التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (280)

ثم أمر الله - تعالى - الدائنين أن يصبروا على المدينين الذين لا يجدون ما يؤدون منه ديونهم فقال - تعالى - : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } .

والعسرة : اسم من الإِعسار وهو تعذر الموجود من المال يقال : أعسر الرجل إذا صار إلى حالة العسرة وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال .

والنظرة : اسم من الإِنظار بمعنى الإمهال . يقال : شنظره وانتظره وتنظره ، تأنى عليه وأمهله في الطلب .

والميسرة : مفعلة من اليسر الذي هو ضد الإِعسار . يقال : أيسر الرجل فهو موسر إذا اغتنى وكثر ماله وحسنت حاله .

والمعنى : وإن وجد مدين معسر فأمهلوه في أداء دينه إلى الوقت سالذي يتمكن فيه من سداد ما عليه من ديون ، ولا تكونوا كأهل الجاهلية الذين كان الواحد منهم إذا كان له دين على شخص وحل موعد الدين طالبه بشدة وقال له : إما أن تقضي وإما أن تربي أي تدفع زيادة على أصل الدين .

و ( كان ) هنا الظاهر أنها تامة بمعنى وجد أو حدث ، فتكتفى بفاعلها كسائر الأفعال . وقيل يجوز أن تكون ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود إلى المدين وإن لم يذكر وذلك على قراءة ( ذا عسرة ) بالنصب وقوله : ( فنظرة ) الفاء جواب الشرط . ونظرة خبر لمبتدأ محذوف أي فالأمر أو فالواجب أو مبتدأ محذوف الخبر أي فعليكم نظرة .

ثم حبب - سبحانه - إلى عباده التصدق بكل أو ببعض ما لهم من ديون على المدينين المعسرين فقال - تعالى - : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .

أي : وأن تتركوا للمعسر كل أو بعض ما لكم عليه من ديون وتتصدقوا بها عليه ، فإن فعلكم هذا يكون أكثر ثواباً لكم من الأنظار .

وجواب الشرط في قوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } محذوف . أي إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم فلا تتباطؤا في فعله ، بل سارعوا إلى تنفيذه فإن التصدق بالدين على المعسر ثوابه جزيل عند الله - تعالى - .

وقد أورد بعض المفسرين جملة من الأحاديث النبوية التي تحض على إمهال المعسر ، والتجاوز عما عليه من ديون .

ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة " .

وروى الطبراني عن أسعد بن زرارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فليسير مع معسر أو ليضع عنه " .

وروى الإِمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (280)

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 )

حكم الله تعالى لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال ، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر . قال المهدوي : وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين ، وحكى مكي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام( {[2739]} ) .

قال القاضي أبو محمد : فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ ، وإلا فليس بنسخ ، و «العسرة » ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة ، والنظرة : التأخير ، والميسرة مصدر بمعنى اليسر ، وارتفع { ذو عسرة } ب { كان } التامة التي هي بمعنى وجد وحدث . هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما ، ومن هنا يظهر أن الأصل الغنى ووفور الذمة ، وأن العدم طارىء حادث يلزم أن يثبت . وقال بعض الكوفيين ، حكاه الطبري : بل هي { كان } الناقصة والخبر محذوف ، تقديره { وإن كان } من غرمائكم { ذو عسرة } وارتفع قوله : { فنظرة } على خبر ابتداء مقدر ، تقديره فالواجب نظرة ، أو فالحكم نظرة .

قال الطبري : وفي مصحف أبي بن كعب : { وإن كان ذو عسرة } على معنى وإن كان المطلوب ، وقرأ الأعمش «وإن كان معسراً فنظرة » .

قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى : وكذلك في مصحف أبي بن كعب ، قال مكي والنقاش وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ { وإن كان ذو عسرة } بالواو فهي عامة في جميع من عليه دين .

قال القاضي أبو محمد : وهذا غير لازم( {[2740]} ) ، وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان ، «فإن كان » بالفاء { ذو عسرة } بالواو ، وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن : «فنظْرة » بسكون الظاء ، وكذلك قرأ الضحاك ، وهي على تسكين الظاء من نظرة ، وهي لغة تميمية ، وهم الذين يقولون : كرم زيد بمعنى كرم ، ويقولون ، كبد من كبد ، وكتف في كتف ، وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة » على وزن فاعلة ، وقال الزجّاج : هي من أسماء المصادر ، كقوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } [ الواقعة : 2 ] وكقوله تعالى : { تظن أن يفعل بها فاقرة } [ القيامة : 25 ] ، وكخائنة الأعين( {[2741]} ) وغيره ، وقرأ نافع وحده «ميسُرة » بضم السين ، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «ميسَرة » بفتح السين على وزن مفعلة ، وهذه القراءة أكثر في كلام العرب ، لأن مفعلة بضم العين قليل .

قال أبو علي : قد قالوا : مسربة ومشربة( {[2742]} ) ، ولكن مفعلة بفتح العين أكثر في كلامهم ، وقرأ عطاء بن أبي رياح أيضاً ومجاهد : «فناظره إلى ميسُره » على الأمر في «ناظره » وجعلا الهاء ضمير الغريم ، وضما السين من «ميسُره » وكسر الراء وجعلا الهاء ضمير الغريم ، فأما ناظره ففاعله من التأخير ، كما تقول : سامحه( {[2743]} ) ، وأما ميسر فشاذ ، قال سيبويه : ليس في الكلام مفعل ، قال أبو علي يريد في الآحاد ، فأما في الجمع فقد جاء قول عدي بن زيد : [ الرمل ]

أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنّي مَأْلُكاً . . . أَنَّه قَدْ طالَ حَبْسي وانتظاري( {[2744]} )

وقول جميل : [ الطويل ]

بثين الزمي - لا - إنَّ - لا - إنْ لزمته . . . على كثرةِ الواشين أيّ معون

فالأول جمع مألكه ، والآخر جمع معونة( {[2745]} ) ، وقال ابن جني : إن عدياً أراد مالكة فحذف ، وكذلك جميل أراد أي معونة ، وكذلك قول الآخر : [ الراجز ]

«ليومِ روعٍ أو فِعال مكْرَمِ ( {[2746]} ) » . . . «أرادَ مَكْرُمَة » ، فحذف قال : ويحتمل أن تكون جموعاً كما قال أبو علي .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فإن كان ميسر جمع ميسرة فيجري مجرى هذه الأمثلة ، وإن كان قارئه أراد به الإفراد فذلك شاذ ، وقد خطأه بعض الناس ، وكلام سيبويه يرده ، واختلف أهل العلم : هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة : واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال ؟

فقال ابن عباس وشريح : ذلك في الربا خاصة ، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة ، بل تؤدى إلى أهلها( {[2747]} ) ، وكأن هذا القول( {[2748]} ) يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح ، فالحكم هي النظرة ضرورة ، وقال جمهور العلماء النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الديْن ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة ، فسره الضحاك( {[2749]} ) .

وقوله تعالى : { وأن تصدقوا } ابتداء وخبره { خير } ، وندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيراً من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك وجمهور الناس . وقال الطبري وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم ، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالاً لقتادة وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته ، بل هي كقول جمهور الناس ، وليس في الآية مدخل للغني( {[2750]} ) ، وقرأ جمهور القراء : «تصَّدقوا » بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا . وقرأ عاصم «وأن تصْدقوا » بتخفيف الصاد وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وأن تصدقوا » بفك الإدغام .

وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال : كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة . وقال ابن عباس : آخر ما نزل آية الربا( {[2751]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل( {[2752]} ) ، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم ، قال : آخر آية قوله تعالى : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين ، وروي أن قوله عز وجل : { واتقوا } نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ، ثم لم ينزل بعدها شيء ، وروي بثلاث ليال ، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات ، وأنه قال عليه السلام اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ، وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية ، من البقرة .


[2739]:- إشارة إلى حديث رواه الدارقطني والبزار إلا أنه حديث ضعيف. انظر (ق).
[2740]:- خلاصة الرأي أن قراءة النصب تختص بديْن الربا، وقراءة الرفع تشمل ديْن الربا وغيره، قال ابن عطية: والعموم غير لازم.
[2741]:- الآيات بترتيبها: الآية (2) من سورة الواقعة – والآية (25) من سورة القيامة، ومن الآية (19) من سورة غافر.
[2742]:- المسرُبَة (بفتح الراء وضمها): الشَّعر وسط الصدر إلى البطن، والمشْرُبَة كذلك: المكان يشرب منه: والأرض ليِّنةً دائمة النبات.
[2743]:- فمعنى ناظِرْهُ: سامحه، أو أخّره إلى وقت اليسر والغنى.
[2744]:- المألك، الرسالة، جمعه مآلك – والمألَكة والمألُكة – بفتح اللام وضمها: الرسالة أيضا، وجمعها كذلك مآلك.
[2745]:- تأول أبو الفتح بن جني الأبيات على أنها آحاد محذوفة التاء، وقال أبو علي الفارسي: إنها جموع لا آحاد.
[2746]:- هو أبو الأخزر الحماني، والبيت بتمامه: مَروان مرْوان أخو اليوم اليَمي ليوم رَوْع أو فَعالِ مكـرُم واليوم اليمي: اليوم الشديد، واليمي مقلوب اليوم، أخر الواو وقدم الميم، ثم قلبت الواو ياءً حيث صارت طرفاً.
[2747]:- لقوله تعالى: [إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها].
[2748]:- أي قول ابن عباس: إن التأخير خاص بديْن الربا إذا لم يكن المدين في فقر مدقع، وأما إذا كان كذلك فلا فرق بين دين الربا وغيره، ولعل ابن عباس لا يخالف في هذا، والله أعلم.
[2749]:- روى الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله بسنده إلى الضحاك في تفسير الآية قال: "وكذلك كل دين على مسلم، فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه». ا هـ. وذكر أبو (ح) في تفسيره ما يأتي: «جاء في فضل إنظار المعسر أحاديث كثيرة منها: (من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله)».
[2750]:- وإنما المهم أمر المعسر، ولذلك سيقت الآية الكريمة، وفي كلام ابن عطية هذا ردّ على القول بشمول الآية للغني والفقير.
[2751]:- هذا باعتبار النزول كما هو صريح، وأما باعتبار الحكم فقبل ذلك بكثير – ألا ترى إلى الآية المذكورة في وقعة أُحد: [يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الرِّبا أضعافا مضاعفة]، قال المفسرون: لما نزلت سورة النصر عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها عاما كاملا، ثم نزلت: [لقد جاءكم رسول من أنفسكم] إلى آخر السورة، وعاش بعدها صلى الله عليه وسلم ستة أشهر ثم نزل عليه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو واقف بعرفة: [اليوم أكملت لكم دينكم] الآية، وعاش بعدها صلى الله عليه وسلم واحداً وثمانين يوما ثم نزلت آية الربا، ثم نزلت بعدها: [واتّقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم تُوفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون]، وهي آخر آية نزلت من السماء، وعاش بعدها صلى الله عليه وسلم واحداً وعشرين يوما، وقيل: تسع ليال، وقيل: سبع ليال، ثم مات يوم الاثنين صلى الله عليه وسلم لليلتين خلتا من ربيع الأول، ونسأل الله عز وجل أن نموت على سنته ويوم موتته، وهو سبحانه أعلم وأرحم بعباده.
[2752]:- أو آخر ما نزل من آيات البيوع.