إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَآ إِلَيۡكَۚ قَالَ عَذَابِيٓ أُصِيبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَآءُۖ وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ} (156)

{ واكتب لَنَا } أي عيِّنْ لنا وقيل : أوجِبْ وحقِّقْ وأثبتْ { في هذه الدنيا حَسَنَةٌ } أي نعمةً وعافيةً أو خَصلة حسنةً . قال ابن عباس رضي الله عنهما : اقبَلْ وِفادتَنا ورُدَّنا بالمغفرة والرحمة { وَفِي الآخرة } أي واكتبْ لنا فيها أيضاً حسنةً وهي المثوبةُ الحسنى والجنة { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي تُبْنا وأنبْنا إليك ، من هاد يهودُ إذا رجَع وقرىء بكسر الهاء من هاده يهيدُه إذا حرَّكه وأماله ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل أو للمفعول بمعنى أمَلْنا أنفسَنا أو أمِلْنا إليك ، وتجويزُ أن تكون القراءةُ المشهورة على بناء المفعول على لغة من يقول : عودَ المريضُ مع كونها لغةً ضعيفةً مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل ، والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل الدعاءِ فإن التوبةَ مما يوجب قَبولَه بموجَب الوعدِ المحتوم ، وتصديرُها بحرف التحقيقِ لإظهار كمالِ النشاطِ والرغبةِ في التوبة ، والمعنى إنا تُبنا ورجَعْنا عما صنعنا من المعصية العظيمةِ التي جئناك للاعتذار عنها وعما وقع هاهنا من طلب الرؤية ، فبعيدٌ من لطفك وفضلك أن لا تقبل توبة التائبين . قيل : لما أخذتْهم الرجفةُ ماتوا جميعاً فأخذ موسى عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله تعالى حتى أحياهم ، وقيل : رجَفوا وكادت تَبينُ مفاصلُهم وأشرفوا على الهلاك فخاف موسى عليه الصلاة والسلام فبكى فكشفها الله تعالى عنهم .

{ قَالَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الكلامُ كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى عند دعاءِ موسى عليه السلام ؟ فقيل : قال : { عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } لعله عز وجل حين جعل توبةَ عبدةِ العجلِ بقتلهم أنفسَهم ضمّن موسى عليه السلام دعاءَه التخفيفَ والتيسير حيث قال : واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي خَصلةً حسنةً عاريةً عن المشقة والشدة فإن في قتل أنفسهم من العذاب والتشديد ما لا يخفى ، فأجاب تعالى بأن عذابي شأنُه أن أُصيبَ به من أشاء تعذيبَه من غير دخل لغيري فيه وهم ممن تناولَتْه مشيئتي ، ولذلك جُعلت توبتُهم مشوبةً بالعذاب الدنيوي { ورحمتي وَسِعَتْ كُلَّ شيء } أي شأنُها أن تسَعَ في الدنيا المؤمنَ والكافرَ بل كلَّ ما يدخل تحت الشيئية من المكلفين وغيرِهم وقد نال قومَك نصيبٌ منها في ضمن العذاب الدنيوي ، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارعِ ونسبةِ السعةِ إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمةَ مقتضى الذاتِ وأما العذابُ فبمقتضى معاصي العباد ، والمشيئةُ معتبرةٌ في جانب الرحمةِ أيضاً وعدمُ التصريحِ بها للإشعار بغاية الظهور ، ألا يُرى إلى قوله تعالى : { فَسَأَكْتُبُهَا } أي أُثبتها وأعيِّنُها فإنه متفرعٌ على اعتبار المشيئةِ كأنه قيل : فإذا كان الأمرُ كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسَعةِ رحمتي لكل من أشاء فسأكتبُها كَتْبةً كائنة كما دعوتَ بقولك : واكتب لنا في هذه الخ ، أي سأكتبها خالصةً غيرَ مشوبةٍ بالعذاب الدنيوي { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي الكفر والمعاصي إما ابتداء أو بعد ملامستها وفيه تعريض بقومه كأنه قيل : لا لقومك لأنهم غير متقين فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة للعذاب الدنيوي { وَيُؤْتُونَ الزكوة } وفيه أيضا تعريضٌ بهم حيث كانت الزكاةُ شاقةً عليهم ، ولعل الصلاةَ إنما لم تذكَرْ مع إنافتها على سائر العبادات اكتفاءً عنها بالاتقاء الذي هو عبارةٌ عن فعل الواجبات بأسرها وتركِ المنكرات عن آخرها ، وإيرادُ إيتاءِ الزكاة لما مر من التعريض { والذين هُم بآياتنا } جميعاً { يُؤْمِنُونَ } إيماناً مستمراً من غير إخلالٍ بشيء منها ، وفيه تعريضٌ بهم وبكفرهم بالآيات العظامِ التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام وبما سيجيء بعد ذلك من الآيات البيناتِ كتظليل الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسلوى وغيرِ ذلك .

وتكريرُ الموصول مع أن المرادَ به عينُ ما أريد بالموصول الأولِ دون أن يقال : ويؤمنون بآياتنا عطفاً على يؤتون الزكاة كما عُطف هو على يتقون لما أشير إليه من القَصْر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض .