التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

وبعد أن ساق - سبحانه - ألوانا من الأدلة الكونية الشاهدة بوحدانيته ، ومن الأدلة النقلية النافية للشركاء ، ومن الأدلة الوجدانية التى تهيج القلوب نحو الحق . . . أتبع ذلك بتحريض الكافرين على التدبر فى ملكون السموات والأرض ، لعل هذا التدبر يهديهم إلى الإيمان . فقال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَ . . . } .

قوله { رَتْقاً } مصدر رقته رتقا : إذا سده . يقال : رتق فلان الفتق رتقا ، إذا ضمه وسده ، وهو ضد الفتق الذى هو بمعنى الشق والفصل .

وللعلماء فى معنى هذه الآية أقوال أشهرها : أن معنى { كَانَتَا رَتْقاً } أن السماء كانت صماء لا ينزل منها مطر ، وأن الأرض كانت لا يخرج منها نبات ، ففتق الله - تعالى - السماء بأن جعل المطر ينزل منها ، وفتق الأرض بأن جعل النبات يخرج منها .

وهذا التفسير منسوب إلى ابن عباس ، فقد سئل عن ذلك فقال : كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، فلما خلق - سبحانه - للأرض أهلا ، فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات .

ومنهم من يرى أن المعنى : كانت السموات والأرض متلاصقتين كالشىء الواحد ، ففتقهما الله - تعالى - بأن فصل بينهما ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأبقى الأرض فى مقرها ، وفصل بينهما بالهواء .

قال قتادة قوله { كَانَتَا رَتْقاً } يعنى أنهما كانا شيئا واحداً ففصل الله بينهما بالهواء .

ومنهم من يرى أن معنى " كانتا رتقا " أن السموات السبع كانت متلاصقة بعضها ببعض ففتقها الله - تعالى - بأن جعلها سبع سموات منفصلة ، والأرضون كانت كذلك رتقا ، ففصل الله - تعالى - بينها وجعلها سبعا .

قال مجاهد : كانت السموات طبقة واحدة مؤتلفة ، ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرضين كانت طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا " .

وقد رجح بعض العلماء المعنى الأول فقال ما ملخصه : كونهما " كانتا رتقا " بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ، والأرض لا تنبت ، ففتق - سبحانه - السماء بالمطر والأرض بالنبات ، هو الراجح وتدل عليه قرائن من كتاب الله - تعالى - منها :

أن قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا . . } يدل على أنهم رأوا ذلك لأن الأظهر فى رأى أنها بصرية ، والذى يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ، والأرض لا نبات فيها . فيشاهدون بأبصارهم نزول المطر من السماء ، وخروج النبات من الأرض .

ومنها : أنه - سبحانه - أتبع ذلك بقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله . أى : وجعلنا من الماء الذى أنزلناه بفتقنا السماء ، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض ، كل شىء حى .

ومنها : أن هذا المعنى جاء موضحا فى آيات أخرى ، كقوله - تعالى - : { والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع } والمراد بالرجع : نزول المطر من السماء تارة بعد أخرى ، والمراد بالصدع : انشقاق الأرض عن النبات . واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية والفخر الرازى .

فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ، لأن المطر لا ينزل من السموات ، بل من سماء واحدة وهى سماء الدنيا ؟

قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة فيها سماء كما يقال : ثوب أخلاق - أى : قطع - .

والآية الكريمة مسوقة بتجهيل المشركين وتوبيخهم على كفرهم ، مع أنهم يشاهدون بأعينهم ما يدل دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، ويعلمون أن من كان كذلك ، لا يصح أن تترك عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه ، مما لا يضر ولا ينفع .

والمعنى : أو لم يشاهد الذين كفروا بأبصارهم ، ويعلموا بعقولهم ، أن السموات والأرض كانتا رتقا ، بحيث لا ينزل من السماء مطر ، و لا يخرج من الأرض نبات ، ففتق الله - تعالى - السماء بالمطر ، والأرض بالنبات .

إنهم بلا شك يشاهدون ذلك ، ويعقلونه بأفكارهم . ولكنهم لاستيلاء الجحود والعناد عليهم ، يعبدون من دونه - سبحانه - مالا ينفع من عَبَده ، ولا يضر من عصاه .

وقال - سبحانه - : { كَانَتَا } بالتثنية ، باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء ، ونوع الأرض ، كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ . . } وقوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ . . . } تأكيد لمضمون ما سبق ، وتقرير لوحدانيته ونفاذ قدرته - سبحانه - والجعل بمعنى الخلق . و { مِنَ } ابتدائية .

أى : وخلقنا من الماء بقدرتنا النافذة ، كل شىء متصف بالحياة الحقيقية وهو الحيوان ، أو كل شىء نام فيدخل النبات ، ويراد من الحياة ما يشمل النمو .

وهذا العام مخصوص بما سوى الملائكة والجن مما هو حى ، لأن الملائكة - كما جاء فى بعض الأخبار - خلقوا من النور ، والجن مخلوقون من النار .

قال - تعالى - { خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } قال القرطبى : وفى قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ثلاث تأويلات : أحدها : أنه خلق كل شىء من الماء . قاله قتادة . الثانى : حفظ حياة كل شىء بالماء : الثالث : وجعلنا من ماء الصلب - أى : النطفة - كل شىء حى . .

وقوله : { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } إنكار لعدم إيمانهم مع وضوح كل ما يدعو إلى الإيمان الحق ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه هذا الإنكار .

أى : أيشاهدون بأعينهم ما يدل على وحدانية الله وقدرته . ومع ذلك لا يؤمنون ؟ إن أمرهم هذا لمن أعجب العجب ، وأغرب الغرائب ! !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

{ أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما }

قرأ الجمهور { أوَ لم } بواو بعد الهمزة وهي واو العطف ، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب . وقرأ ابن كثير { ألم يَر } بدون واو عطف . قال أبو شامة : ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة . قلت : معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به عثمان إلى مكة فالتزمَ قراء مكة رِواية عدم الواو إلى أن قرأ بها ابن كثير ، وأهملت غير قراءته .

والاستفهام على كِلتا القراءتين إنكاري ، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر .

والرؤيةُ تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية . والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار ، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جديرٌ أيضاً بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله .

والرَّتق : الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء .

والفَتق : ضده ، وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء .

والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رَتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة .

ثم إن قوله تعالى { كانتا } يحتمل أن تكونا معاً رتقاً واحداً بأن تكون السماوات والأرض جسماً ملتئماً متصلاً . ويحتمل أن تكون كل سماء رتقاً على حدتها ، والأرض رتقاً على حدتها وكذلك الاحتمال في قوله تعالى { ففتقناهما } .

وإنما لم يقل نحو : فصارتا فتقاً ، لأن الرتق متمكن منهما أشدّ تمكن كما قلنا ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما ، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي .

والرتق يحتمل أن يراد به معاننٍ تنشأ على محتملاتها معاننٍ في الفتق ، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتقُ المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض ، والفتقُ هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلاً من السماء ويرى البرْق يلعج منها والصواعق تسقط منها فذلك فتقها ، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها ، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق ، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة ، كما قال ابن عطية أي هو عبرة دلالةٍ على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالى : { فأحيينا به الأرض بعد موتها } في سورة فاطر ( 9 ) .

وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية ، وكان الاستفهام أيضاً إنكارياً متوجهاً إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات . واحتمل أن يراد بالرتق معانٍ غيرُ مشاهدةٍ ولكنها مما ينبغي طلب العلم به لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية ، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما ، أي الاتصال والانفصال .

ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة ، أي كانت السماوات والأرض رتقاً واحداً ، أي كانتا كُتلة واحدة ثم انفصلتْ السماوات عن الأرض كما أشار إليه قوله تعالى : { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } في سورة هود ( 7 ) .

ويجوز على هذا الاحتمال أن يكون الرتق والفتق على التوزيع ، أي كانت السماوات رتقاً في حد ذاتها وكانت الأرض رتقاً في حد ذاتها ثم فتق الله السماوات وفتق الله الأرض ، وهذا كقوله تعالى : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم } في سورة فصّلت ( 912 ) .

وعلى هذين الاحتمالين يكون الاستفهام تقريرياً عن إعراضهم عن استماع الآيات التي وصفت بدء الخلق ومشوباً بالإنكار على ذلك .

وعلى جميع التقادير فالمقصود من ذلك أيضاً الاستدلال على أن الذي خلق السماوات والأرض وأنشأهما بعد العدم قادر على أن يخلق الخلق بعد انعدامه قال تعالى : { أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم } [ الإسراء : 99 ] .

ويحتمل أن يراد بالرتق العدم وبالفتق الإيجاد . وإطلاق الرؤية على العلم على هذا الاحتمال ظاهر لأن الرتق والفتق بهذا المعنى محقق أمرهما عندهم قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] .

ويحتمل أن يراد بالرتق الظلمة وبالفتق النور ، فالموجودات وجدت في ظلمة ثم أفاض الله عليها النور بأن أوجد في بعض الأجسام نوراً أضاء الموجودات .

ويحتمل أن يراد بالرتق اتحاد الموجودات حين كانت مادة واحدة أو كانت أثيراً أو عَمَاء كما جاء في الحديث : " كان في عماء " فكانت جنساً عالياً متحداً ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق ، وهو حينئذ كلي انحصر في فرد . ثم خلق الله من ذلك الجنس أبْعاضاً وجعل لكل بَعض مميزات ذاتيةً فصيّر كل متميز بحقيقة جنساً فصارتْ أجناساً . ثم خلق في الأجناس مميزات بالعوارض لحقائقها فصارت أنواعاً . وهذا الاحتمال أسعد بطريقة الحكماء وقد اصطلحوا على تسمية هذا التمييز بالرتق والفتق ، وبعض من الصوفية وهو صاحب « مرآة العارفين » جعل الرتق عَلَماً على العنصر الأعظم يعني الجسمَ الكل ، والجسم الكل هو الفلك الأعظم المعبر عنه بالعرش . ذكر ذلك الحكيمُ الصوفي لطف الله الأرضرومي صاحب « مَعارج النور في أسماء الله الحسنى » المتوفى في أواخر القرن الثاني عشر الذي دخل تونس عام 1185هـ في مقدمات كتابه « معارج النور » وفي رسالة له سماها « رسالة الفتق والرتق » .

والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعاً ، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وكل عبرة خاصة بأهل النظر والعلم فتكون من معجزات القرآن العلمية التي أشرنا إليها في مقدمات هذا التفسير .

{ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ }

زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله . وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات . وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابساً لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة ، ولذلك كان استمرار الحمى مفضياً إلى الهزال ثم إلى الموت .

و { جَعَل } هنا بمعنى خَلق ، متعدية إلى مفعول واحد لأنها غير مراد منها التحول من حال إلى حال .

و { من الماء } متعلق ب { جعلنا . } و ( مِن ) ابتدائية . وفرع عليه { أفلا يؤمنون } إنكاراً عليهم عدم إيمانهم الإيمان الذي دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بوحدانية الله