التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا} (7)

ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك سنة من سننه التى لا تتخلف ، وهى أن الإِحسان عاقبته الفلاح ، والعصيان عاقبته الخسران ، وأن كل إنسان مسئول عن عمله ، ونتائج هذا العمل - سواء أكانت خيرا أم شرا - لا تعود إلا عليه ، فقال - تعالى - : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } .

أى : إن أحسنتم - أيها الناس - أعمالكم ، بأن أديتموها بالطريقة التى ترضى الله - تعالى - أفلحتم وسعدتم ، وجنيتم الثمار الطيبة التى تترتب على هذا الإِحسان للعمل ، وإن أسأتم أعمالكم ، بأن آثرتم الأعمال السيئة على الأعمال الحسنة ، خسرتم وشقيتم وتحملتم وحدكم النتائج الوخيمة التى تترتب على إتيان الأعمال التى لا ترضى الله - تعالى - .

وقد رأيتم كيف أن الإِفساد كانت عاقبته أن { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار } .

وكيف أن الإِحسان كانت عاقبته أن { رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة } على أعدائكم { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } .

قال صاحب البحر ما ملخصه : وجواب { وإن أسأتم } قوله { فلها } وهو خبر لمبتدأ محذوف أى : فالإِساءة لها . قال الكرمانى : قال - سبحانه - : { فلها } باللام ازدواجا .

أى : أنه قابل { لأنفسكم } بقوله { فلها } . وقال الطبرى اللام بمعنى إلى أى : فإليها ترجع الإِساءة .

وقيل : اللام بمعنى على . أى : فعليها ، كما فى قول الشاعر : فخر صريعا لليدين وللفم .

ثم بين - سبحانه - ما يحل بهم من دمار ، بعد إفسادهم للمرة الثانية ، فقال - تعالى - : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } .

والكلام أيضا هنا على حذف مضاف ، وجواب إذا محذوف دل عليه ما تقدم وهو قوله { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } فإذا جاء وقت عقوبتكم يا بنى إسرائيل على إفسادكم الثانى فى الأرض ، بعثنا عليكم أعداءكم ليسوءوا وجوهكم أى : ليجعلوا آثار المساءة والحزن بادية على وجوهكم ، من شدة ما تلقونه منهم من إيداء وقتل .

قال الجمل ما ملخصه : وقوله { ليسوءوا } الواو للعباد أولى البأس الشديد .

وفى عود الواو على العباد نوع استخدام ، إذ المراد بهم أولا جالوت وجنوده ، والمراد بهم هنا بختنصر وجنوده .

وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء المفتوحة والهمزة المفتوحة آخر الفعل { ليسوء } والفاعل إما الله - تعالى - وإما الوعد ، وإما البعث .

وقرأ الكسائى لنسوء - بنون العظمة . أى : لنسوء نحن وهو موافق لما قبله ، من قوله : بعثنا ، ورددنا ، وأمددنا ، ولما بعده من قوله : عدنا ، وجعلنا ، وقرأ الباقون . ليسوءوا ، مسندا إلى ضمير الجمع العائد على العباد ، وهو موافق لما بعده من قوله : { وليدخلوا المسجد } { وليتبروا } .

وقال الإِمام الرازى : ويقال ساءه يسوءه إذا أحزنه ، وإنما عزا - سبحانه - الإِساءة إلى الوجوه ، لأن آثار الأعراض النفسية الحاصلة فى القلب إنما تظهر على الوجه ، فإن حصل الفرح فى القلب ظهر الإِشراق فى الوجه ، وإن حصل الحزن والخوف فى القلب ، ظهر الكلوح فى الوجه .

وقوله - سبحانه - : { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } معطوف على ما قبله وهو قوله - سبحانه - { ليسوءوا وجوهكم } .

والمراد بالمسجد : المسجد الأقصى الذى ببيت المقدس ، وقوله { كما دخلوه } صفة لمصدر محذوف .

والمعنى : وليدخلوا المسجد دخولا كائنا كدخولهم إياه أول مرة .

قال أبو حيان : ومعنى { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أى بالسيف والقهر والغلبة والإِذلال .

أى : أن المراد من التشبيه ، بيان أن الأعداء فى كل مرة أذلوا بنى إسرائيل وقتلوهم وقهروهم .

وقوله - تعالى - : { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } يشعر بشدة العقوبة التى أنزلها أولئك العباد ببنى إسرائيل ، إذ التتبير معناه الإِهلاك والتدمير والتخريب لكل ما تقع عليه . ومنه قول الشاعر :

وما الناس إلا عاملان فعامل . . . يتبر ما يبنى وآخر رافع

أى : يخرب ويهد ما يبنى .

و " ما " فى قوله { ما علوا } اسم موصول مفعول يتبروا : وهو عبارة عن البلاد والأماكن التى هدموها ، والعائد محذوف ، وتتبيرا مفعول مطلق مؤكد لعامله .

أى : وليدمرا ويخربوا البلاد والأماكن التى علوا عليها ، وصارت فى حوزتهم ، تدميرا تاما لا مزيد عليه .

وبذلك نرى أن العباد الذين سلطهم الله - تعالى - على بنى إسرائيل ، عقب إفسادهم الثانى فى الأرض ، لم يكتفوا بجوس الديار ، بل أضافوا إلى ذلك إلقاء الحزن والرعب فى قلوبهم ، ودخول المسجد الأقصى فاتحين ومخربين ، وتدمير كل ما وقعت عليه أيديهم تدميرا فظيعا لا يوصف .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا} (7)

فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله { إن أحسنتم } والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلماً ولا تسرعاً إليكم ، و { وعد الآخرة } معناه من المرتين المذكورتين ، وقوله { ليسوءوا } اللام لام أمر ، وقيل المعنى بعثناهم { ليسوءوا } فهي لام كي كلها ، والضمير للعباد «أولي البأس الشديد » ، وقرأ الجمهور : «ليسوءوا » بالياء جمع همزة وبين واوين ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «ليسوءَ » بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد ، وقرأ الكسائي ، وهي مروية عن علي بن أبي طالب «لنسوء » بنون العظمة{[7478]} ، وقرأ أبي بن كعب «لنسوءن » بنون خفيفة ، وهي لام الأمر{[7479]} ، وقرأ علي بن أبي طالب «ليسوءن » ، وهي لام القسم والفاعل الله عز وجل ، وفي مصحف أبي بن كعب «ليُسيء » بياء مضمومة بغير واو ، وفي مصحف أنس «ليسوء وجهكم » على الإفراد ، وخص ذكر «الوجوه » لأنها المواضيع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر ، و { المسجد } مسجد بيت المقدس ، و «تبر » معناه أفسد بقسم وركوب رأس ، وقوله { ما علوا } أي ما غلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد{[7480]} ، وقيل { ما } ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد ، و «تبر » معناه رد الشيء فتاتاً كتبر الذهب والحديد ، ونحوه وهو مفتتة .


[7478]:ومعنى هذا أن الفاعل مضمر، ويعود على الله تعالى، أو على الوعد، أو على البعث الدال عليه جملة الجزاء المحذوفة.
[7479]:قال أبو الفتح ابن جني: "كما تقول: إذا سألتني فالأعطك، كأنك تأمر نفسك، ومعناه: فلأعطينك، واللامان بعده للأمر أيضا: وهما: {وليدخلوا المسجد}. [وليتبروا]، ويقوي ذلك أنه لم يأت لإذا جواب فيما بعد، فدل على أن تقديره: فلنسوأن وجوهكم".
[7480]:معنى هذا أن [ما] مفعول به في هذا التقدير، أما في التقدير التالي فهي ظرفية كما قال ابن عطية.