قوله : { واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } الضمير المنصوب فيه يعود على قوله : { الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } في الآية السابقة .
و { ثَقِفْتُمُوهُم } : أدركتموهم وظفرتم بهم . يقال : ثقف الشيء إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة ومنه : رجل ثقف إذا كان سريع الأخذ لأقرانه . قال الشاعر :
فإما تثقفوني فاقتلوني . . . فمن أثقف فليس إلى خلود
ويقال - أيضاً - رجل ثقف : إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور .
والمعنى : عليكم أيها المسلمون أن تقتلوا هؤلاء الذين أذنا لكم بقتالهم حيث وجدتموهم وظفرتم بهم ، فأنهم قد بادءوكم بالعدوان ، وتمنوا لكم كل شر وسوء .
وقوله : { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } معطوف على ما قبله .
وحيث ظرف مكان . والمكان الذي أخرجوهم منه هو مكة ، فإن المشركين من قريش قد أنزلوا بالمسلمين الأولين من صنوف الأذى ما جعلهم يتركون مكة ويهاجرون إلى بلاد الحبشة .
أولا : ثم إلى المدينة المنورة ثانياً . أي : اقتلوا هؤلاء الذين قاتلوكم في أي مكان لقيتموهم فيه ، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة .
وفي هذا تهديد للمشركين ، وإغراء للمسلمين بهم ، ووعد بفتح مكة وقد أنجز الله - تعالى - وعده ففتح المسلمون مكة في السنة الثامنة من الهجرة .
وقولع - تعالى - : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } . دفع لما قد يقع من بعض المسلمين من استعظام قتل المشركين في مكة .
والفتنة في الأصل : مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزائف منهما ، ثم استعملت في الابتلاء والامتحان والصرف عن الشيء ، وأكثر استعمالها في التضليل والصد عن الدين ، ثم على الكفر .
ويبدو أن المراد منها هنا ما كان يفعله المشركون مع المسلمين من التعذيب والصد عن الدين ، والإِخراج من الوطن ، وغير ذلك من صنوف الأذى .
والمعنى : لا تقصروا في قتل المشركين الذين يقاتلونكم ، والذين أخرجوكم من دياركم ، فإن فتنتهم لكم بالإِيذاء والتعذيب والصد عن الدين ، أشد ضررا من قتلكم لهم في أي مكان وجدوا به .
وبعضهم فسر الفتنة هنا بالشرك ، أو بالرجوع إلى الكفر ، أو بعذاب الآخرة ، وقد بين ذلك صاحب الكشاف بقوله . وقوله : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } أي : المحنة والبلاء الذي ينزل بالإِنسان يتعذب به أشد عليه من القتل وقيل لبعض الحكماء : ما أشد من الموت : قال : الذي يتمنى فيه الموت ، جعل الإِخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت ، ومنه قول القاتل :
القتل بحد السيف أهون موقعا . . . على النفس من قتل بحد فراق
وقيل : { والفتنة } عذاب الآخرة قال - تعالى - { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } وقيل : الشرك أعظم من القتل في الحرم ، وذلك لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون به المسلمين . فقيل : والشرك الذي هم عليه أشد وأعظم مما يستعظمونه ويجوز أن يراد : وفتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم " .
وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد أذنت للمؤمنين في قتل الذين يناجزونهم القتال دفعاً لشرهم أينما وجدوا .
ثم ساقت الآية جملة أخرى نهت فيها المؤمنين عن قتال المشركين عند المسجد الحرام مراعاة لحرمته . ما دام المشركون لم يفاتحوهم بالقتال عنده ، أما إذا فاتحوهم بالقتال فيه ، فقد أصبح من حق المؤمنين أن يدافعوا عن أنفسهم ، وأن يقاتلوا أعداءهم . وهذه الجملة هي قوله - تعالى - : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } .
أي : لا تقاتلوا أيها المؤمنون أعداءكم عند المسجد الحرام احتراماً له حتى يبدأ المشركون قتالكم عنده ، فإن بدءوكم بالقتال فيه فلا حرج عليكم في قتلهم عنده ، لأن المنتهك لحرمة المسجد الحرام إنما هو البادئ بالقتال فيه وهم المشركون ، ولستم أنتم أيها المؤمنون لأن موقفكم إنما هو موقف المدافع عن نفسه .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد حفظت للمسجد الحرام حرمته وهيبته ومكانته السامية لأن حرمته لذاته ، وحرمة سائر الحرم من أجله ، إلا أنها أذنت للمسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم إذا ما هاجمهم المشركون عنده أو فيه .
قال ابن كثير ما ملخصه : وقد دلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم إذا بدأوا بالقتال فيه دفعا لصولتهم ، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أً صحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ، ثم كف الله القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } وقال صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد ومن معه يوم الفتح : " إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا " . فما عرض لهم أحد إلا أناموه وأصيب من المشركين نحو اثني عشر رجلاً " .
ولم يقل - سبحانه - فإن قاتلوكم فقاتلوهم ، وإنما قال { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } تبشيراً للمؤمنين بالغلبة عليهم ، وإشعاراً بأن هؤلاء المشركين من الخذلان والضعف بحالة أمر الله المؤمنين معها بقتلهم لا بقتالهم ، فهم لضعفهم لا يحتاجون من المؤمنين إلا إلى القتل .
وقوله : { كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين } تذييل لما قبله . واسم الإِشارة ذلك يعود إلى قتل المقاتلين أينما وجدوا .
والجزاء : ما يقع في مقابلة الإِحسان أو الإِساءة ، فيطلق على ما يثاب به المحسن ، وعلى ما يعاقب به المسيء . والمراد به في الآية العقاب .
أي : مثل هذا الجزاء العادل من القتل والردع يجازي الله الكافرين الذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من ديارهم .
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } قال : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ، ويكف عَمَّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال : هذه منسوخة بقوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وفي هذا نظر ؛ لأن قوله : { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } إنما هو تَهْييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله ، أي : كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم ، كما قال : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] ؛ ولهذا قال في هذه الآية : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي : لتكن همتكم منبعثة على قتالهم ، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم ، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها ، قصاصًا .
وقد حكى عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة ، { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } الآية [ الحج : 39 ] وهو الأشهر ، وبه ورد الحديث .
وقوله : { وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي : قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن البصري - من المَثُلة ، والغُلُول ، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم ، والرهبان وأصحاب الصوامع ، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ، كما قال ذلك ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم . ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن بُرَيدة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تَغُلّوا ، ولا تَغْدروا ، ولا تُمَثِّلُوا ، ولا تقتلوا وليدًا ، ولا أصحاب الصوامع " . رواه الإمام أحمد{[3385]} .
وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث جيوشه قال : " اخرجوا بسم الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا ، ولا تُمَثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع " . رواه الإمام أحمد{[3386]} .
ولأبي داود ، عن أنس مرفوعًا ، نحوه{[3387]} . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجُدت امرأة في بعض مغازي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتولة ، فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان{[3388]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا مُصعب بن سَلام ، حدثنا الأجلح ، عن قيس بن أبي مسلم ، عن رِبْعي ابن حِرَاش ، قال : سمعت حُذَيفة يقول : ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا : واحدًا ، وثلاثة ، وخمسة ، وسبعة ، وتسعة ، وأحدَ عشَرَ ، فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلا وترك سائرَها ، قال : " إن قومًا كانوا أهلَ ضَعْف ومسكنة ، قاتلهم أهلُ تجبر وعداء ، فأظهر الله أهل الضعف عليهم ، فعمدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه " {[3389]} .
هذا حديث حَسَنُ الإسناد . ومعناه : أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء ، فاعتَدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم ، أسخطوا الله عليهم بسبب{[3390]} هذا الاعتداء . والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا .
ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال ، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون{[3391]} عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل ؛ ولهذا قال : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } قال أبو مالك : أي : ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل .
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع ابن أنس في قوله : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } يقول : الشرك أشد من القتل .
وقوله : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } كما جاء في الصحيحين : " إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، وإنها ساعتي هذه ، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شجره ، ولا يُخْتَلى خَلاه . فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم " {[3392]} .
يعني بذلك - صلوات الله وسلامه عليه - قتالَه أهلها يومَ فتح مكة ، فإنه فتحها عنوة ، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة ، وقيل : صلحًا ؛ لقوله : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .
[ وقد حكى القرطبي : أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ . قال قتادة : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . قال مقاتل بن حيان : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وفي هذا نظر ]{[3393]} .
وقوله : { حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } يقول تعالى : لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه ، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال{[3394]} كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لَمَّا تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ، ثم كف الله القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [ الفتح : 24 ] ، ، وقال : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 25 ] .
هذا أمر بقتل من يعثر عليه منهم وإن لم يكن في ساحة القتال ، فإنّه بعد أن أمرهم بقتال من يقاتلهم عَمَّمَ المواقع والبقاع زيادة في أحوال القتل وتصريحاً بتعميم الأماكن فإن أهمية هذا الغرض تبعث على عدم الاكتفاء باقتضاء عموم الأشخاص تَعْمِيمَ الأمكنة ليكون المسلمون مأذونين بذلك فكل مكان يحل فيه العدو فهو موضع قتال ، فالمعنى واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن قاتلوكم .
وعطفت الجملة على التي قبلها وإن كانت هي مكملة لها باعتبار أن ما تضمنته قتل خاص غير قتال الوغَى فحصلت المغايرة المقتضية العطف ، ولذلك قال هنا { واقتلوهم } ولم يقل : وقاتلوهم مثل الآية قبلها تنبيهاً على قتل المحارب ولو كان وقت العثور عليه غيرَ مباشر للقتال وأنه من خرج محارباً فهو قاتل وإن لم يَقْتُلْ .
و { ثقفتموهم } بمعنى لقيتموهم لقاء حرب وفِعله كفرح ، وفسره في « الكشاف » بأنه وجود على حالة قهر وغلبة .
وقوله : { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } أي يحل لكم حينئذٍ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها ، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة ، فيكون هذا اللقاء لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسْعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين ، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام } [ الفتح : 27 ] الآية .
وقوله : { والفتنة أشد من القتل } تذييل وأل فيه للجنس تدل على الاستغراق في المقام الخَطَابيِّ ، وهو حجة للمسلمين ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه . والفتنة إلقاء الخوف واختلال نظام العَيْشِ وقد تقدمت عند قوله تعالى : { حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } [ البقرة : 102 ] ، إشارة إلى ما لقيه المؤمنون في مكة من الأذى بالشتم والضرب والسخرية إلى أن كان آخره الإخراج من الديار والأموال ، فالمشركون محقوقون من قبل فإذا خفروا العهد استحقوا المؤاخذة بما مضى فيما كان الصلح مانعاً من مؤاخذتهم عليه ؛ وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل ، ويراد منها أيضاً الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة ، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها ، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على أهبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة . وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار ، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيَّل .
الجملة معطوفة على جملة { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حَلُّوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه ، إذ قد يبادره إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره ، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله : { حيث ثقفتموهم } أي إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم ، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله :
{ مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامناً } [ آل عمران : 97 ] ، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام ، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحداً من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام بدلالة لحن الخطاب أو فحوى الخطاب .
وجعلت غاية النهي بقوله : { حتى يقاتلونكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } أي فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام ، لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين . فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك .
وفي قوله تعالى : { فاقتلوهم } تنبيه على الإذن بقتلهم حينئذٍ ولو في غير اشتباك معهم بقتال ، لأنهم لا يؤمنون من أن يتخذوا حرمة المسجد الحرام وسيلة لهزم المسلمين .
ولأجل ذلك جاء التعبير بقوله : { فاقتلوهم } لأنه يشمل القتل بدون قتال والقتل بقتال .
فقوله تعالى : { فإن قاتلوكم } أي عند المسجد الحرام فاقتلوهم هنالك ، أي فاقتلوا من ثقفتم منهم حين المحاربة ، ولا يصدكم المسجد الحرام عن تقصي آثارهم لئلا يتخذوا المسجد الحرام ملجأ يلجؤون إليه إذا انهزموا .
وقد احتار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ] إلى قوله هنا { كذلك جزاء الكافرين } حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضاً ؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقارنة في السورة الواحدة نزلت كذلك ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلاً عن سابقه وليس هنا ما يلجىء إلى دعوى النسخ ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات .
وقد أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة ؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى فلما كان قتال الكفار عنده قتالاً لمنع الناس منه ومناوأة لدينه فقد صاروا غير محترمين له ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييداً لحرمة المسجد الحرام .
وقرأ الجمهور : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } ثلاثتها بألف بعد القاف ، وقرأ حمزة والكسائي : { ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم } بدون ألف بعد القاف ، فقال الأعمش لحمزة أرأيت قراءتك هذه كيف يكون الرجل قاتلاً بعد أن صار مقتولاً ؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا اهـ يريد أن الكلام على حذف مضاف من المفعول كقوله
غَضِبت تميم أَنْ تُقتَّل عامر *** يوم النسار فأُعْتِبُوا بالصَّيْلَم
والمعنى ولا تقتلوا أحداً منهم حتى يقتلوا بعضكم فإن قتلوا بعضكم فاقتلوا من تقدرون عليه منهم وكذلك إسناد ( قتلوا ) إلى ضمير جماعة المشركين فهو بمعنى قتل بعضهم بعض المسلمين لأن العرب تسند فعل بعض القبيلة أو الملة أو الفرقة لما يدل على جميعها من ضمير كما هنا أو اسم ظاهر نحو قتلتنا بنو أسد . وهذه القراءة تقتضي أن المنهي عنه القتل فيشمل القتل باشتباك حرب والقتل بدون ملحمة .
وقد دلت الآية بالنص على إباحة قتل المحارب إذا حارب في الحرم أو استولى عليه لأن الاستيلاء مقاتلة ؛ فالإجماع على أنه لو استولى على مكة عدو وقال : لا أقاتلكم وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال ؛ نقله القرطبي عن ابن خويز منداد من مالكية العراق . قال ابن خويز منداد : وأما قوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } فيجوز أن يكون منسوخاً بقوله : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [ البقرة : 193 ] .
واختلفوا في دلالتها على جواز قتل الكافر المحارب إذا لجأ إلى الحرم بدون أن يكون قتال وكذا الجاني إذا لجأ إلى الحرم فاراً من القصاص والعقوبة فقال مالك : بجواز ذلك واحتج على ذلك بأن قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } [ التوبة : 5 ] الآية قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقاً .
وبالحديث الذي رواه في « الموطأ » عن أنس بن مالك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء أبو برزة فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوه " وابن خطل هذا هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر بعد إسلامه وجعل دأبه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه فلما علم ذلك عاذ بأستار الكعبة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حينئذٍ ، فكان قتل ابن خطل قتل حد لا قتل حرب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع المغفر عن رأسه وقد انقضت الساعة التي أحل الله له فيها مكة .
وبالقياس وهو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن الله بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف ، فكذلك عياذ الجاني به ، وبمثل قوله قال الشافعي ، لكن قال الشافعي إذا التجأ المجرم المسلم إلى المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله ، وقال أبو حنيفة : لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلاّ إذا قاتل فيه لنص هاته الآية وهي محكمة عنده غير منسوخة وهو قول طاووس ومجاهد .
قال ابن العربي في « الأحكام » : حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في المجلس ، فقال القاضي الزنجاني : من السيد ؟ فقال : رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس ، ومقصدي هذا الحرم المقدس فقال القاضي الزنجاني : سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم ، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا ؟ فأجاب بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل فقال : قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قرىء ( ولا تقتلوهم ) فالآية نص وإن قرىء ( ولا تقاتلوهم ) فهي تنبيه ، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلاً بيناً على النهي عن القتل فاعترض عليه الزنجاني منتصراً لمالك والشافعي وإن لم ير مذهبهما على العادة ، فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] فقال الصاغاني هذا لا يليق بمنصب القاضي ، فإن الآية التي اعترضتَ بها عامة في الأماكن والتي احتججتُ بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول : إن العام ينسخ الخاص فأُبْهِت القاضي الزنجاني ، وهذا من بديع الكلام اهـ .
وجواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ وحديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة . وأما قول الحنفية وبعض المالكية : إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل الله له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح وقد ثبت في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزع حينئذٍ المغفر وذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب .
وقال ابن العربي في « الأحكام » : الكافر إذا لم يقاتل ولم يجن جناية ولجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل ، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } وهو مما شمله قوله تعالى : { لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } .
وقوله : { كذلك جزاء الكافرين } ، الإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله : { فاقتلوهم } أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : البقرة : 143 ] ونكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم ؛ وهذا تهديد لهم ، فقوله { كذلك } خبر مقدم للاهتمام وليست الإشارة إلى { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ] لأن المقاتلة ليست جزاء ؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يوماً بيوم .