{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىَ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدّقُواْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
يعني جل ثناؤه بذلك : وإن كان ممن تقبضون منه من غرمائكم رءوس أموالكم ذو عسرة ، يعني معسرا برءوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء ، فأنظِروهم إلى ميسرتهم . وقوله : { ذُو عُسْرَةٍ } مرفوع بكان ، فالخبر متروك ، وهو ما ذكرنا ، وإنما صلح ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها ، ولو وجهت كان في هذا الموضع إلى أنها بمعنى الفعل المتكفي بنفسه التامّ ، لكان وجها صحيحا ، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر . فيكون تأويل الكلام عند ذلك : وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برءوس أموالكم ، فنظرة إلى ميسرة .
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب : «وَإنْ كانَ ذا عُسْرَةٍ » بمعنى : وإن كان الغريم ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغير جائزة القراءة به عندنا لخلافه خطوط مصاحف المسلمين .
وأما قوله : { فَنَظْرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } فإنه يعني : فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة ، كما قال : { فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيَامٍ } وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل ، فأغنى عن تكريره . والميسرة : المفعلة من اليسر ، مثل المرحمة والمشأمة .
ومعنى الكلام : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة ، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بما ليس لكم ، فيصير من أهل اليسر به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : نزلت في الربا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا هشام ، عن ابن سيرين : أن رجلاً خاصم رجلاً إلى شريح قال : فقضى عليه ، وأمر بحبسه . قال : فقال رجل عند شريح : إنه معسر ، والله يقول في كتابه : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : فقال شريح : إنما ذلك في الربا ، وإن الله قال في كتابه : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إِلى أهْلِها وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْلِ } ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذّبنا عليه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : ذلك في الربا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن الحسن : أن الربيع بن خُثَيْم كان له على رجل حقّ ، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول : أي فلان إن كنت موسرا فأدّ ، وإن كنت معسرا فإلى ميسرة .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : جاء رجل إلى شريح ، فكلمه ، فجعل يقول : إنه معسر ، إنه معسر ، قال : فظننت أنه يكلمه في محبوس . فقال شريح : إن الربا كان في هذا الحيّ من الأنصار ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } وقال الله عزّ وجلّ : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } فما كان الله عزّ وجلّ يأمرنا بأمر ثم يعذّبنا عليه ، أدّوا الأمانات إلى أهلها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : فنظرة إلى ميسرة برأس ماله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ } إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر ، وليست النظرة في الأمانة ، ولكن يؤدّي الأمانة إلى أهلها .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ } برأس المال ، { إلى مَيْسَرَةٍ } يقول : إلى غنى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } هذا في شأن الربا .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } هذا في شأن الربا ، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون ، فلما أسلم من أسلم منهم ، أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } يعني المطلوب .
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : الموت .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن محمد بن عليّ ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : هذا في الربا .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم في الرجل يتزوّج إلى الميسرة ، قال : إلى الموت أو إلى فرقة .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } . قال : ذلك في الربا .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ } . قال : يؤخره ولا يزد عليه ، وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه زاد عليه وأخره .
وحدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : يؤخره ولا يزد عليه .
وقال آخرون : هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أيّ وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدّقوا خير لكم¹ قال : وكذلك كل دين على مسلم ، فلا يحلّ لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه ، وإنما جعل النظرة في الحلال فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك .
حدثني عليّ بن حرب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : نزلت في الدين .
والصواب من القول في قوله : { وَإنْ كانَ دُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } أنه معنيّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية ، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم ، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا ، وبقبض رءوس أموالهم ، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا ، وإنظار من كان منهم معسرا برءوس أموالهم إلى ميسرتهم . فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له ، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبَل الربا ، ويلزمه أداء رأس ماله الذي كان أخذ منه ، أو لزمه من قبل الإرباء إليه إن كان موسرا ، وإن كان معسرا كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته ، وكان الفضل على رأس المال مبطلاً عنه . غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا وإياهم عنى بها ، فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الرّبا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حلّ عليه ، وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته ، لأن دين كل ذي دين في مال غريمه وعلى غريمه قضاؤه منه لا في رقبته ، فإذا عدم ماله ، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع ، وذلك أن مال ربّ الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون في رقبة غريمه ، أو في ذمته يقضيه من ماله ، أو في مال له بعينه¹ فإن يكن في مال له بعينه ، فمتى بطل ذلك المال وعدم ، فقد بطل دين ربّ المال ، وذلك ما لا يقوله أحد ويكون في رقبته ، فإن يكن كذلك فمتى عدمت نفسه ، فقد بطل دين ربّ الدين ، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك ، وذلك أيضا لا يقوله أحد ، فقد تبين إذ كان ذلك كذلك أن دين ربّ المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله ، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته ، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدى منه حقّ صاحبه لو كان موجودا ، وإذا لم يكن على رقبته سبيل لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل ، لأنه غير مانعه حقا له إلى قضائه سبيل ، فيعاقب بظلمه إياه بالحبس .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
يعني جلّ وعزّ بذلك : وأن تتصدّقوا برءوس أموالكم على هذا المعسر ، خير لكم أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته لتقبضوا رءوس أموالكم منه إذا أيسر ، { إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } موضع الفضل في الصدقة ، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأن تصدّقوا برءوس أموالك على الغنيّ والفقير منهم خير لكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ } والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية¹ فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا . { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } . يقول وإن تصدقوا بأصل المال ، خير لكم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد عن قتادة : { وأنْ تَصَدّقُوا } أي برأس المال فهو خير لكم .
وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : من رءوس أموالكم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : أن تصدّقوا برءوس أموالكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : وأن تصدقوا به على المعسر خير لكم¹ نحو ما قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : وأن تصدّقوا برءوس أموالكم على الفقير فهو خير لكم ، فتصدّق به العباس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } يقول : وإن تصدّقت عليه برأس مالك فهو خير لك .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك في قوله : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْر لَكم } يعني على المعسر ، فأما الموسر فلا ، ولكن يؤخذ منه رأس المال ، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : وأن تصدّقوا برءوس أموالكم خير لكم من نظرة إلى ميسرة ، فاختار الله عزّ وجلّ الصدقة على النّظارة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ ، وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : من النظرة { إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } والنظرة واجبة ، وخير الله عزّ وجلّ الصدقة على النظرة ، والصدقة لكل معسر فأما الموسر فلا .
وأولى التأويلين بالصواب ، تأويل من قال معناه : وأن تصدّقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين ، وإلحاقه بالذي يليه أحبّ إليّ من إلحاقه بالذي بعد منه . وقد قيل : إن هذه الاَيات في أحكام الربا هن آخر آيات نزلت مِن القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب قال : كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا ، وإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قُبِض قبل أن يفسرها ، فدعوا الربا والريبة .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر : أن عمر رضي الله عنه قام ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد : فإنه والله ما أدري ، لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم ، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم وإنه كان من آخر آيات القرآن تنزيلاً آيات الربا ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبنيه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم .
حدثني أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن الأحول ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، قال : آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا ، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعلّ به بأسا ، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس .
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 )
حكم الله تعالى لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال ، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر . قال المهدوي : وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين ، وحكى مكي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام( {[2739]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ ، وإلا فليس بنسخ ، و «العسرة » ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة ، والنظرة : التأخير ، والميسرة مصدر بمعنى اليسر ، وارتفع { ذو عسرة } ب { كان } التامة التي هي بمعنى وجد وحدث . هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما ، ومن هنا يظهر أن الأصل الغنى ووفور الذمة ، وأن العدم طارىء حادث يلزم أن يثبت . وقال بعض الكوفيين ، حكاه الطبري : بل هي { كان } الناقصة والخبر محذوف ، تقديره { وإن كان } من غرمائكم { ذو عسرة } وارتفع قوله : { فنظرة } على خبر ابتداء مقدر ، تقديره فالواجب نظرة ، أو فالحكم نظرة .
قال الطبري : وفي مصحف أبي بن كعب : { وإن كان ذو عسرة } على معنى وإن كان المطلوب ، وقرأ الأعمش «وإن كان معسراً فنظرة » .
قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى : وكذلك في مصحف أبي بن كعب ، قال مكي والنقاش وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ { وإن كان ذو عسرة } بالواو فهي عامة في جميع من عليه دين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير لازم( {[2740]} ) ، وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان ، «فإن كان » بالفاء { ذو عسرة } بالواو ، وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن : «فنظْرة » بسكون الظاء ، وكذلك قرأ الضحاك ، وهي على تسكين الظاء من نظرة ، وهي لغة تميمية ، وهم الذين يقولون : كرم زيد بمعنى كرم ، ويقولون ، كبد من كبد ، وكتف في كتف ، وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة » على وزن فاعلة ، وقال الزجّاج : هي من أسماء المصادر ، كقوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } [ الواقعة : 2 ] وكقوله تعالى : { تظن أن يفعل بها فاقرة } [ القيامة : 25 ] ، وكخائنة الأعين( {[2741]} ) وغيره ، وقرأ نافع وحده «ميسُرة » بضم السين ، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «ميسَرة » بفتح السين على وزن مفعلة ، وهذه القراءة أكثر في كلام العرب ، لأن مفعلة بضم العين قليل .
قال أبو علي : قد قالوا : مسربة ومشربة( {[2742]} ) ، ولكن مفعلة بفتح العين أكثر في كلامهم ، وقرأ عطاء بن أبي رياح أيضاً ومجاهد : «فناظره إلى ميسُره » على الأمر في «ناظره » وجعلا الهاء ضمير الغريم ، وضما السين من «ميسُره » وكسر الراء وجعلا الهاء ضمير الغريم ، فأما ناظره ففاعله من التأخير ، كما تقول : سامحه( {[2743]} ) ، وأما ميسر فشاذ ، قال سيبويه : ليس في الكلام مفعل ، قال أبو علي يريد في الآحاد ، فأما في الجمع فقد جاء قول عدي بن زيد : [ الرمل ]
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنّي مَأْلُكاً . . . أَنَّه قَدْ طالَ حَبْسي وانتظاري( {[2744]} )
بثين الزمي - لا - إنَّ - لا - إنْ لزمته . . . على كثرةِ الواشين أيّ معون
فالأول جمع مألكه ، والآخر جمع معونة( {[2745]} ) ، وقال ابن جني : إن عدياً أراد مالكة فحذف ، وكذلك جميل أراد أي معونة ، وكذلك قول الآخر : [ الراجز ]
«ليومِ روعٍ أو فِعال مكْرَمِ ( {[2746]} ) » . . . «أرادَ مَكْرُمَة » ، فحذف قال : ويحتمل أن تكون جموعاً كما قال أبو علي .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فإن كان ميسر جمع ميسرة فيجري مجرى هذه الأمثلة ، وإن كان قارئه أراد به الإفراد فذلك شاذ ، وقد خطأه بعض الناس ، وكلام سيبويه يرده ، واختلف أهل العلم : هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة : واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال ؟
فقال ابن عباس وشريح : ذلك في الربا خاصة ، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة ، بل تؤدى إلى أهلها( {[2747]} ) ، وكأن هذا القول( {[2748]} ) يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح ، فالحكم هي النظرة ضرورة ، وقال جمهور العلماء النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الديْن ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة ، فسره الضحاك( {[2749]} ) .
وقوله تعالى : { وأن تصدقوا } ابتداء وخبره { خير } ، وندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيراً من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك وجمهور الناس . وقال الطبري وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم ، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالاً لقتادة وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته ، بل هي كقول جمهور الناس ، وليس في الآية مدخل للغني( {[2750]} ) ، وقرأ جمهور القراء : «تصَّدقوا » بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا . وقرأ عاصم «وأن تصْدقوا » بتخفيف الصاد وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وأن تصدقوا » بفك الإدغام .
وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال : كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة . وقال ابن عباس : آخر ما نزل آية الربا( {[2751]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل( {[2752]} ) ، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم ، قال : آخر آية قوله تعالى : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين ، وروي أن قوله عز وجل : { واتقوا } نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ، ثم لم ينزل بعدها شيء ، وروي بثلاث ليال ، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات ، وأنه قال عليه السلام اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ، وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية ، من البقرة .
عطف على قوله : { فلكم رؤوس أموالكم } لأنّ ظاهر الجواب أنّهم يسترجعونها معجّلة ، إذ العقود قد فسخت . فعطف عليه حالة أخرى ، والمعطوفُ عليه حالة مقدّرة مفهومة لأنّ الجزاء يدل على التسبّب ، والأصل حصول المشروط عند الشرط . والمعنى وإن حصل ذو عسرة ، أي غريم معسر .
وفي الآية حجة على أنّ ( ذُو ) تضاف لغير ما يفيد شيئاً شريفاً .
والنظِرة بكسر الظاء الانتظار .
والميسُرة بضم السين في قراءة نافع وبفتحها في قراءة الباقين اسم لليسر وهو ضدّ العسر بضم العين وهي مَفْعُلة كمَشرُقَة ومَشْرُبَة ومألُكَة ومَقْدُرة ، قال أبو علي ومَفْعَلة بالفتح أكثر في كلامهم .
وجملة فنظرة جواب الشرط ، والخبر محذوف ، أي فنظرة له .
والصيغة طلب ، وهي محتملة للوجوب والندب . فإن أريد بالعسرة العُدْم أي نفاد مالِهِ كلّه فالطلب للوجوب ، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدّين إذا لم يكن له وفاء . وقد قيل : إن ذلك كان حكماً في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين ، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } [ يوسف : 76 ] . وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين ، وأحسب أن في شريعة التوراة قريباً من هذا ، وروي أنّه كان في صدر الإسلام ، ولم يثبت . وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب ، وقد قال به بعض الفقهاء ، ويحتمل الندب ، وهو قول مالك والجمهور ، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأنّ هذا حق يمكن استيفاؤه ، والإنظار معروف والمعروف لا يجب . غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع ، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلاّ يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما بِهِ الخلاصُ .
ومورد الآية على ديون معاملات الربا ، لكنّ الجمهور عمّموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنّه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال ديناً بحتاً ، فما عيّن له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كلُه . وخالف شريح فخَصّ الآية بالديون التي كانت على ربا ثم أبطل رباها .
وقوله : { وأن تصدقوا خير لكم } أي أنّ إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل ، وجعله الله صدقة لأنّ فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف .
وقرأ الجمهور من العشرة { تصدقوا } بتشديد الصاد على أنّ أصله تتصدّقوا فقلبت التاء الثانية صاداً لتقاربهما وأدغمت في الصاد ، وقرأه عاصم بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين للتخفيف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن كان}: المطلوب، {ذو عسرة}: من القوم... {فنظرة إلى ميسرة}: فأجله إلى غناه.
{وأن تصدقوا}: به كله، فلا تأخذونه، فهو {خير لكم} من أخذه. {إن كنتم تعلمون}...
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ اِلَى مَيْسُرَةٍ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مطل الغني ظلم» فلم يجعل على ذي دين سبيلا في العسرة حتى تكون الميسرة، ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مطله ظلما إلا بالغنى. فإذا كان معسرا فهو ليس ممن عليه سبيل إلا أن يوسر، وإذا لم يكن عليه سبيل فلا سبيل على إجارته. لأن إجارته عمل بدنه. وإذا لم يكن على بدنه سبيل وإنما السبيل على ماله، لم يكن إلى استعماله سبيل، وكذلك لا يحبس لأنه لا سبيل عليه في حاله هذه.
وإذا قام الغرماء على رجل فأرادوا أخذ جميع ماله، ترك له من ماله قدر ما لا غناء به عنه، وأقل ما يكفيه وأهله يومه من الطعام والشراب. (الأم: 3/202. ومن معرفة السنن والآثار: 4/455.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإن كان ممن تقبضون منه من غرمائكم رءوس أموالكم ذو عسرة، يعني معسرا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء، فأنظِروهم إلى ميسرتهم. {فَنَظْرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ}: فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة.
ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بما ليس لكم، فيصير من أهل اليسر به... يؤخره ولا يزد عليه.
وقال آخرون: هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أيّ وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا... عن الضحاك، قال: من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدّقوا خير لكم¹ قال: وكذلك كل دين على مسلم، فلا يحلّ لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه، وإنما جعل النظرة في الحلال فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك.
والصواب من القول في قوله: {وَإنْ كانَ دُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} أنه معنيّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رءوس أموالهم، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا، وإنظار من كان منهم معسرا برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبَل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله الذي كان أخذ منه، أو لزمه من قبل الإرباء إليه إن كان موسرا، وإن كان معسرا كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكان الفضل على رأس المال مبطلاً عنه. غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا وإياهم عنى بها، فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الرّبا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حلّ عليه، وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته، لأن دين كل ذي دين في مال غريمه وعلى غريمه قضاؤه منه لا في رقبته، فإذا عدم ماله، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع، وذلك أن مال ربّ الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون في رقبة غريمه، أو في ذمته يقضيه من ماله، أو في مال له بعينه¹ فإن يكن في مال له بعينه، فمتى بطل ذلك المال وعدم، فقد بطل دين ربّ المال، وذلك ما لا يقوله أحد ويكون في رقبته، فإن يكن كذلك فمتى عدمت نفسه، فقد بطل دين ربّ الدين، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك، وذلك أيضا لا يقوله أحد، فقد تبين إذ كان ذلك كذلك أن دين ربّ المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدى منه حقّ صاحبه لو كان موجودا، وإذا لم يكن على رقبته سبيل لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل، لأنه غير مانعه حقا له إلى قضائه سبيل، فيعاقب بظلمه إياه بالحبس.
{وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: وأن تتصدّقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر، خير لكم أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر. {إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} موضع الفضل في الصدقة، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وأن تصدّقوا برؤوس أموالكم على الغنيّ والفقير منهم خير لكم.
وقال آخرون: معنى ذلك: وأن تصدقوا به على المعسر خير لكم¹ نحو ما قلنا في ذلك.
وأولى التأويلين بالصواب، تأويل من قال معناه: وأن تصدّقوا على المعسر برؤوس أموالكم خير لكم لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين، وإلحاقه بالذي يليه أحبّ إليّ من إلحاقه بالذي بعد منه. وقد قيل: إن هذه الآيات في أحكام الربا هن آخر آيات نزلت مِن القرآن... عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قُبِض قبل أن يفسرها، فدعوا الربا والريبة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة أو ذو إعسار، {فَنَظِرَةٌ}: فالحكم أو فالأمر نظرة وهي الإنظار.
{وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}... وقيل: أريد بالتصدق: الإنظار.
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه خير لكم فتعملوا به، جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
واختلف أهل العلم: هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة: واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال؟ فقال ابن عباس وشريح: ذلك في الربا خاصة، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة، بل تؤدى إلى أهلها، وكأن هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح، فالحكم هي النظرة ضرورة، وقال جمهور العلماء النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء أكان الديْن ربا أم من تجارة في ذمة أو من أمانة، فسره الضحاك...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرِّبَا عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ قَبْلَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِهَا: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:... الثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ دَيْنٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْمَيْسَرَةُ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا الدَّيْنُ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا...
تَحْرِيرُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا: أَنَّهُ يُتْرَكُ لَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ الْأَيَّامَ وَكِسْوَةُ لِبَاسِهِ وَرُقَادِهِ، وَلَا تُبَاعُ ثِيَابُ جُمُعَتِهِ، وَيُبَاعُ خَاتَمُهُ...
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُعْسِرِ قُرْبَةٌ؛ وَذَلِكَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنِ إنْظَارِهِ إلَى الْمَيْسَرَةِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى حُذَيْفَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَلَقَّتْ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالُوا: عَمِلْت مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْت آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُوسِرَ وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ: كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ»؛ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة، وإن تصدقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم. فإن أبت نفوسكم وشحت بالعدل الواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوما ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم، فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه. فذكر سبحانه المحسن وهو «المتصدق»، ثم عقبه بالظالم وهو «المرابي». ثم ذكر العادل في آية التداين فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} الآية. ولولا أن هذه الآية تستدعي سِفرًا وحدها لذكرت بعض تفسيرها. والغرض: إنما هو التنبيه والإشارة، وقد ذكر أيضا العادل، وهو آخذ رأس ماله من غريمه لا بزيادة ولا نقصان...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الناس منقسمين إلى موسر ومعسر أي غني وفقير كان كأنه قيل: هذا حكم الموسر {وإن كان} أي وجد من المدينين {ذو عسرة} لا يقدر على الأداء في هذا الوقت {فنظرة} أي فعليكم نظرة له. قال الحرالي: وهو التأخير المرتقب نجازه {إلى ميسرة} إن لم ترضوا إلا بأخذ أموالكم؛ وقرأ نافع وحمزة بضم السين؛ قال الحرالي: إنباء عن استيلاء اليسر وهي أوسع النظرتين، والباقون بالفتح إنباء عن توسطها ليكون اليسر في مرتبتين، فمن انتظر إلى أوسع اليسرين كان أفضل توبة...
{وأن تصدقوا} أي وصدقتكم على المعسر بتركه له، ذلكم {خير} في الدنيا بما يبارك الله سبحانه وتعالى {لكم} ويعوضكم وفي الآخرة بما يجزل لكم من الأجر...
ولما كان كل أحد يدعي العلم ويأنف أشد أنفة من النسبة إلى الجهل قال: {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم من ذوي العلم فأنتم تعرفون صحة ما دعوتكم إليه مما يقتضي الإدبار عنه أو الإقبال عليه، فإذا تحققتم ذلك فامتثلوه فإنه يقبح على العلم بقبح الشيء الإصرار عليه وإلا فبينوا أنه ليس بخير وإلا فأنتم من أهل الاعوجاج بالجهل تقومون بالحرب و الضرب والطعن كالسباع الضارية و الذئاب العاوية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار.. فليس السبيل هو ربا النسيئة: بالتأجيل مقابل الزيادة.. ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة. والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيدا من الخير أوفى وأعلى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. وأن تصدقوا خير لكم.. إن كنتم تعلمون}.. إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية. إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار. إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع!... ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهوما "معقولا "في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة! وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد! -وبخاصة وحوش المرابين سواء [أكانوا] أفرادا قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال للطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان، فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء؛ فيلجؤون مرغمين إلى أوكار الوحوش. فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها. تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة! سواء أكانوا أفرادا هكذا أم كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية. فكلهم سواء. غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة؛ ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية، والمؤلفات العلمية، والأساتذة والمعاهد والجامعات، والتشريعات والقوانين، والشرطة والمحاكم والجيوش.. كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها، وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون..!! نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب.. ولكنا نعرف أنها الحق. ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}. وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) إن المعسر- في الإسلام -لا يطارد من صاحب الدين، أو من القانون والمحاكم. إنما ينظر حتى يوسر.. ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين. فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه- إن تطوع بهذا الخير. وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين. وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة. لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر! ذلك أن إبطال الربا يفقد شطرا كبيرا من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين، ويضيق عليه الخناق. وهو معسر لا يملك السداد. فهنا كان الأمر -في صورة شرط وجواب- بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء. وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار. على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظا من مصارف الزكاة، ليؤدي دينه، وييسر حياته: إنما الصدقات للفقراء والمساكين... والغارمين... وهم أصحاب الديون. الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم. إنما أنفقوها في الطيب النظيف. ثم قعدت بهم الظروف!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والصيغة طلب، وهي محتملة للوجوب والندب. فإن أريد بالعسرة العُدْم أي نفاد مالِهِ كلّه فالطلب للوجوب، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدّين إذا لم يكن له وفاء. وقد قيل: إن ذلك كان حكماً في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} [يوسف: 76]. وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين، وأحسب أن في شريعة التوراة قريباً من هذا، وروي أنّه كان في صدر الإسلام، ولم يثبت. وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب، وقد قال به بعض الفقهاء، ويحتمل الندب، وهو قول مالك والجمهور، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأنّ هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار معروف والمعروف لا يجب. غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلاّ يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما بِهِ الخلاصُ.
ومورد الآية على ديون معاملات الربا، لكنّ الجمهور عمّموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنّه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال ديناً بحتاً، فما عيّن له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كلُه...
وقوله: {وأن تصدقوا خير لكم} أي أن إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل، وجعله الله صدقة لأنّ فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف...
وبعد ذلك يجيء القرآن ليفتح بابا جديدا من الأمل أمام المظلومين. وليضع حدا للذين كانوا ظالمين أولا، وحكم لهم برأس المال ومنعهم من الزائد على رأس المال، فحنّن قلوبهم على هؤلاء. أي ليست ضربة لازب أن تأخذوا رأس المال الآن، ولكن عليكم أن تُنظروا وتمهلوا المدين إن كان معسراً، وإن تساميتم في النضج الإيماني اليقيني وارتضيتم الله بديلا لكم عن كل عوض يفوتكم، فعليكم أن تتجاوزوا وتتنازلوا حتى عن رؤوس أموالكم التي حكم الله لكم بها لتترفّعوا بها وتهبوها لمن لا يقدر. فيأتي قول الحق: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون 280}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}. استكمالاً لبيان حقّ الدائن في الحصول على رأسماله «بدون ربح» تبيّن الآية هنا حقّاً من حقوق المدين إذا كان عاجزاً عن الدفع، ففضلاً عن عدم جواز الضغط عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل مزيداً من الوقت لتسديد أصل الدَين عند القدرة والاستطاعة. إنّ القوانين الإسلامية التي جاءت لتوضيح مفهوم هذه الآية تمنع الدائن من الاستيلاء على دار المدين وأمتعته الضرورية اللازمة لقاء دَينه، إنّما للدائن أن يأخذ الزائد على ذلك. وهذا قانون صريح وإنساني يحمي حقوق الطبقات الفقيرة في المجتمع. {وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية. أي أنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث الحقوقي المتقدّم. تقول الآية للدائنين أن الأفضل من كلّ ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو ان يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عمّا بقي له بذمتّه، فهذا خير عمل إنساني يقوم به، وكلّ من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة...