القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أو لم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم ، فيروا بها ، ويعلموا أن السموات والأرض كانتا رَتْقا : يقول : ليس فيهما ثقب ، بل كانتا ملتصقتين يقال منه : رتق فلان الفتق : إذا شدّه ، فهو يرتقه رَتْقا ورتوقا ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم : رتقاء . ووحد الرّتقْ ، وهو من صفة السماء والأرض ، وقد جاء بعد قوله : كانَتا لأنه مصدر ، مثل قول الزّور والصوم والفطر .
وقوله : فَفَتَقْناهُما يقول : فصدعناهما وفرجناهما .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السموات والأرض بالرتق ، وكيف كان الرتق ، وبأيّ معنى فتق ؟ فقال بعضهم : عَنَى بذلك أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السَمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا يقول : ملتصقتين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رتْقا فَفَتَقْناهما . . . الاَية ، يقول : كانتا ملتصقتين ، فرفع السماء ووضع الأرض .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما كان ابن عباس يقول : كانتا ملتزقتين ، ففتقهما الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كان الحسن وقَتادة يقولان : كانتا جميعا ، ففصل الله بينهما بهذا الهواء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة ، ففتقها الله فجعلها سبع سموات . وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ، ففتقها فجعلها سبع أرضين ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى : رَتْقا فَفَتَقْناهُما من الأرض ستّ أرضين معها فتلك سبع أرضين معها ، ومن السماء ستّ سموات معها فتلك سبع سموات معها . قال : ولم تكن الأرض والسماء متماسّتين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : فتقهنّ سبع سموات بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهنّ تحت بعض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، قال : سألت أبا صالح عن قوله : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانت الأرض رتقا والسموات رتقا ، ففتق من السماء سبع سموات ، ومن الأرض سبع أرضين .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كانت سماء واحدة ثم فتقها ، فجعلها سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سُمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض ، فذلك حين يقول : خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ في سِتّةِ أيّامٍ يقول : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما .
وقال آخرون : بل عُني بذلك أن السموات كانت رتقا لا تمطر والأرض كذلك رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانتا رتقا لا يخرج منهما شيء ، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات . قال : وهو قوله : والسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ والأرْضِ ذَاتِ الصّدْعِ .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا أبي ، عن الفضيل بن مرزوق ، عن عطية ، في قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانت السماء رتقا لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات وجعل من الماء كلّ شيء حيّ ، أفلا يؤمنون ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أن السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما قال : كانت السموات رتقا لا ينزل منها مطر ، وكانت الأرض رتقا لا يخرج منها نبات ، ففتقهما الله ، فأنزل مطر السماء ، وشقّ الأرض فأخرج نباتها . وقرأ : فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الماء كلّ شَيْءٍ حَيّ أفَلا يُؤْمِنُونَ .
وقال آخرون : إنما قيل فَفَتَقْناهُما لأن الليل كان قبل النهار ، ففتق النهار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبيه ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : خلق الليل قبل النهار . ثم قال : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْنَاهُما .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : أو لم ير الذي كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات ، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله : وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ على ذلك ، وأنه جلّ ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه .
فإن قال قائل : فإن كان ذلك كذلك ، فكيف قيل : أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ، والغيث إنما ينزل من السماء الدنيا ؟ قيل : إن ذلك مختلف فيه ، قد قال قوم : إنما ينزل من السماء السابعة ، وقال آخرون : من السماء الرابعة ، ولو كان ذلك أيضا كما ذكرت من أنه ينزل من السماء الدنيا ، لم يكن في قوله : أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ دليل على خلاف ما قلنا ، لأنه لا يمتنع أن يقال «السموات » والمراد منها واحدة فتجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وقميص أسمال .
فإن قال قائل : وكيف قيل إن السموات والأرض كانتا ، فالسموات جمع ، وحكم جمع الإناث أن يقال في قليلة كنّ ، وفي كثيره كانت ؟ قيل : إنما قيل ذلك كذلك لأنهما صنفان ، فالسموات نوع ، والأرض آخر وذلك نظير قول الأسود بن يعفر :
إنّ المَنِيّةَ والحتُوُفَ كِلاهُما *** تُوفِي المَخارِمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي
فقال : «كلاهما » ، وقد ذكر المنية والحتوف لِما وصفت من أنه عنى النوعين . وقد أُخبرت عن أبي عبيدة معمر بن المثني ، قال : أنشدني غالب النفيلي للقطامي :
ألَمْ يحْزُنْكَ أنّ حِبالَ قَيْسٍ *** وَتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انْقِطاعَا
فجعل حبال قيس وهي جمع وحبال تغلب وهي جمع اثنين .
وقوله : وَجَعَلْنا مِنَ المَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ يقول تعالى ذكره : وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كلّ شيء . كما :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَجَعَلْنا مِنَ المَاء كُلّ شَيْءٍ حَيّ قال : كلّ شيء حيّ خُلق من الماء .
فإن قال قائل : وكيف خصّ كل شيء حيّ بأنه جعل من الماء دون سائر الأشياء غيره ، فقد علمت أنه يحيا بالماء الزروع والنبات والأشجار وغير ذلك مما لا حياة له ، ولا يقال له حيّ ولا ميت ؟ قيل : لأنه لا شيء من ذلك إلا وله حياة وموت ، وإن خالف معناه في ذلك معنى ذوات الأرواح في أنه لا أرواح فيهنّ وأن في ذوات الأرواح أرواحا فلذلك قيل : وَجَعَلْنا مِنَ المَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ .
وقوله : أفَلا يُؤْمِنُون يقول : أفلا يصدّقون بذلك ، ويقرّون بألوهة من فعل ذلك ويفردونه بالعبادة ؟
{ أو لم ير الذين كفروا } أو لم يعلموا ، وقرأ ابن كثير بغير واو . { أن السموات والأرض كانتا رتقا } ذات رتق أو مرتوقتين ، وهو الضم والالتحام أي كانتا واحدا وحقيقة متحدة . { ففتقناهما } بالتنويع والتمييز ، أو كانت السموات واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكا ، وكانت الأرضون واحدة فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم . وقيل { كانتا } بحيث لا فرجة بينهما ففرج . وقيل { كانتا رتقا } لا تمطر ولا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات ، فيكون المراد ب { السموات } سماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو { السموات } بأسرها على أن لها مدخلا ما في الأمطار ، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك فهم متمكنون من العلم به نظرا فإن الفتق عارض مفتقر إلى مؤثر واجب وابتداء أو بوسط ، أو استفسارا من العلماء ومطالعة للكتب ، وإنما قال { كانتا } ولم يقل كن لأن المارد جماعة السموات وجماعة الأرض . وقرىء { رتقا } بالفتح على تقدير شيئا رتقا أي مرتوقا كالرفض بمعنى المرفوض . { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وخلقنا من الماء كل حيوان كقوله تعالى { الله خلق كل دابة من ماء } وذلك لأنه من أعظم مواده أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ، أو صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يحيا دونه ، وقرئ " حيا " على أنه صفة { كل } أو مفعول ثان ، والظرف لغو والشيء مخصوص بالحيوان . { أفلا يؤمنون } مع ظهور الآيات .
ثم وقفهم على عبرة دالة على وحدانية الله جلت قدرته ، و «الرتق » الملتصق بعضه ببعض المبهم الذي لا صدع ولا فتح ومنه امرأة رتقاء{[8212]} ، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { كانتا رتقاً ففتقناهما } فقالت فرقة كانت السماء ملتصقة بعضها ببعض والأرضون كذلك ففتقهما الله تعالى سبعاً سبعاً ، وعلى هذين القولين ف «الرؤية » الموقف عليها رؤية القلب ، وقال فرقة السماء قبل المطر رتق والأرض قبل النبات رتق ففتقهما تعالى بالمطر والنبات ، كما قال الله تعالى { والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع }{[8213]} [ الطارق : 11-12 ] وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بين ويناسب قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } أي من الماء الذي أوجده الفتق فيظهر معنى الآية ويتوجه الاعتبار ، وقالت فرقة السماء والأرض رتق بالظلمة وفتقهما الله تعالى بالضوء ع و «الرؤية » على هذين القولين رؤية العين ، و { الأرض } هنا اسم الجنس فهي جمع ، وقرأ الجمهور «رتْقاً » بسكون التاء ، والرتق مصدر وصف به كالزور والعدل ، وقرأ الحسن والثقفي وأبو حيوة «كانتا رتقاً » بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالنفض والنفض والخبط والخبط{[8214]} وقال كانتا من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شيم{[8215]} . ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعاً{[8216]} .
وقوله { كانتا } في القولين الأولين بمنزلة قولك كان زيد حياً ، أي لم يكن ، وفي القولين الآخرين بمنزلة قولك كان زيداً عالماً أي وهو كذلك ، وقرأ ابن كثير وحده «ألم ير » بإسقاط الواو . وقوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } بين أنه ليس على عموم فإن الملائكة والجن قد خرجوا عن ذلك ، ولكن الوجه أن يحمل على أعم ما يمكن فالحيوان أجمع والنبات على أن الحياة فيه مستعارة داخل في هذا ، وقالت فرقة المراد ب { الماء } المني في جميع الحيوان ، ثم وقفهم على ترك الإيمان توبيخاً وتقريعاً .
{ أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما }
قرأ الجمهور { أوَ لم } بواو بعد الهمزة وهي واو العطف ، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب . وقرأ ابن كثير { ألم يَر } بدون واو عطف . قال أبو شامة : ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة . قلت : معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به عثمان إلى مكة فالتزمَ قراء مكة رِواية عدم الواو إلى أن قرأ بها ابن كثير ، وأهملت غير قراءته .
والاستفهام على كِلتا القراءتين إنكاري ، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر .
والرؤيةُ تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية . والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار ، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جديرٌ أيضاً بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله .
والرَّتق : الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء .
والفَتق : ضده ، وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء .
والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رَتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة .
ثم إن قوله تعالى { كانتا } يحتمل أن تكونا معاً رتقاً واحداً بأن تكون السماوات والأرض جسماً ملتئماً متصلاً . ويحتمل أن تكون كل سماء رتقاً على حدتها ، والأرض رتقاً على حدتها وكذلك الاحتمال في قوله تعالى { ففتقناهما } .
وإنما لم يقل نحو : فصارتا فتقاً ، لأن الرتق متمكن منهما أشدّ تمكن كما قلنا ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما ، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي .
والرتق يحتمل أن يراد به معاننٍ تنشأ على محتملاتها معاننٍ في الفتق ، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتقُ المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض ، والفتقُ هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلاً من السماء ويرى البرْق يلعج منها والصواعق تسقط منها فذلك فتقها ، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها ، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق ، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة ، كما قال ابن عطية أي هو عبرة دلالةٍ على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالى : { فأحيينا به الأرض بعد موتها } في سورة فاطر ( 9 ) .
وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية ، وكان الاستفهام أيضاً إنكارياً متوجهاً إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات . واحتمل أن يراد بالرتق معانٍ غيرُ مشاهدةٍ ولكنها مما ينبغي طلب العلم به لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية ، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما ، أي الاتصال والانفصال .
ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة ، أي كانت السماوات والأرض رتقاً واحداً ، أي كانتا كُتلة واحدة ثم انفصلتْ السماوات عن الأرض كما أشار إليه قوله تعالى : { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } في سورة هود ( 7 ) .
ويجوز على هذا الاحتمال أن يكون الرتق والفتق على التوزيع ، أي كانت السماوات رتقاً في حد ذاتها وكانت الأرض رتقاً في حد ذاتها ثم فتق الله السماوات وفتق الله الأرض ، وهذا كقوله تعالى : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم } في سورة فصّلت ( 912 ) .
وعلى هذين الاحتمالين يكون الاستفهام تقريرياً عن إعراضهم عن استماع الآيات التي وصفت بدء الخلق ومشوباً بالإنكار على ذلك .
وعلى جميع التقادير فالمقصود من ذلك أيضاً الاستدلال على أن الذي خلق السماوات والأرض وأنشأهما بعد العدم قادر على أن يخلق الخلق بعد انعدامه قال تعالى : { أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم } [ الإسراء : 99 ] .
ويحتمل أن يراد بالرتق العدم وبالفتق الإيجاد . وإطلاق الرؤية على العلم على هذا الاحتمال ظاهر لأن الرتق والفتق بهذا المعنى محقق أمرهما عندهم قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] .
ويحتمل أن يراد بالرتق الظلمة وبالفتق النور ، فالموجودات وجدت في ظلمة ثم أفاض الله عليها النور بأن أوجد في بعض الأجسام نوراً أضاء الموجودات .
ويحتمل أن يراد بالرتق اتحاد الموجودات حين كانت مادة واحدة أو كانت أثيراً أو عَمَاء كما جاء في الحديث : " كان في عماء " فكانت جنساً عالياً متحداً ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق ، وهو حينئذ كلي انحصر في فرد . ثم خلق الله من ذلك الجنس أبْعاضاً وجعل لكل بَعض مميزات ذاتيةً فصيّر كل متميز بحقيقة جنساً فصارتْ أجناساً . ثم خلق في الأجناس مميزات بالعوارض لحقائقها فصارت أنواعاً . وهذا الاحتمال أسعد بطريقة الحكماء وقد اصطلحوا على تسمية هذا التمييز بالرتق والفتق ، وبعض من الصوفية وهو صاحب « مرآة العارفين » جعل الرتق عَلَماً على العنصر الأعظم يعني الجسمَ الكل ، والجسم الكل هو الفلك الأعظم المعبر عنه بالعرش . ذكر ذلك الحكيمُ الصوفي لطف الله الأرضرومي صاحب « مَعارج النور في أسماء الله الحسنى » المتوفى في أواخر القرن الثاني عشر الذي دخل تونس عام 1185هـ في مقدمات كتابه « معارج النور » وفي رسالة له سماها « رسالة الفتق والرتق » .
والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعاً ، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وكل عبرة خاصة بأهل النظر والعلم فتكون من معجزات القرآن العلمية التي أشرنا إليها في مقدمات هذا التفسير .
{ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ }
زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله . وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات . وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابساً لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة ، ولذلك كان استمرار الحمى مفضياً إلى الهزال ثم إلى الموت .
و { جَعَل } هنا بمعنى خَلق ، متعدية إلى مفعول واحد لأنها غير مراد منها التحول من حال إلى حال .
و { من الماء } متعلق ب { جعلنا . } و ( مِن ) ابتدائية . وفرع عليه { أفلا يؤمنون } إنكاراً عليهم عدم إيمانهم الإيمان الذي دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بوحدانية الله