ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة التي حرضت المؤمنين على القتال أعظم تحريض ، ببيان بعض الحكم التي من أجلها شرع الجهاد في سبيل الله ، فقال - تعالى - : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ . . . } .
و " أم " هنا للاستفهام الانكارى . وحسب - كما يقول الراغب - مصدره الحسبان وهو أن يحكم الشخص لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله ، فيحسبه ويعقد عليه الأصابع ، ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك . ويقارب ذلك الظن ، لكن الظن أن يخطر النقيضان بباله فيغلب أحدهما على الآخر .
والواو في قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } حالية ، و { لَمَّا } للنفى مع توقع الحصول ، ونفى العلم هنا مجاز عن نفى التبين والازهار والتمييز .
وقوله : { وَلِيجَةً } أى ، بطانة ومداخلة . من الولوج في الشئ أى الدخول فيه .
يقال : ولج يلج ولوجا إذا دخل . وكل شئ أدخلته في شئ ولم يكن منه فهو وليجة .
والمراد بالوليجة هنا : البطانة من المشركين الذين يطلعون على أسرارهم المؤمنين ويداخلونهم في أمورهم .
قال ابن جرير : قوله : { وَلِيجَةً } هو الشئ يدخل في غيره . يقال منه : ولج فلان في كذا يجله فهو وليجة . وإنما عنى بها في هذا الموضع : البطانة من المشركين ، نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم .
والمعنى : أحسبتم - أيها المؤمنون - أن تتركوا دون أن تؤمنوا بقتال المشركين ، والحال أن الله - تعالى - لم يظهر الذين جاهدوا منكم بإخلاص ولم يتخذوا بطانة من أعدائاكم . . ممن جاهدوا منكم بدون إخلاص ؟
لا . أيها المؤمنون ، إن كنتم حسبم ذلك فهو حسبان باطل ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يميز المخلص في جهاده من غيره ، وأن يجعل من حكم مشروعية الجهاد والتمحيص .
قال ابن كثير : والحاصل أنه - تعالى - لما شرع الجهاد لعباده ، بين أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن عصيه ، وهو - تعالى - العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، فيعم الشئ قبل كونه على ما هو عليه ، لا إله إلا هو ولا رب سواه ، ولا راد لما قدره وأمضاه .
وقوله تعالى . { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } بيان لشمول علمه - سبحانه لجميع شئون خلقه .
أى : والله - تعالى - خبير بجميع أعمالكم ، مطلع على نياتكم ، فأخلصوا له العمل والطاعة ، لتنالوا ثوابه ورضاه وعونه .
وبذلك نرى السورة الكريمة من أولها إلى هما قد أعلنت براءة الله ورسوله من عهود المشركين ، وأعطتهم مهلة يتدبرون خلالها أمرهم ، وأمرت المؤمنين بعد هذه المهلة - أن يقتلوا المشركين حيث وجدوهم . . . ثم ساقت الأسباب التي تدعو إلى مجاهدتهم ، والفوائد التي تترتب على هذه المجاهدة ، والحكم التي من أجلها شرعت هذه المجاهدة .
{ أم } في هذه الآية ليست المعادلة ، وإنما هي المتوسطة في الكلام ، وهي عند سيبويه التي تتضمن إضراباً عن اللفظ لا عن معناه ، واستفهاماً فهي تسد مسد بل وألف الاستفهام ، وهي التي في قولهم : «أنها لإبل أم شاء » التقدير بل أهي شاء ، وقوله { أن تتركوا } يسد عند سيبويه مسد مفعولي «حسب » ، وقال المبرد : «أن » وما بعدها مفعول أول والثاني محذوف .
قال القاضي أبو محمد : كان تقديره مهملين أو سدى ونحو ذلك ، وقوله { ولما } هي دخلت على لم وفيها مبالغة ، ومعنى الآية أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحان ؟ ف { لما } في هذه الآية بمنزلة قول الشاعر [ الفرزدق ] : [ الطويل ]
بأيدي رجال لم َيشيموا سيوفهم*** ولم تكثر القتلى بها حين سُلَّتِ{[5552]}
قال القاضي أبو محمد : والمراد بقوله { ولما يعلم } لما يعلم ذلك موجوداً كما علمه أزلاً بشرط الوجود ولما يظهر فعلكم واكتسابكم الذي يقع عليه الثواب والعقاب ففي العبارة تجوز وإلا فحتم أنه قد علم الله في الأزل الذين وصفهم بهذه الصفة مشروطاً وجودهم ، وليس يحدث له علم{[5553]} تبارك وتعالى عن ذلك ، و { وليجة } معناه بطانة ودخيلة ، وقال عبادة بن صفوان الغنوي : [ الطويل ]
ولائجهم في كل مبدىً ومحضر*** إلى كل من يرجى ومن يتخوفُ{[5554]}
وهو مأخوذ من الولوج ، فالمعنى أمراً باطناً مما ينكره الحق ، وهذه الآية مخاطبة للمؤمنين معناها أنه لا بد من اختبارهم فهي كقوله { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم }{[5555]} وكقوله { ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون }{[5556]} وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عندما فرض القتال ، وقرأ جمهور الناس «والله خبير بما تعملون » بالتاء على المخاطبة ، وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الحكاية عن الغائب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.