القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مّنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة : يا قَوْمِ أرأيْتُمْ إنْ كُنْتُ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي على علم ومعرفة وبيان من الله لي ما يلزمني له ، ويجب عليّ من إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها . وآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ يقول : ورزقني منه التوفيق والنبوّة والحكمة ، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني . فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة : «فَعَمِيَتْ » بفتح العين وتخفيف الميم ، بمعنى : فعميت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها فتقروا بها وتصدقوا رسولكم عليها . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ بضمّ العين وتشديد الميم ، اعتبارا منهم ذلك بقراءة عبد الله ، وذلك أنهما فيما ذكر في قراءة عبد الله : «فعماها عليكم » .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ بضمّ العين وتشديد الميم للذي ذكروا من العلة لمن قرأ به ، ولقربه من قوله : أرأيْتُمْ إنْ كُنْتُ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبيّ وآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فأضاف الرحمة إلى الله ، فكذلك تعميته على الاَخرين بالإضافة إليه أولى . وهذه الكلمة مما حوّلت العرب الفعل عن موضعه ، وذلك أن الإنسان هو الذي يَعْمَى عن إبصار الحقّ ، إذ يَعْمى عن إبصاره ، والحقّ لا يوصف بالعَمَى إلا على الاستعمال الذي قد جري به الكلام ، وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظير قولهم : دخل الخاتم في يدي ، والخفّ في رجلي ، ومعلوم أن الرجل هي التي تدخل في الخفّ ، والأصبع في الخاتم ، ولكنهم استعملوا ذلك كذلك لما كان معلوما المراد فيه .
وقوله : أنُلْزِمُكْمُوها وأنْتُمْ لَهَا كارِهُونَ يقول : أنأخذكم بالدخول في الإسلام وقد عماه الله عليكم ، لها كَارِهُونَ يقول : وأنتم لإلزامناكموها كارهون ، يقول : لا نفعل ذلك ، ولكن نكل أمركم إلى الله حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال نوح : يا قَوْمِ إنْ كُنْتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي قال : قد عرفُتها وعرفتُ بها أمره وأنه لا إله إلا هو ، وآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنَدِهِ : الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أرأيْتُمْ إنْ كُنْتُ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي . . . الآية ، أما والله لو استطاع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود ، عن أبي العالية ، قال : في قراءة أبيّ : «أنلزُمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : أخبرنا عمرو بن دينار قال : قرأ ابن عباس : «أنلزمكموها من شطر أنفسنا » قال عبد الله : مِنْ شَطْرِ أنفسنا : من تلقاء أنفسنا .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس مثله .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب : أنلزمكموها من شطر قلوبنا وأنتم لها كارهون .
هذه الآية كأنه قال : أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم كارهون له معرضون عنه ، واستفهامه في هذه الآية أولاً وثانياً على جهة التقرير . وعبارة نوح عليه السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه ، وهذا هو المفهوم من هذه العبارة العربية ، فبهذا استقام أن يقال كذا وكذا ، إذ القول ما أفاد المعنى القائم بنفسه .
وقوله { على بيّنة } أي على أمر بيّن جلي ، والهاء في { بيّنة } للمبالغة كعلامة ونسابة ، و «إيتاؤه الرحمة » هو هدايته للبيّنة ، والمشار إليه بهذا كله النبوءة والشرع ، وقوله { من عنده } تأكيد ، كما قال : { يطير بجناحيه }{[6308]} ، وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة .
وقرأ جمهور الناس «فعميت » ولذلك وجهان من المعنى :
أحدهما : خفيت ، ولذلك يقال للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه ، كما يقال له : الغمام لأنه يغمه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «كان الله قبل أن يخلق الأشياء في عماء »{[6309]} .
والمعنى الثاني : أن تكون الإرادة : فعميتم أنتم عنها ، لكنه قلب ، كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ترى النور فيها مدخل الظل رأسه*** وسائره باد إلى الشمس أجمع{[6310]}
قال أبو علي : وهذا مما يقلب إذ ليس فيه إشكال وفي القرآن : { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله }{[6311]} .
وقرأ حفص وحمزة والكسائي «فعُمّيت » بضم العين وشد الميم على بناء الفعل للمفعول وهذا إنما يكون من الإخفاء ؛ ويحتمل القلب المذكور .
وقرأ الأعمش وغيره «فعماها عليهم » . قال أبو حاتم : روى الأعمش عن ابن وثاب «وعميت » بالواو خفيفة{[6312]} .
وقوله : { أنلزمكموها } يريد إلزام جبر كالقتال ونحوه ، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل ، وقال النحاس : معناه أن وجبها عليكم ، وقوله في ذلك خطأ .
وفي قراءة أبي بن كعب : «أنلزمكموها من شطر أنفسنا » ، ومعناه من تلقاء أنفسنا . وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك «من شطر قلوبنا » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.