القول في تأويل قوله تعالى : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلّ عَلَىَ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجّههّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } .
وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والاَلهة التي تُعبد من دونه ، فقال تعالى ذكره : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجْلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } ، يعني : بذلك الصنم ، أنه لا يسمع شيئا ولا ينطق ؛ لأنه إما خشب منحوت ، وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه ، ولا دفع ضرّ عنه . { وهُوَ كَلّ على مَوْلاَهُ } ، يقول : وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته ، فكذلك الصنم كَلّ على من يعبده ، يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه ، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء ، فهو كلّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم . { أيْنَما يُوجّهْهُ لا يَأْتِ بخَيْرٍ } ، يقول : حيثما يوجهه لا يأت بخير ؛ لأنه لا يفهم ما يُقال له ، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد ، فهو لا يفهم ولا يُفْهَم عنه ، فكذلك الصنم لا يعقل ما يقال له فيأتمر لأمر من أمره ، ولا ينطق فيأمر وينهي ، يقول الله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بالعَدْلِ } يعني : هل يستوي هذا الأبكم الكلّ على مولاه ، الذي لا يأتي بخير حيث توجه ، ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه ، وهو : الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته ؟ يقول : لا يستوي هو تعالى ذكره ، والصنم الذي صفته ما وصف . وقوله : { وَهُوَ على صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } يقول : وهو مع أمره بالعدل ، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل وأمره به مستقيم ، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه .
وقد اختلف أهل التأويل في المضروب له هذا المثل ، فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } قال : هو : الوثن . { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بالعَدْلِ } ، قال : الله يأمر بالعدل . { وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، وكذلك كان مجاهد يقول ، إلا أنه كان يقول : المثل الأوّل أيضا ضربه الله لنفسه وللوثَن .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره : { عَبْدا مَمْلُوكا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } { وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقا حَسَنا } و{ رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ } { وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ } قال : كل هذا مثل إله الحقّ ، وما يُدعي من دونه من الباطل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجْلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ } قال : إنما هذا مثل ضربه الله .
وقال آخرون : بل كلا المثلين للمؤمن والكافر . وذلك قول يُروَى عن ابن عباس ، وقد ذكرنا الرواية عنه في المثل الأوّل في موضعه .
فحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَضَرَب اللّهُ مْثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلّ عَلى مَوْلاهُ } . . . إلى آخر الاَية ، يعني بالأبكم : الذي هو كَلّ على مولاه الكافر ، وبقوله : { وَمَنْ يَأْمُرُ بالعَدْلِ } ، المؤمن ، وهذا المثل في الأعمال .
حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، قال : حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، قال : حدثنا حماد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن إبراهيم ، عن عكرمة ، عن يَعْلى بن أمية ، عن ابن عباس ، في قوله : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدا مَمْلُوكا } قال : نزلت في رجل من قريش وعبده . وفي قوله : { مَثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ على شَيْءٍ } . . . إلى قوله : { وَهُوَ عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، قال : هو عثمان بن عفان . قال : والأبكم الذي أينما يُوَجّهُ لا يأت بخير ، ذاك مولى عثمان بن عفّان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة ، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه ، وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في المثل الأوّل ؛ لأنه تعالى ذكره مثّل مثَل الكافر بالعبد الذي وصف صفته ، ومَثّل مثل المؤمن بالذي رزقه رزقا حسنا فهو ينفق مما رزقه سرّا وجهرا ، فلم يجز أن يكون ذلك لله مثلاً ، إذ كان الله إنما مثّل الكافر الذي لا يقدر على شيء بأنه لم يرزقه رزقا ينفق منه سرّا ، ومثّل المؤمن الذي وفّقه الله لطاعته فهداه لرشده ، فهو يعمل بما يرضاه الله ، كالحرّ الذي بسط له في الرزق فهو ينفق منه سرّا وجهرا ، والله تعالى ذكره هو الرازق غير المرزوق ، فغير جائز أن يمثل إفضاله وجوده بإنفاق المرزوق الرزق الحسن . وأما المثل الثاني ، فإنه تمثيل منه تعالى ذكره مَنْ مثله الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، والكفار لا شكّ أن منهم من له الأموال الكثيرة ، ومن يضرّ أحيانا الضرّ العظيم بفساده ، فغير كائن ما لا يقدر على شيء ، كما قال تعالى ذكره مثلاً ، لمن يقدر على أشياء كثيرة . فإذا كان ذلك كذلك ، كان أولى المعاني به تمثيل ما لا يقدر على شيء ، كما قال تعالى ذكره بمثله ما لا يقدر على شيء ، وذلك الوثن الذي لا يقدر على شيء ، بالأبكم الكَلّ على مولاه الذي لا يقدر على شيء ، كما قال ووصف .
هذا تمثيل ثانٍ للحالتين بحالتين باختلاف وجه الشبّه . فاعتبر هنا المعنى الحاصل من حال الأبكم ، وهو العجز عن الإدراك ، وعن العمل ، وتعذّر الفائدة منه في سائر أحواله ؛ والمعنى الحاصل من حال الرجل الكامل العقل والنّطق في إدراكه الخيرَ وهديه إليه وإتقانِ عمله وعمل من يهديه ، ضربه الله مثلاً لكماله وإرشاده الناس إلى الحقّ ، ومثلاً للأصنام الجامدة التي لا تنفع ولا تضرّ .
وقد قرن في التمثيل هنا حال الرجلين ابتداء ، ثم فصل في آخر الكلام مع ذكر عدم التّسوية بينهما بأسلوب من نظم الكلام بديع الإيجاز ، إذ حذف من صدر التمثيل ذكر الرجل الثاني للاقتصار على ذكره في استنتاج عدم التسوية تفنّناً في المخالفة بين أسلوب هذا التمثيل وأسلوب سابقه الذي في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً } [ سورة النحل : 75 ] . ومثْل هذا التفنّن من مقاصد البلغاء كراهية للتكرير لأن تكرير الأسلوب بمنزلة تكرير الألفاظ .
والأبكم : الموصوف بالبَكم بفتح الباء والكاف وهو الخَرَس في أصل الخلقة من وقت الولادة بحيث لا يفهم ولا يُفهم . وزيد في وصفه أنه زَمِنٌ لا يقدر على شيء . وتقدّم عند قوله تعالى : { صم بكم عمي } في أول سورة البقرة ( 18 ) .
والكَلّ بفتح الكاف العالَة على الناس . وفي الحديث مَن تَرَك كَلاّ فعلينا ، أي من ترك عِيالاً فنحن نكفلهم . وأصل الكلّ : الثّقَل . ونشأت عنه معاننٍ مجازية اشتهرت فساوت الحقيقة .
والمولى : الذي يلي أمر غيره . والمعنى : هو عالة على كافله لا يدبّر أمر نفسه . وتقدّم عند قوله تعالى : { بل الله مولاكم } في سورة آل عمران ( 15 ) ، وقوله تعالى : { وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ } في سورة يونس ( 30 ) .
ثم زاد وصفه بقلّة الجدوى بقوله تعالى : { أينما يوجّهه } ، أي مولاه في عمل ليعمله أو يأتي به لا يأتِ بخير ، أي لا يهتدي إلى ما وجّه إليه ، لأن الخير هو ما فيه تحصيل الغرض من الفعل ونفعه .
ودلّت صلة { يأمر بالعدل } على أنه حكيم عالم بالحقائق ناصح للناس يأمرهم بالعدل لأنه لا يأمر بذلك إلا وقد علمه وتبصّر فيه .
والعدل : الحقّ والصواب الموافق للواقع .
والصراط المستقيم : المحجّة التي لا التواء فيها . وأطلق هنا على العمل الصالح ، لأن العمل يشبّه بالسيرة والسلوك فإذا كان صالحاً كان كالسلوك في طريق موصلة للمقصود واضحة فهو لا يستوي مع من لا يعرف هدى ولا يستطيع إرشاداً ، بل هو محتاج إلى من يكفله .
فالأول مثَل الأصنام الجامدة التي لا تفقه وهي محتاجة إلى من يحرسها وينفض عنها الغبار والوسخ ، والثاني مثل لكماله تعالى في ذاته وإفاضته الخير على عباده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.