : إذا حذفته رجلها ، أي : ويدها ، وكقوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وقيل : إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله :
فإن شئت أحرمت النساء سواكم *** وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا برداً
قال الرازي : وجه تعلق أول هذه السورة بآخر التي قبلها ، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } وفي أول هذه السورة إشارة إلى كمال علمه بمصالح النساء والأحكام المخصوصة بطلاقهن ، فكأنه بين ذلك الكلي بهذه الجزئيات .
وروى ابن ماجه عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها ، وعن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } وقيل له : راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك في الجنة ، ذكره الماوردي ، والقشيري . وزاد القشيري ونزل خروجها إلى أهلها قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } .
وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة ، فطلقها تطليقة فنزلت . وقال السدي : نزلت في عبد الله بن عمر «طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يجامع فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء » . وهو قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } أي : في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة ، وقد قيل : إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعمر بن سعيد بن العاص ، وعتبة بن غزوان فنزلت الآية فيهم . وروى الدراقطني عن ابن عباس أنه قال : «الطلاق على أربعة وجوه : وجهان حلالان ، ووجهان حرامان .
فأما الحلال فأن يطلقها طاهراً عن غير جماع ، وأن يطلقها حاملاً مستبيناً حملها .
وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً ، أو أن يطلقها حين يجامعها لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا » .
تنبيه : الطلاق ينقسم إلى سني وبدعي ولا ولا ، فطلاق موطوأة ولو في دبر تعتد بإقراء سني إن ابتدأتها الإقراء عقب الطلاق ، ولم يطأها في طهر طلقها فيه أو علق طلاقها بمضي بعضه ، ولا وطئها في نحو حيض قبله ، ولا في حيض طلق مع آخره أو علق بآخره وذلك لاستعقابه الشروع في العدة وعدم الندم فيمن ذكرت ، وإلا فبدعي وإن سألته طلاقاً بلا عوض وطلاق غير الموطوأة المذكورة بأن لم توطأ أو كانت صغيرة أو آيسة أو حاملاً منه وخلع زوجته في زمن حيض بعوض لا سني ولا بدعي ، والبدعي حرام للنهي عنه .
وقسم جماعة الطلاق إلى واجب كطلاق المولى ، أي : واجب مخير إن لم يكن عذر ، ومعين إن كان عذر شرعي كالإحرام ، ومندوب كطلاق غير مستقيمة الحال كسيئة الخلق ، ومكروه كمستقيمة الحال ، وحرام كطلاق البدعة . وأشار الإمام إلى المباح بطلاق من لا يهواها ، ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع بها ، وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق » وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «تزوجوا ولا تطلقوا ، فإن الطلاق يهتز منه العرش » وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا معاذ ما خلق الله تعالى شيئاً على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ، ولا خلق الله تعالى شيئاً أبغض إليه من الطلاق » وعن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق » واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق ، فقالت طائفة بجوازه ، وهو مروي عن طاووس ، وبه قال حماد الكوفي ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . وقال مالك والأوزاعي : لا يجوز الاستثناء في الطلاق والعتق . وقال قتادة : لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول .
ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديداً صرح بصيغة الأمر فقال تعالى : { وأحصوا } أي : اضبطوا ضبطاً كأنه في إتقانه محسوس { العدة } ليعرف زمان الرجعة والنفقة والسكنى ، وحل النكاح لأخت المطلقة مثلاً ونحو ذلك من الفوائد الجليلة { واتقوا } أي : في ذلك { الله } أي : الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر { ربكم } أي : لإحسانه في تربيتكم في حملكم علي الحنيفية السمحة ورفع جميع الآصار عنكم { لا تخرجوهن } أي : أيها الرجال في حال العدة { من بيوتهن } أي : المسكن التي وقع الفراق فيها ، وهي مساكنهن التي يسكنها قبل العدة ، وهي بيوت الأزواج ، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى .
وقرأ ورش وأبو عمر وحفص بضم الباء الموحدة ، والباقون بكسرها { ولا يخرجن } أي : من بيوتهن حتى تنقضي عدتهن ولو وافق الزوج على ذلك ، وعلى الحاكم المنع منه لأن في العدة حقاً لله تعالى ، وقد وجبت في ذلك المسكن . وقوله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } مستثنى من الأول ، والمعنى إلا أن تبدو على الزوج فإنه كالنشوز في إسقاط حقها .
وقال ابن عباس : الفاحشة المبينة أن تبدو على أهل زوجها فيحل إخراجها لسوء خلقها وقال ابن مسعود : أراد بالفاحشة المبينة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ، ثم ترد إلى منزلها . وقال قتادة : الفاحشة النشوز ، وذلك أن يطلقها على النشوز فتحوّل عن بيته . ويجوز أن يكون مستثنى من الثاني للمبالغة في النهي والدلالة على أن خروجها فاحشة هذا كله عند عدم العذر ، أما لعذر كشراء غير من لها نفقة على المفارق نحو طعام كقطن وكتان نهاراً ، وغزلها ونحوه كحديثها وتأنيسها عند جارتها ليلاً وترجع وتبيت ببيتها ، فإنه جائز للحاجة إلى ذلك ، وكخوف على نفس أو مال من نحو هدم وغرق وفسقة مجاورين لها وشدة تأذيها بجيران وشدة تأذيهم بها للحاجة إلى ذلك ، بخلاف الأذى اليسير إذ لا يخلو منه أحد ومن الجيران الإحماء وهم أقارب الزوج ، نعم إن اشتد أذاها بهم أو عكسه وكانت الدار ضيقة نقلهم الزوج عنها وخرج بالجيران ما لو طلبت بيت أبويها وتأذت بهما أو هما بها فلا نقل ، لأن الوحشة لا تطول بينهما ، ولو انتقلت لبلد أو مسكن بإذن زوجها فوجبت العدة ، ولو قبل وصولها إليه اعتدت فيه لأنها مأمورة بالمقام فيه ، فإن انتقلت لذلك بلا إذن فتعتد في الأول وإن وجبت العدة بعد وصولها للثاني لعصيانها بذلك . نعم إن أذن لها بعد انتقالها أن تقيم في الثاني فكما لو انتقلت بالإذن .
ولو أذن لها في الانتقال فوجبت العدة قبل خروجها اعتدت في الأول . ولو سافرت بإذن زوجها فوجبت في الطريق فعودها أولى من مضيها ، فإن مضت وجب عودها بعد انقضاء حاجتها إن سافرت لها ، أو بعد انقضاء مدة الأذن إن قدر لها مدة ، أو مدة إقامة المسافر إن لم تقدر لها مدة في سفر غير حاجتها .
ولو خرجت فطلقها وقال : ما أذنت في الخروج ، أو قال وقد قالت : أذنت في نقلتي : أذنت لا لنقله ، صدق بيمينه ، ولو كان المسكن ملكاً له ويليق بها تعين ؛ لأن تعتد فيه كما مر ويصح بيعه في عدة أشهر كالمكتري ، أو كان مستعاراً ، أو مكري وانقضت مدة الكراء انتقلت منه إن امتنع المالك ، وإن كان ملكاً لها تخيرت بين الاستمرار فيه بإعارة أو إجارة والانتقال منه كما لو كان المسكن خسيساً ، ويخير هو إن كان نفيساً وسكنى المعتدة عن فرقة واجب على الزوج حيث تجب نفقتها عليه لو لم تفارق ، سواء أكانت الفرقة بطلاق أو فسخ أو وفاة لقوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم } [ الطلاق : 6 ] وقيس به الفسخ بأنواعه بجامع فرقة النكاح في الحياة ، ولخبر فريعة بنت مالك في الوفاة : «أن زوجها قتل فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى أهلها ، وقالت : إن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ، فأذن لها في الرجوع ، قالت : فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد ، دعاني فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً » صححه الترمذي وغيره .
وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء التحتية ، والباقون بكسرها { وتلك } أي : الأحكام العالية جداً لما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيرها { حدود الله } أي : الملك الأعظم { ومن يتعد } أي : يقع منه في وقت من الأوقات أنه تعمد أن يعدو { حدود الله } أي : الملك الذي لا كفء له أو بعضها كأن طلق بدعياً { فقد ظلم نفسه } أي : عرضها للعقاب .
وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الظاء ، والباقون بالإدغام { لا تدري } أي : نفس ، أو أنت أيها النبي ، أو المطلق { لعل الله } أي : الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور { يحدث } أي : يوجد شيئاً حادثاً لم يكن إيجاداً ثابتاً لا تقدر الخلق على التسبب في زواله { بعد ذلك } أي : الحادث من الإساءة والبغض { أمراً } بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها .
وقال أكثر المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة ، ومعنى الكلام التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث ، وهذا أحسن الطلاق وأحله في السنة وأبعده عن الندم . .
ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا للسنة إلا واحدة ، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضي العدة ، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار . وقال مالك بن أنس : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفرقة . وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، فأما مفرقاً في الأطهار فلا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض : «ما هكذا أمر الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة » وروي أنه قال لعمر : «مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها تحيض ، ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء » وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة ، وهو مباح . ومالك يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت ، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت ، والشافعي يراعي الوقت وحده .
قال الزمخشري : فإن قلت : هل يقع الطلاق المخالف للسنة ؟ قلت : نعم وهو آثم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه فقال : أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم » وفي حديث ابن عمر أنه قال : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً فقال له : قال : «إذاً عصيت وبانت منك امرأتك » .
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً ، وأجاز ذلك عليه . وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع ، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف .
فإن قيل : قوله تعالى : { إذا طلقتم النساء } عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل ، فكيف صح تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن ؟ .
أجيب : بأنه لا عموم ثم ولا خصوص ، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس ، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن فجاز أن يراد بالنساء هذا وذلك ، فلما قيل : { فطلقوهن لعدتهن } علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض .