القول في تأويل قوله تعالى : { أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ رَجُلٍ مّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنّ هََذَا لَسَاحِرٌ مّبِينٌ } .
يقول تعالى ذكره : أكان عجبا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقاب الله على معاصيه ، كأنهم لم يعلموا أن الله قد أوحى من قبله إلى مثله من البشر ، فتعجبوا من وحينا إليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : لما بعث الله محمدا رسولاً أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله تعالى : أكانَ للنّاسِ عَجَبا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُلٍ مِنْهُمْ . . . وقال : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : عجبت قريش أن بُعث رجل منهم . قال : ومثل ذلك : وَإلى عاد أخاهُمْ هُودا وإلى ثَمُودَ أخاهُمْ صَالِحا قال الله : أوَ عَجِبْتُمْ أنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبّكُمْ على رَجُل مِنْكُمْ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ .
يقول جلّ ثناؤه : أكان عجبا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله أن لهم قدم صدق عطف على «أنذر » .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : قَدَمَ صِدْق فقال بعضهم : معناه : أن لهم أجرا حسنا بما قدّموا من صالح الأعمال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : ثواب صدق .
قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : الأعمال الصالحة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ يقول : أجرا حسنا بما قدّموا من أعمالهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن حبان ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن مجاهد : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : صلاتهم ، وصومهم ، وصدقتهم ، وتسبيحهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قَدَمَ صِدْقٍ قال : خير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قَدَمَ صِدْق مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : قَدَمَ صِدْق ثواب صدق عند ربهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ قال : القدم الصدق : الثواب الصدق بما قدموا من الأعمال .
وقال آخرون : معناه : أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ يقول : سبقت لهم السعادة في الذكر الأوّل .
وقال آخرون : معنى ذلك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم ، قَدَمَ صدق . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن فضيل بن عمرو بن الجون ، عن قتادة أو الحسن : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : محمد شفيع لهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ : أي سلف صدق عند ربهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن زيد بن أسلم ، في قوله : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : محمد صلى الله عليه وسلم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : معناه أن لهم أعمالاً صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثواب وذلك أنه محكيّ عن العرب : هؤلاء أهل القدم في الإسلام أي هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا ، فكان لهم فيه تقديم ، ويقال : له عندي قدم صدق وقدم سوء ، وذلك ما قدم إليه من خير أو شرّ ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
لَنا القَدَمُ الأُولى إلَيْكَ وخَلْفُنا *** لأوّلِنا في طاعَةِ اللّهِ تابِعُ
لَكُمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النّاسُ أنّها *** مَعَ الحَسَبِ العادِيّ طَمّتْ على البَحْرِ
فتأويل الكلام إذا : وبشر الذين آمنوا أن لهم تقدمة خير من الأعمال الصالحة عند ربهم .
القول في تأويل قوله تعالى : قال الكافِرُونَ إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة : إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ بمعنى : إن هذا الذي جئتنا به ، يعنون القرآن «لَسِحْرٌ مُبِينٌ » . وقرأ ذلك مسروق وسعيد بن جبير وجماعة من قرّاء الكوفيين : إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك أن كل موصوف بصفة نزل الموصوف على صفته ، وصفته عليه ، فالقارىء مخير في القراءة في ذلك وذلك نظير هذا الحرف : قال الكافِرُونَ إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ » ولساحر مبين وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه ساحر ، ووصفهم ما جاءهم به أنه سحر يدلّ على أنهم قد وصفوه بالسحر . وإذا كان ذلك كذلك فسواء بأيّ ذلك قرأ القارىء لاتفاق معنى القراءتين . وفي الكلام محذوف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره وهو : فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي ، قال الكافرون إن هذا الذي جاءنا به لسحر مبين .
فتأويل الكلام إذا : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ، أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ، فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم ، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله : إن هذا الذي جاءنا به محمد لسحر مبين أي يبين لكم عنه أنه مبطل فيما يدعيه .
{ أكان للناس عجبا } استفهام إنكار للتعجب و{ عجبا } خبر كان واسمه : { أن أوحينا } وقرئ بالرفع على أن الأمر بالعكس أو على " أن كان " تامة و{ أن أوحينا } بدل من عجب ، واللام للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم يوجهون نحوه إنكارهم واستهزاءهم . { إلى رجل منهم } من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم . قيل كانوا يقولون العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة . هذا وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال وخفة الحال أعون شيء في هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك . وقيل تعجبوا من أنه بعث بشرا رسولا كما سبق ذكره في سورة " الأنعام " . { أن أنذر الناس } أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة فتكون في موقع مفعول أوحينا . { وبشّر الذين آمنوا } عمم الإنذار إذ قلما من أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه ، وخصص البشارة بالمؤمنين إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به حقيقة { أن لهم } بأن لهم { قدم صدق عند ربهم } سابقة منزلة رفيعة سميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وإضافتها إلى الصدق لتحققها والتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية . { قال الكافرون إن هذا } يعنون الكتاب وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام . { لسحرٌ مبين } وقرأ ابن كثير والكوفيون " لساحر " على أن الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أمورا خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة . وقرئ " ما هذا إلا سحر مبين " .
وقوله : { أكان للناس عجباً } الآية ، قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : نسبت هذه الآية أن قريشاً استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وقال الزجاج : إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك ، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم : أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب ، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية ، وقوله : { أكان } تقرير{[6000]} والمراد ب «الناس » قائلوا هذه المقالة ، و { عجباً } خبر كان واسمها { أن أوحينا } ، وفي مصحف ابن مسعود «أكان للناس عجب » وجعل الخبر في قوله { أن أوحينا } والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذاً{[6001]} ومنه قول حسان : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يكون مزاجها عسلٌ وماء{[6002]}
ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أَوَصَل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب ؟ وقرأت فرقة «إلى رجل » بسكون الجيم ، ثم فسر الوحي وقسمه عل النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين ، و «القدم » هنا : ما قدم ، واختلف في المراد بها ها هنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم في موته ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ ، وهذا أليق الأقوال بالآية ، ومن هذه اللفظة قول حسان : [ الطويل ]
لنا القدم العليا إليك وخلْفَنا *** لأوّلنا في طاعةِ اللهِ تابعُ{[6003]}
لكم قدم لا ينكر الناس أنها*** مع الحسب العادي طمت على البحر{[6004]}
ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط »{[6005]} ، أي ما قدم لها من خلقه ، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ، ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم ، ف «القدم » على التأويل الجارحة{[6006]} والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول رجل صدق ورجل سوء{[6007]} ، وقوله { قال الكافرون } يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله أكان وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا ، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا ، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر «إن هذا لسحر مبين » ، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف ، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «إنه لساحر » والمعنى متقارب ، وفي مصحف أبي «قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين » ، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب .