التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

ثم بين - سبحانه - بعض الأحكام التى تتعلق بالزوجين ، وعالج ما يقع بينهما من خلاف ونفرة علاجا حكيما فقال - تعالى - { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصلح خَيْرٌ } .

والخوف معناه : توقع الانسان مكروها ينزل به . وهو هنا مستعمل فى حقيقته إلا أنه لا يكون إلا بعد ظهور علامات تدل عليه من الرجل . كأن يقول لها : إنك قد كبرت وأريد أن أتزوج بشابة . إلى غير ذلك من الأحوال التى تلمسها الزوجة من زوجها بمقتضى مخالطتها له .

والنشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع ويوصف به الرجل والمرأة . والمراد به هنا ما يكون من الرجل من استعلاء على زوجته . ومجافة لها بترك مضاجعتها والتقصير فى نفقتها وفى حقوقها .

والإِعراض عنها من مظاهره : التقليل من محادثتها ومؤانستها وإدخال السرور عليها . وهو وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الترمذى وحسنه عن ابن عباس فقال : " خشيت سودة بنت زمعة إحدى زوجات النبى صلى الله عليه وسلم أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله . لا تطلقنى واجعل يومى لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية " .

وأخرج الشافعى عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقنى واقسم لى ما بدالك . فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن .

وروى عن عائشة أنها قالت : نزلت فى المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول له : أمسكنى وتزوج بغيرى وأنت فى حل من النفقة والقسم .

وقوله : { وَإِنِ امرأة } فاعل لفعل واجب الإِضمار . أى : وإن خافت امرأة خافت .

وقوله : { مِن بَعْلِهَا } متعلق بخافت ، وقوله : { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } جواب الشرط .

والمعنى : وإن خافت امرأة من زوجها ( نشوزا ) أى تجافيا عنها ، وترفعها عن صحبتها { أَوْ إِعْرَاضاً } أى : انصرافا عن محادثتها ومؤانستها على خلاف ما عهدته منه قبل ذلك ، ففى هذه الأحوال { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } أى : لا حرج ولا إثم على الزوجة وزوجها فى { أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } يتفقان عليه فيما بينهما رعاية لرابطة الزوجية وإبقاء على دوامها ، وذلك بأن تترك المرأة بعض حقوقها حتى تسترضى زوجها وتعمل على إزالة ما فى نفسها من استعلاء وانصراف عنها .

وقوله { صْلِحَا } مفعول مطلق مؤكد لعامله . أو مفعول به على تأويل يصلحا بيوقعا صلحا . و { بَيْنَهُمَا } حال من { صْلِحَا } لأنه كان نعتا له ونعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا ، وفيه إشارة إلى أن الأولى لهما أن لا يطلعا الناس على ذلك . بل يكون ما يتفقان عليه سرا بينهما .

وقد عبر - سبحانه - عن طلب الصلح بقوله { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } ترفقا فى الإِيجاب ، ونفيا لما يتوهم من أن تنازل أحدهما للآخر عن بعض حقه يؤدى إلى الإِثم ، لأن الصلح بينهما يقتضى أن يتسامح أحد الزوجين فى جزء من حقه ليظفر بخير أكثر مما تسامح فيه . فإذا تركت المرأة بعض حقها لتدوم عشرتها مع زوجها بالمعروف فذلك لا إثم فيه بل إن فيه الخير .

وأكد - سبحانه - هذا الصلح بقوله { صْلِحَا } للإِشارة إلى وجوب أن يكون الصلح بينهما حقيقيا لا شكليها ، وأن يكون بحيث تتلاقى فى القلوب ، وتصفوا النفوس .

وتشع بينهما المودة والرحمة ، ويرضى كل واحد منهما بما قسم الله له .

وقوله : { والصلح خَيْرٌ } جملة معترضة من مبتدأ وخبر لتأكيد الصلح الذى حض الله عليه قبل ذلك أى : والصلح بين الزوجين خيرا من الفرقة وسوء العشرة ، اللهم إلا إذا استحال الصلح والوفاق بينهما فإنه فى هذه الحالة تكون الفرقة بينهما خيرا . { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } .

قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله { والصلح خَيْرٌ } . الظهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية كما أمسك النبى صلى الله عليه وسلم سودة على أن تركت يومها لعائشة ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه . وفعله هذا لتتأسى به أمته فى مشروعية ذلك وجوازه فهو أفضل فى حقه صلى الله عليه وسلم ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق قال : { والصلح خَيْرٌ } ، بل الطلاق بغيض إليه - سبحانه ولهذا جاء الحديث الذى رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " .

وقوله - تعالى - { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } جملة أخرى معترضة جئ بها لبيان ما جبل عليه الإِنسان من طباع ، وللحض على الصلح حتى ولو خالف ما طبعت عليه النفس من سجايا .

والفعل حضر يتعدى لواحد فدخلت عليه الهمزة فجعلت يتعدى لاثنين كما هنا . إذ المفعول الأول نائب الفاعل وهو الأنفس والمفعول الثانى كلمة الشح .

والشح : البخل مع الحرص ، والمراد : وأحضر الله الأنفس الشح . أى جبل الله النفوس على الشح بما تملكه ، فالمرأة لا تكاد تتسامع أنو تتنازل عن شئ من حقها ، والرجل كذلك لا يكاد يتنازل عن شئ من حقوقه ، لأن حرص الإِنسان على حقه طبيعة فيه . فعلى الزوجين أن يلاحظا ذلك وأن يخالفا ميولهما وطبعهما من أجل الإبقاء على الحياة الزوجية بصفاء ومودة .

فالجملة الكريمة ترشد الإِنسان إلى داء من أدوائه وتأمره بمعالجته حتى ولو أدى ذلك إلى مخالفة ما جبلت عليه نفسه .

ويرى ابن جرير أن المراد بالأنفس هنا أنفس النساء خاصة فقد قال ما ملخصه : وأولى القولين فى ذلك بالصواب : قول من قال : عنى بذلك . أحضرت أنفس النساء الشح بأنصبائهن من أزواجهن فى الأيام والنفقة . والشح . والإِفراط فى الحرص على الشئ . وهو فى هذا الموضع : إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها .

فتأويل الكلام : وأحضرت أنفس النساء أهواءهن من فرط الحرصَ على حقوقهن من أزواجهن ، والشح بذلك على ضرائرهن .

ثم قال : ويشهد لهذا ما روى فى سبب نزول الآية من أنها نزلت فى أمر رافع بن خديج وزوجته ، إذ تزوج عليها شابة ، فآثر الشابة عليها ، فأبت الكبيرة أن تقر على الأثرة ، فطلقها تطليقة وتركها .

فلما قارب انقضاء عدتها ، خيرها بين الفراق والرجعة والصبر على الأثرة . فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة فراجعها وآثر عليها . فلم تصبر . ففى ذلك دليل وضاح على أن قوله - تعالى - { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } إنما عنى به : وأحضرت أنفس النساء الشح بحقوقهن من أزواجهن على ما وصفنا .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالأمر بخشيته ومراقبته ، والسير فى طريق الصلح والوفاق فقال : { وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } .

أى : وإن تحسنوا - أيها الرجال - فى أقوالكم وأفعالكم إلى نسائكم وتتقوا الله فيهن : بأن تتركوا التعالى عليهن والإِعراض عنهن وتصبروا على مالا ترضونه منهن ، من دمامة أو تقصير فى واجباتهن . إن تفعلوا ذلك يرفع الله درجاتكم . ويجزل ثوباكم ، لأنه - سبحانه - خبير بكل أحوالكم وأعمالكم ، ولن يضيع - سبحانه - أجر من أحسن أعملا .

فالجملة الكريمة خطاب للأزواج بطريق الالتفات . لقصد استمالتهم وترغيبهم فى حسن معاملة نسائهم ، وسلوك طريق الصلح معهن .

هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : أن على الزوجين أن يحسنا العشرة الزوجية كل واحد منهما من جانبه ، وأن يصبر كل واحد منهما على ما يكون من صاحبه من هفوات ومخالفات لا تخلو منها طبيعة الحياة الزوجية . .

وأن أحد الزوجين وإذا تنازل عن بعض حقوقه للآخر بقصد الإِبقاء على الحياة الزوجية جاز ذلك ، فإذا رغب رجل - مثلا - فى طلاق زوجته لسبب من الأسباب وكانت الزوجة تريد البقاء معه ، وتنزلت المرأة عن بعض حقوقها فى سبيل من الأسباب وكانت الزوجة تريد البقاء معه ، وتنازلت المرأة عن بعض حقوقها فى سبيل أن تبقى معه وتراضيا على ذلك عن طيب خاطر ، بأن أعطته بعض المال - مثلا - فإن ما أخذه منها لا يعد مالا حراما فى مثل هذه الحالة . أما إذا تظاهر الرجل بالنشوز أو الإِعراض لكى ينال شيئا من حقوقها أو تتنازل له عن بعضها ، فإن ما يأخذه الرجل منها فى مثل هذه الحالة يكون أكلا لحقوق غيره بالباطل ، لأنه لم يكن راغبا حقيقة فى الطلاق وإنما تصنع النشوز أو الإِعراض اجتلابا لمالها ، واستدراراً لخيرها . وقد نهى الله عن كل ذلك بل أمر بترك النشوز ، ووعد من يحسن المعاشرة الزوجية ويتقى الله بالأجر الجزيل .

قال القرطبى ما ملخصخ : يجوز أن يعطى الزوج على أن تصبر . أو تعطى هى على أن يبقيها فى عصمته ، أو يقع الصلح بينهما على الصبر والأثرة - أى يؤثر غيرها عليها من غير عطاء فهذا كله مباح . وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشئ تعطيه إياها فقد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم مرة على صفية فقالت لعائشة ، أصلحى بينى وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب لك يومى .

قالت عائشة : فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إلى جانبه . فقال : " إليك عنى فإنه ليس بيومك " فقلت : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . وأخبرته الخبر ، فرضى عنها . وفيه أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلابإذن المفضولة ورضاها .

وقال بعض العلماء ما ملخصه : فإن قيل : إن الله - تعالى - قال فى نشوز المرأة : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن } الآية وقال فى نشوز الرجل : { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } . الآية فجعل لنشوز المرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها فى المضجع ويضربها ولم يجعل لنشوز الرجل عقوبة من زوجته ، بل جعل له ترضية وتلطفا فما معنى ذلك ؟

والجواب عن ذلك : أن الله - تعالى - جعل الرجال قوامين على النساء ، فالرجل راعى المرأة ورئيسها المهيمن عليها . ومن قضية ذلك ألا يكون للمرءوس معاقبة رئيسه ، وإلا انقلب الأمر وضاعت هيمنة الرئيس .

وأن الله فضل الرجال على النساء فى العقل والدين . ومن قضية ذلك ألا يكون نشوز من الرجل إلا لسبب قاهر . ولكن المرأة لنقصان عقلها ودينها يكثر منها النشوز لأقل شئ تتوهمه سبباً .

وأن نشوز الرجل أمارة من أمارات الكراهة وإرادة الفرقة . وإذا كان الله قد جعل له حق الفرقة ولم يجعل للمرأة عليه سبيلا إذا هو أراد فرقتها فأولى ألا يجعل لها عليه سبيلا إذا بدت منه أمارات هذه الفرقة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

يقول تعالى مخبرا ومشرعا عن حال الزوجين : تارة في حال نفور الرجل عن المرأة ، وتارة في حال اتفاقه معها ، وتارة في حال{[8418]} فراقه لها .

فالحالة الأولى : ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها ، أو يعرض عنها ، فلها أن تسقط حقها أو بعضه ، من نفقة أو كسوة ، أو مبيت ، أو غير ذلك من الحقوق عليه ، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح{[8419]} عليها في بذلها ذلك له ، ولا عليه في قبوله منها ؛ ولهذا قال تعالى : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } ثُمَّ قَالَ { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } أي : من الفراق . وقوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ } أي الصلح عند المُشَاحَّة خير من الفراق ؛ ولهذا لما كبرت سودة بنت زَمْعَة عزم{[8420]} رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها ، فصالحته على أن يمسكها ، وتترك يومها لعائشة ، فَقَبِل ذلك منها وأبقاها على ذلك .

ذكر الرواية بذلك :

قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سليمان بن معاذ ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خَشيت سَوْدَة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة . ففعل ، ونزلت{[8421]} هذه الآية : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } الآية ، قال ابن عباس : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز .

ورواه الترمذي ، عن محمد بن المثنى ، عن أبي داود الطيالسي ، به . وقال : حسن غريب{[8422]}

وقال الشافعي أخبرنا مسلم ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة ، وكان يقسم لثمان{[8423]} .

وفي الصحيحين ، من حديث هشام بن عُرْوة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما كَبرْت سودةُ بنتُ زَمعة وهبَتْ يومها لعائشة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة{[8424]} .

وفي صحيح البخاري ، من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، نحوه .

وقال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن هشام ، عن أبيه عروة{[8425]} قال : أنزل{[8426]} الله تعالى في سودة{[8427]} وأشباهها : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } وذلك أن سودة كانت امرأة قد أَسَنَّتْ ، ففزعت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وضنَّت بمكانها منه ، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه ، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة ، فقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم{[8428]} .

قال البيهقي : وقد رواه أحمد بن يونس : عن ابن أبي الزِّناد{[8429]} موصولا . وهذه الطريق رواها الحاكم في مستدركه فقال :

حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه ، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن هشام بن{[8430]} عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها قالت له : يا ابن أختي ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا ، وكان قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا ، فيدنو من كل امرأة من غير مَسِيس ، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها ، ولقد قالت سودة بنت زَمْعة - حين أسنت وفَرِقت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ، يومي هذا لعائشة . فَقَبِل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . قالت عائشة : ففي ذلك أنزل الله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا }

وكذا رواه أبو داود ، عن أحمد بن يونس ، به . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[8431]} .

وقد رواه [ الحافظ أبو بكر ]{[8432]} بن مَرْدُويه من طريق أبي بلال الأشعري ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، به نحوه . ومن رواية عبد العزيز بن{[8433]} محمد الدَّرَاوَرْدي ، عن هشام بن عروة ، بنحوه مختصرا ، والله أعلم .

وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدَّغُولي في أول معجمه : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدَّسْتُوائي ، حدثنا القاسم بن أبي بَزّة قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سودة بنت زَمْعة بطلاقها ، فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة ، فلما رأته قالت له : أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه{[8434]} واصطفاك على خلقه لمَّا راجعتني ، فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال ، لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيامة . فراجعها فقالت : إني{[8435]} جعلت يومي وليلتي لِحبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا غريب مرسل{[8436]} .

وقد قال البخاري : حدثنا محمد بن مقاتل ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } قالت{[8437]} الرجل تكون عنده المرأة ، ليس بمستكثر منها ، يريد أن يفارقها ، فتقول : أجعلك من شأني في حل . فنزلت هذه الآية .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا{[8438]} بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } قالت : هذا في المرأة تكون عند الرجل ، فلعله ألا يكون يستكثر منها ، ولا يكون لها ولد ، ولها صحبة فتقول : لا تطلقني وأنت في حل من شأني .

حدثني المثنى ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا حمَّاد بن سلمة ، عن هشام ، عن عروة ، عن عائشة في قوله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } قالت : هو الرجل يكون له المرأتان : إحداهما قد كبرت ، أو هي دَمِيمة{[8439]} وهو لا يستكثر منها فتقول : لا تطلقني ، وأنت في حل من شأني .

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة{[8440]} بنحو ما تقدم ، ولله الحمد والمنة .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيد وابنُ وكيع قالا حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن ابن سيرين قال : جاء رجل إلى عمر ، رضي الله عنه ، فسأله عن آية ، فكَرِه ذلك وضربه بالدرّة ، فسأله آخر عن هذه الآية : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } فقال : عن مثل هذا فسلوا . ثم قال : هذه المرأة تكون عند الرجل ، قد خلا من سنها ، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجاني ، حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سِمَاك بن حرب ، عن خالد بن عَرْعَرَة قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[8441]} فسأله عن قول الله عز وجل : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } قال علي : يكون الرجل عنده المرأة ، فتنبو عيناه عنها من دمامتها ، أو كبرها ، أو سوء خلقها ، أو قذذها ، فتكره فراقه ، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج .

وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص . ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل أربعتهم عن سِمَاك ، به{[8442]} وكذا فسرها ابن عباس ، وعُبَيدة السَّلْمَاني ، ومجاهد بن جَبْر ، والشُّعَبِي ، وسعيد بن جبَيْر ، وعطاء ، وعطية العوْفي ومكحول ، والحكم بن عتبة ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والأئمة ، ولا أعلم [ في ذلك ]{[8443]} خلافا في أن المراد بهذه الآية هذا والله أعلم .

وقال الشافعي : أنبأنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن ابن المسيَّب : أن ابنة محمد بن مَسْلَمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كِبَرًا أو غيره فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك . فأنزل الله عز وجل : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } الآية .

وقد رواه الحاكم في مستدركه ، من طريق عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق{[8444]} .

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المُزَني ، أنبأنا علي بن محمد بن عيسى ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرني شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يَسَار : أن السُّنَّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز المرء وإعراضه عن امرأته في قوله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } إلى تمام الآيتين ، أن المرء{[8445]} إذا نشز عن امرأته وآثر عليها ، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القَسْم من ماله ونفسه ، فإن استقرت عنده على ذلك ، وكرهت أن يطلقها ، فلا حرج عليه فيما آثر عليها من ذلك ، فإن لم يعرض عليها الطلاق ، وصالحها على أن يعطيها من ماله ما ترضاه وتقر عنده على الأثرة في القَسْم من ماله ونفسه ، صلح له ذلك ، وجاز صلحها عليه ، كذلك ذكر سعيد بن المسيَّب وسليمان الصُّلحَ الذي قال الله عز وجل { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْر } .

وقد ذكر لي أن رافع بن خُدَيْج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة ، وآثر عليها الشابة ، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة ، ثم أمهلها ، حتى إذا كادت تحلّ راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة أخرى ، ثم أمهلها ، حتى إذا كادت تحل راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها ، فناشدنه الطلاق فقال لها : ما شئتِ ، إنما بقيت لك تطليقة واحدة ، فإن شئتِ استقررتِ على ما تَريْن من الأثرة ، وإن شئت فارقتك ، فقالت : لا بل أستقر على الأثرة . فأمسكها على ذلك ، فكان ذلك صلحهما ، ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت{[8446]} أن تستقر عنده على الأثرة فيما أثر به عليها .

وهذا رواه بتمامه عبد الرحمن بن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، فذكره بطوله ، والله أعلم{[8447]}

وقوله : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني التخيير ، أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق ، خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها .

والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج ، وقبول الزوج ذلك ، خير من المفارقة بالكلية ، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زَمْعة على أن تركت يومها لعائشة ، رضي الله عنها ، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه ، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه ، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام . ولما كان الوفاق أحب إلى الله [ عز وجل ]{[8448]} من الفراق قال : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }

بل الطلاق بغيض إليه ، سبحانه وتعالى ؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه جميعًا ، عن كثير بن عبيد ، عن محمد بن خالد ، عن مُعَرِّف بن واصل ، عن محارب بن دِثَار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله{[8449]} الطلاق " .

ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس ، عن مُعَرِّف ، بن محارب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكر معناه مرسلا{[8450]} .

وقوله : { وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [ أي ]{[8451]} وإن تتجشموا مشقة الصبر على من تكرهون منهن ، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن ، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء .


[8418]:في أ: "عند".
[8419]:في ر، أ: "فلا حرج".
[8420]:في أ: "وعزم".
[8421]:في أ: "فنزلت".
[8422]:سنن الترمذي برقم (3040).
[8423]:الأم (5/98).
[8424]:صحيح البخاري برقم (5212) وصحيح مسلم برقم (1463).
[8425]:في ر، أ: "عن هشام بن عروة عن أبيه".
[8426]:في ر، أ: "لما أنزل".
[8427]:في أ: "أنزلت في سودة".
[8428]:سنن سعيد بن منصور برقم (702) وسنن البيهقي الكبرى (7/297).
[8429]:في هـ: "عن الحسن بن أبي الزناد" وهو تحريف.
[8430]:في ر: "عن".
[8431]:المستدرك (2/186) ووافقه الذهبي، وسنن أبي داود برقم (2135).
[8432]:زيادة من: ر، أ.
[8433]:في ر: "عن".
[8434]:في ر، أ: "كتابه".
[8435]:في أ: "فإن".
[8436]:ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/54) من طريق مسلم بن إبراهيم به.
[8437]:في ر: "قال".
[8438]:في ر: "يصالحا".
[8439]:في أ: "وهى ذميمة".
[8440]:تفسير الطبري (9/271) وصحيح البخاري برقم (5206) وصحيح مسلم برقم (3021).
[8441]:زيادة من أ.
[8442]:تفسير الطبري (9/269).
[8443]:زيادة من أ.
[8444]:المستدرك (2/308) ورواه الواحدي في أسباب النزول برقم (128) من طريق الربيع عن الشافعي به.
[8445]:في ر، أ: "المراد".
[8446]:في أ: "عليها أنها حين رضيت".
[8447]:السنن الكبرى (7/296).
[8448]:زيادة من ر.
[8449]:في ر، أ: "الله سبحانه وتعالى".
[8450]:سنن أبي داود برقم (2178) وسنن ابن ماجة برقم (2018) من حديث ابن عمر. وقال أبو حاتم: "إنما هو محارب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل" العلل (1/431) والطريق المرسلة رواها أبو داود في السنن برقم (2177) وقد توسع الشيخ ناصر الألباني في الكلام على هذا الحديث في كتابه إرواء الغليل (2040) بما يكفي فليراجع.
[8451]:زيادة من ر، أ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ودمامة ، أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها ، فيذهب الزوج إلى طلاقها ، أو إلى إيثار شابة عليها ، ونحو هذا مما يقصد به صلاح نفسه ولا يضرها هي ضرراً يلزمه إياها ، بل يعرض عليها الفرقة أو الصبر على الأثرة ، فتريد هي بقاء العصمة ، فهذه التي أباح الله تعالى بينهما الصلح ، ورفع الجناح فيه ، إذ الجناح في كل صلح يكون عن ضرر من الزوج يفعله حتى تعالجه ، وأباح الله تعالى الصلح مع الخوف وظهور علامات النشوز أو الإعراض ، وهو مع وقوعها مباح أيضاً ، و «النشوز » : الارتفاع بالنفس عن رتبة حسن العشرة ، و «الإعراض » : أخف من النشوز{[4310]} .

وأنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة ، أن يعطي الزوج على أن تصبر هي ، أو تعطي هي على أن لا يؤثر الزوج ، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة ، أو يقع الصلح على الصبر على الأثرة ، فهذا كله مباح ، واختلف المفسرون في سبب الآية ، فقال ابن عباس وجماعة معه : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة ، حدث الطبري بسند عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا تطلقني واحبسني مع نسائك ، ولا تقسم لي ، ففعل فنزلت { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } الآية{[4311]} ، وفي المصنفات أن سودة لما كبرت وهبت يومها لعائشة وهذا نحو الأول ، وقال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعبيدة السلماني وغيرهم : نزلت الآية بسبب رافع بن خديج{[4312]} وخولة بنت محمد بن مسلمة ، وذلك أنه خلا من سنها فتزوج عليها شابة ، فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها طلقة ثم تراجعا ، فعاد فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها أخرى ، فلما بقي من العدة يسير قال لها : إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك ، قالت : بل راجعني وأصبر ، فراجعها فآثر الشابة فلم تصبر ، فقال : إنما هي واحدة ، فإما أن تقري على ما ترين من الأثرة ، وإلا طلقتك ، فقرت فهذا هو الصلح الذي أنزل الله فيه { وإن امرأة خافت } الآية{[4313]} ، وقال مجاهد : نزلت الآية بسبب أبي السنابل ابن بعكك وامرأته{[4314]} ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يصَّالحا » بفتح الياء وشد الصاد وألف بعدها ، وأصلها يتصالحا ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «يُصْلحا » بضم الياء وسكون الصاد دون ألف ، وقرأ عبيدة السلماني «يُصالحا » بضم الياء من المفاعلة ، وقرأ الجحدري وعثمان البتي «يَصّلحا » بفتح الياء وشد الصاد أصلها يصطلحا ، قال أبو الفتح : أبدل الطاء صاداً ثم أدغم فيها الصاد التي هي فاء فصارت «يصلحا » ، وقرأ الأعمش «إن اصالحا » ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود ، وقوله { صلحاً } ليس الصلح مصدراً على واحد من هذه الأفعال التي قرىء بها ، فالذي يحتمل أن يكون اسماً كالعطاء مع أعطيت والكرامة مع أكرمت ، فمن قرأ «يصلحا » كان تعديه إلى الصلح كتعدية إلى الأسماء ، كما تقول : أصلحت ثوباً ، ومن قرأ «يصالحا » من تفاعل وعرف تفاعل أنه لا يتعدى ، فوجهه أن تفاعل قد جاء متعدياً في نحو قول ذي الرمة :

ومِنْ جَرْدَةٍ غَفَلٍ بساطٍ تَحَاسَنَتْ . . . بها الوشْيُ قَرَّاتُ الرياحِ وَخُورُها{[4315]}

ويجوز أن يكون الصلح مصدراً حذفت زوائده ، كما قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإن تهلك فذلك كان قدري {[4316]}

أي تقديري .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : هذا كلام أبي علي على أن القدر مصدر جار على أن قدرت الأمر بالتخفيف بمعنى قدرت بالتشديد ، وقوله تعالى { والصلح خير } لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق ، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة . وقوله تعالى { وأحضرت الأنفس الشح } معذرة عن عبيده تعالى أي لا بد للإنسان بحكم خلقته وجبلته من أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره ، وخصص المفسرون هذه اللفظة هنا فقال ابن جبير : هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها ، وقال ابن زيد : الشح هنا منه ومنها .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : وهذا حسن ، و { الشح } : الضبط على المعتقدات والإرادات والهمم والأموال ونحو ذلك ، فما ُأفرط منها ففيه بعض المذمة ، وهو الذي قال تعالى فيه { ومن يوق شح نفسه }{[4317]} وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل ، وهي رذيلة " {[4318]} ، لكنها قد تكون في المؤمن ، ومنه الحديث «قيل يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال نعم{[4319]} » وأما { الشح } ففي كل أحد ، وينبغي أن يكون ، لكن لا ُيفرط إلا على الدين{[4320]} ، ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح } وقوله { شح نفسه } فقد أثبت أن لكل نفس شحاً ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أن تصدق وأنت صحيح شحيح{[4321]} » وهذا لم يرد به واحداً بعينه ، وليس يجمل أن يقال هنا : أن تصدق وأنت صحيح بخيل ، وقوله تعالى : { وإن تحسنوا } ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة وحمل خلق الزوجة والصبر على ما يكره من حالها . وتمكن الندب إلى الإحسان من حيث للزوج أن يشح فلا يحسن { وتتقوا } معناه : تتقوا الله في وصيته بالنساء ، إذ هن عوان عند الأزواج حسبما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله

«استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم »{[4322]} .


[4310]:- قال النحاس: "الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز: التباعد، والإعراض: ألا يكلمها ولا يأنس بها".
[4311]:- وأخرجه أيضا الطيالسي، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في سننه- عن ابن عباس. (الدر المنثور 2/232).
[4312]:- رافع بن خديج بن رافع- الأنصاري الأوسي الحارثي، كان عريف قومه بالمدينة، وشهد أحدا والخندق، وعرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغره، لكنه أجازه يوم أحد، توفي بالمدينة من جراحة، له 78 حديثا. (الإصابة- وتهذيب التهذيب).
[4313]:- أخرجه مالك، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه- عن رافع بن خديج، وفيه: "أنه كانت تحته امرأة" ولم يذكر اسمها- وأخرج الشافعي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي- عن سعيد بن المسيب أن "ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج...إلخ".
[4314]:- أخرجه ابن جرير عن مجاهد. (الدر المنثور 2/ 233)
[4315]:- هذا البيت من قصيدة مطلعها: تصابيت في أطلال ميّة بعدما نبا نبوة بالعين عنها دثورها وجرد جردا: خلا جسمه من الشعر، وجرد المكان: خلا من النبات. والغُفل ما لا علامة فيه ولا أثر من عمارة أو طرق أو نحوهما. والبساط من الأرض: الواسعة، وتحاسنت: أحسنت- وقرّات الرياح: الرياح الباردة. وأرض خوّارة: لينة سهلة، والجمع: خور- أما الوشي فهو: النقش، يقول: إن هذه الرياح الباردة جرت على الأرض الواسعة الجرداء فحسنت طرقها بما يشبه الوشي. وتفاعل التي يشير إليها ابن عطية في البيت هي: (تحاسن) فقد تعدا حين نصبت (الوشي).
[4316]:- القائل رجل من عبد القيس كان حليفا لبني شيبان، والبيت بتمامه كما رواه في "المفضليات": فإن يبرأ فلم أنفس عليه وإن يهلك فذلك كان قدري
[4317]:- من الآية (9) من سورة (الحشر).
[4318]:- نقل القرطبي ما بين علامتي التنصيص هنا عن ابن عطية، ولكن جاء فيه: "فما أفرط منه على الدين فهو محمود، وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة" وهو أوضح مما في الأصول هنا.
[4319]:- روى مالك عن صفوان بن سليم قال: (قيل: يا رسول الله، أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا).
[4320]:- يقول: إن المبالغة في الشح مذمومة إلا على الدين فإنها محمودة، واستدل على ذلك بثلاثة أدلة: (أ) قوله تعالى هنا: [وأحضرت الأنفس الشح]، وقد شرح المفسرون الكلام فقالوا: إنه من باب المبالغة، جعل الشح كأنه شيء معد في مكان وأحضرت الأنفس وسيقت إليه، فلم يسق هو إليها، بل سيقت هي إليه، لكون الإنسان مجبولا على الشح، وكلام ابن عطية فيه هذا المعنى. (ب) قوله تعالى في سورة الحشر: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} لأن إضافة الشح إلى النفس يدل على أن لكل نفس شُحا، وأنه من طبيعة النفوس. (جـ) قوله صلى الله عليه وسلم: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى القفر...الخ) فإنك حين تتصدق مع أنك مطبوع على الشح مهيأة لك أسباب الطمع في الحياة كالصحة والأمل في الغنى- أفضل من أن تتصدق وقد دنت ساعة موتك، ولهذا فلا يناسب في الحديث أن يقال: (وأنت صحيح بخيل) وبهذا وضح المؤلف الفرق بين الشح والبخل.
[4321]:- هذا الحديث رواه البخاري، ومسلم، وأحمد في مسنده، وأبو داود، والنسائي- عن أبي هريرة، ولفظه: (أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان).
[4322]:- رواه ابن ماجة، والترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر ووعظ، ثم قال: (استوصوا بالنساء خيرا..الخ)- وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا). ومعنى عوان: أسرى أو كالأسرى.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

عطف لبقية إفتاء الله تعالى . وهذا حكم اختلال المعاشرة بين الزوجين ، وقد تقدّم بعضه في قوله : { واللاتي تخافون نشوزهنّ } [ النساء : 34 ] الآية ، في هذه السورة ، فذلك حكم فصْل القضاء بينهما ، وما هنا حكم الانفصال بالصلح بينهما ، وذلك ذكر فيه نشوز المرأة ، وهنا ذكر نشوز البعْل . والبعل زوج المرأة . وقد تقدّم وجه إطلاق هذا الاسم عليه في قوله { وبعولتهنّ أحقّ بردهنّ في ذلك } في سورة البقرة ( 228 ) .

وصيغة { فلا جناح } من صيغ الإباحة ظاهراً ، فدلّ ذلك على الإذن للزوجين في صلح يقع بينهما . وقد علم أنّ الإباحة لا تذكر إلاّ حيث يظنّ المنع ، فالمقصود الإذن في صلح يكون بخلع : أي عوَض مالي تعطيه المرأة ، أو تنازل عن بعض حقوقها ، فيكون مفاد هذه الآية أعمّ من مفاد قوله تعالى : { ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهن شيئاً إلاّ أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] ، فسمّاه هناك افتداء ، وسمّاه هنا صلحاً . وقد شاع في الاستعمال إطلاق الصلح على التراضي بين الخصمين على إسقاط بعض الحقّ ، وهو الأظهر هنا . واصطلح الفقهاء من المالكية : على إطّلاق الافتداء على اختلاع المرأة من زوجها بمال تعطيه ، وإطلاق الخلع على الاختلاع بإسقاطها عنه بقية الصداق ، أو النفقة لها ، أو لأولادها .

ويحتمل أن تكون صيغة { لا جناح } مستعملة في التحريض على الصلح ، أي إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة ، فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية ؛ شبّه حال من ترك الصلح واستمرّ على النشوز والإعراض بحال من ترك الصلح عن عمد لظنّه أنّ في الصلح جناحاً . فالمراد الصلح بمعنى إصلاح ذات البين ، والأشهر فيه أن يقال الإصلاح . والمقصود الأمر بأسباب الصلح ، وهي : الإغضاء عن الهفوات ، ومقابلة الغلظة باللين ، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله : { وإن يتفرّقا يغن الله كلاّ من سعته } .

وللنشوز والإعراض أحوال كثيرة : تقوى وتضعف ، وتختلف عواقبها ، . باختلاف أحوال الأنفس ، ويجمعها قوله : { خافت من بِعَلها نشوزاً أو إعراضاً } . وللصلح أحوال كثيرة : منها المخالعة ، فيدخل في ذلك ما ورد من الآثار الدالّة على حوادث من هذا القبيل . ففي « صحيح البخاري » ، عن عائشة ، قالت في قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً } قالت : الرجل يكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها ، فتقول له أجعلك من شأني في حلّ . فنزلت هذه الآية . وروى الترمذي ، بسند حسن عن ابن عباس ، أنّ سودة أمّ المؤمنين وهبت يومها لعائشة ، وفي أسباب النزول للواحدي : أنّ ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمراً ، أيّ كِبَراً فأراد طلاقها ، فقالت له : أمسكني واقْسِم لي ما بدَا لك .

فنزلت الآية في ذلك .

وقرأ الجمهور : { أن يصّالحا } بتشديد الصاد وفتح اللام وأصله يتصالحا ، فأدغمت التاء في الصاد ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : « إن يُصْلِحَا » بضمّ التحتيّة وتخفيف الصاد وكسر اللام أي يُصلح كلّ واحد منهما شأَنهما بما يبدو من وجوه المصالحة .

والتعريف في قوله : { والصلح خير } تعريف الجنس وليس تعريف العهد ، لأنّ المقصود إثبات أنّ ماهية الصلح خير للناس ، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه ، وليس المقصود أنّ الصلح المذكورَ آنفاً ، وهو الخلع ، خير من النزاع بين الزوجين ، لأنّ هذا ، وإنّ صحّ معناه ، ألاّ أنّ فائدة الوجه الأوّل أوفر ، ولأنّ فيه التفادي عن إشكال تفضيل الصلح على النزاع في الخيرية مع أنّ النزاع لا خير فيه أصلاً . ومن جعل الصلح الثاني عين الأوّل غرّته القاعدة المتداولة عند بعض النحاة ، وهي : أنّ لفظ النكرة إذا أعيد معرّفاً باللام فهو عين الأولى . وهذه القاعدة ذكرها ابن هشام الأنصاري في « مغني اللبيب » في الباب السادس ، فقال : يقولون : « النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، وإذا أعيدت معرفة ، أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كانت الثانية عين الأولى » ، ثم ذكر أنّ في القرآن آيات تَرُدّ هذه الأحكام الأربعة كقوله تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوةً ثم جعل من بعد قوة ضعفاً } [ الروم : 54 ] وقوله : { أن يصّالحا بينهما صلحاً والصلح خير } [ النساء : 128 ] { زدناهم عذاباً فوق العذاب } [ النحل : 88 ] والشيء لا يكون فوق نفسه { أن النَّفْس بالنفس } [ المائدة : 45 ] { يسألك أهل الكتاب أن تُنَزّل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] ، وأنّ في كلام العرب ما يردّ ذلك أيضاً . والحقّ أنّه لا يختلف في ذلك إذا قامت قرينة على أنّ الكلام لتعريف الجنس لا لتعريف العهد ، كما هنا . وقد تقدّم القول في إعادة المعرفة نكرة عند قوله تعالى : { وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة } في سورة البقرة ( 193 ) . ويأتي عند قوله تعالى : { وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه } في سورة الأنعام ( 37 ) .

وقوله { خير } ليس هو تفضيلاً ولكنّه صفة مشبّهة ، وزنه فَعْل ، كقولهم : سَمْح وسَهْل ، ويجمع على خيور . أو هو مصدر مقابل الشرّ ، فتكون إخباراً بالمصدر . وأمّا المراد به التفضيل فأصل وزنه أفْعَل ، فخفّف بطرح الهمزة ثم قلب حركته وسكونه .

جمعه أخيار ، أي والصلح في ذاته خير عظيم . والحمل على كونه تفضيلاً يستدعي أن يكون المفضّل عليه هو النشوز والإعراض ، وليس فيه كبير معنى .

وقد دلّت الآية على شدّة الترغيب في هذا الصلح بمؤكّدات ثلاثة : وهي المصدر المؤكّد في قوله : { صلحاً } ، والإظهارُ في مقام الإضمار في قوله : { والصلح خير } ، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصفة المشبهة فإنّها تدلّ على فعللِ سَجية .

ومعنى { وأحضرت الأنفس الشحّ } ملازمة الشحّ للنفوس البشرية حتّى كأنّه حاضر لديها . ولكونه من أفعال الجبلّة بُني فعله للمجهول على طريقة العرب في بناء كلّ فعل غير معلوممِ الفاعل للمجهول ، كقولهم : شُغف بفلانة ، واضطُرّ إلى كذا .

ف« الشحّ » منصوب على أنّه مفعول ثان ل« أحضرِت » لأنّه من باب أعطَى .

وأصل الشحّ في كلام العرب البخل بالمال ، وفي الحديث " أنْ تَصّدّقَ وأنت صحيح شحيح تخشَى الفقر وتأمل الغنى " وقال تعالى : { ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون } [ الحشر : 9 ] ويطلق على حرص النفس على الحقوق وقلّة التسامح فيها ، ومنه المشاحّة ، وعكسه السماحة في الأمرين .

فيجوز أن يكون المراد بالصلح في هذه الآية صلح المال ، وهو الفدية . فالشحّ هو شحّ المال ، وتعقيب قوله : { والصلح خير } بقوله : { وأحضرت الأنفس } على هذا الوجه بمنزلة قولهم بعد الأمر بما فيه مصلحة في موعظة أو نحوها : وما إخالك تفعل ، لقصد التحريض .

ويجوز أن يكون المراد من الشحّ ما جبلت عليه النفوس : من المشاحّة ، وعدم التساهل ، وصعوبة الشكائم ، فيكون المراد من الصلح صلح المال وغيره ، فالمقصود من تعقيبه به تحذير الناس من أن يكونوا متلبّسين بهذه المشاحّة الحائلة دون المصالحة . وتقدّم الكلام على البخل عند قوله تعالى : { ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله } في سورة آل عمران ( 180 ) . وقد اشتهر عند العرب ذمّ الشحّ بالمال ، وذمّ من لا سماحة فيه ، فكان هذا التعقيب تنفيراً من العوارض المانعة من السماحة والصلح ، ولذلك ذيّل بقوله : { وإن تحسنوا وتتّقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } لما فيه من الترغيب في الإحسان والتقوى .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

- السيوطي: أخرج مالك عن رافع بن خديج أنه كانت تحته امرأة قد خلا من سنها، فتزوج عليها شابة فآثرها عليها، فأبت الأولى أن تقر، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة، وإن شئت تركتك؟ قالت: بل راجعني، فراجعها فلم تصبر على الأثرة، فطلقها أخرى وآثر عليها الشابة، فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه: {وإن امرأة خافت...}...

تفسير الشافعي 204 هـ :

إذا خافت المرأة نشوز بعلها لا بأس عليها أن يصالحا، ونشوز البعل عنها بكراهيته لها، فأباح الله تعالى له حبسها على الكره لها، فلها وله أن يصالحا، وفي ذلك دليل على أن صلحها إياه بترك بعض حقها له...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها}: علمت من زوجها {نُشُوزا}: استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها، أَثَرَة عليها، وارتفاعا بها عنها، إما لبغضة، وإما لكراهة منه بعض أشياء بها، إما دمامتها، وإما سنها وكِبَرها، أو غير ذلك من أمورها.

{أوْ إعْرَاضا}: انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه، التي كانت لها منه. {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا} يقول فلا حرج عليهما، يعني: على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضَه عنها، أن يصلحا بينهما صلحا، وهو أن تترك له يومها، أو تضع عنه بعض الواجب لها من حقّ عليه، تستعطفه بذلك، وتستديم المُقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح. يقول: {والصّلْحُ خَيْرٌ} يعني: والصلح بترك بعض الحقّ استدامة للحرمة، وتماسكا بعقد النكاح، خير من طلب الفرقة والطلاق...

واختلفت القراء في قراءة قوله: «أنْ يَصّالَحا بَيْنَهُما صُلْحا» فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة بفتح الياء وتشديد الصاد، بمعنى: أن يتصالحا بينهما صلحا، ثم أدغمت التاء في الصاد فصيرتا صادا مشددة. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: {أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا} بضم الياء وتخفيف الصاد، بمعنى: اصلح الزوج والمرأة بينهما. وأعجب القراءتين في ذلك إليّ، قراءة من قرأ: «إلاّ أنْ يَصّالَحا بَيْنَهُما صُلْحا». بفتح الياء وتشديد الصاد، بمعنى: يتصالحا، لأن التصالح في هذا الموضع أشهر وأوضح معنى وأفصح وأكثر على ألسن العرب من الإصلاح، والإصلاح في خلاف الإفساد أشهر منه في معنى التصالح. فإن ظنّ ظانّ أن في قوله: {صُلْحا} دلالة على أن قراءة من قرأ ذلك: {يُصْلِحا} بضمّ الياء أولى بالصواب، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ، وذلك أن الصلح اسم وليس بفعل فيتسدلّ به على أولى القراءتين بالصواب في قوله: {يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا}.

{وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ وإنْ تُحْسِنُوا وَتَتّقُوا فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: وأحضرت أنفس النساء الشحّ على أنصبائهن من أنفس أزواجهن وأموالهن.

وقال آخرون: معنى ذلك: وأحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة الشحّ بحقه قبَل صاحبه. لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحلله، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها، فتعطفه عليها.

وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عني بذلك: أحضرت أنفس النساء الشحّ بأنصبائهن من أزواجهن في الأيام والنفقة. والشحّ: الإفراط في الحرص على الشيء، وهو في هذا الموضع: إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها.

فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءهن من فرط الحرص على حقوقهنّ من أزواجهنّ، والشحّ بذلك على ضرائرهن.

وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من قول من قال: عني بذلك: وأحضرت أنفس الرجال والنساء الشحّ، على ما قاله ابن زيد، لأن مصالحة الرجل امرأته بإعطائه إياها من ماله جعلاً على أن تصفح له عن القسم لها غير جائزة، وذلك أنه غير معتاض عوضا من جعله الذي بذله لها، والجعل لا يصحّ إلا على عوض: إما عين، وإما منفعة. والرجل متى جَعَل للمرأة جُعْلاً على أن تصفح له عن يومها وليلتها فلم يملك عليها عينا ولا منفعة. وإذا كان ذلك كذلك، كان ذلك من معاني أكل المال بالباطل. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لا وجه لقول من قال: عني بذلك: الرجل والمرأة.

{وَإنْ تُحْسِنُوا وَتَتّقُوا}: وإن تحسنوا أيها الرجال في أفعالكم إلى نسائكم إذا كرهتم منهنّ دمامة أو خُلُقا، أو بعض ما تكرهون منهنّ بالصبر عليهنّ، وإيفائهنّ حقوقهنّ، وعشرتهنّ بالمعروف. {وتَتّقُوا}: وتتقوا الله فيهنّ بترك الجور منكم عليهنّ فيما يجب لمن كرهتموه منهنّ عليكم من القسمة له والنفقة والعشرة بالمعروف. {فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}: فإن الله كان بما تعلمون في أمور نسائكم أيها الرجال من الإحسان إليهنّ، والعشرة بالمعروف، والجور عليهنّ فيما يلزمكم لهنّ ويجب {خَبِيرا} يعني عالما خابرا، لا يخفي عليه منه شيء، بل هو به عالم، وله محص عليكم، حتى يوفيكم جزاء ذلك المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا} يحتمل أن يكون رفع الحرج عن الزوج خاصة، وإن كان مضاف إليهما؛ إذ ليس للمرأة في ترك حقها حرج، وكذلك قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (البقرة: 229) ليس على المرأة جناح في الافتداء لأنها تفتدي بمالها. ولها أن تملك على مالها من شاءت، فكأنه قال عز وجل: فلا جناح عليه في أخذ ما افتدت أو في إبطال حقها، إن رضيت...

وقوله تعالى: {وإن تحسنوا وتتقوا} في أن تعطوهن أكثر من حقهن {وتتقوا} في ألا تبخسوا من حقهن شيئا. ويحتمل: {وإن تحسنوا} في إيفاء حقهن والتسوية بينهن، {وتتقوا} الجور والميل وتفضيل بعض على بعض. ويحتمل: {وإن تحسنوا} في اتباع ما أمركم الله من طاعته {وتتقوا} عما نهاكم من معاصيه...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

هذه الآية دالّة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة، وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة...

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :

من الأوجه التي يجوز فيها الصلح: الخلع، وهو الافتداء، وذلك إذا خافت المرأة أن يبغضها زوجها فلا يوفيها حقها، فلها أن تفتدي منه ويطلقها بتراضيهما، ولا إثم عليه فيما أخذ منها...

{والصلح خير} عام في كل صلح، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا،... فإذ لا شك في هذا فلا يكون صلح يجوز إمضاؤه، إلا صلحا شهد القرآن أو السنة بجوازه...

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

{والصلح خير} من النشوز والإعراض أي إن يتصالحا على شيء خير من أن يقيما على النشوز والكراهة بينهما... {وأحضرت الأنفس الشح} أي شحت المرأة بنصيبها من زوجها وشح الرجل على المرأة بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه منها {وإن تحسنوا} العشرة والصحبة {وتتقوا} الجور والميل {فإن الله كان بما تعملون خبيرا} لا يضيع عنده شيء...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

«النشوز»: الارتفاع بالنفس عن رتبة حسن العشرة، و «الإعراض»: أخف من النشوز...

وقوله تعالى {والصلح خير} لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق... وقوله تعالى: {وإن تحسنوا} ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة وحمل خلق الزوجة والصبر على ما يكره من حالها. وتمكن الندب إلى الإحسان من حيث للزوج أن يشح فلا يحسن {وتتقوا} معناه: تتقوا الله في وصيته بالنساء، إذ هن عوان عند الأزواج حسبما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم»...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما صاروا يعطفون اليتامى أموالهم، وصاروا يتزوجون ذوات الأموال منهن ويضاجرون بعضهن؛ عقب ذلك تعالى بالإفتاء في أحوال المشاققة بين الأزواج فقال: {وإن امرأة} أي واحدة أو على ضرائر. ولما كان ظن المكروه مخوفاً قال: {خافت}... {صلحاً} بأن تلين هي بترك بعض المهر أو بعض القسم أو نحو ذلك، وأن يلين لها هو بإحسان العشرة في مقابلة ذلك...

{وإن تحسنوا} أي توقعوا الإحسان بالإقامة على نكاحكم وما ندبتم إليه من حسن العشرة وإن كنتم كارهين {وتتقوا} أي توقعوا التقوى بمجانبة كل ما يؤذي نوع أذى إشارة إلى أن الشحيح لا محسن ولا متق...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{وَإِنِ امرأة خافت} شروعٌ في بيان ما لم يُبيَّن فيما سلف من الأحكام...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

لا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا} الخوف توقع ما يكره بوقوع بعض أسبابه أو ظهور بعض أماراته،... بأن ثبت لها ذلك وتحقق ولم يكن وهما مجردا، أو وسواسا عارضا، يدل على ذلك جعل فعل الخوف المذكور، مفسرا لفعل محذوف، للاحتراس من بناء الحكم على أساس الوسوسة التي تكثر عند النساء وهو من إيجاز القرآن البديع وذلك أن المرأة إذا رأت زوجها مشغولا بأكبر العظائم المالية أو السياسية أو حل أعوص المسائل العلمية، أو بغير ذلك من المشاكل الدنيوية أو المهمات الدينية، لا تعد ذلك عذرا يبيح له الإعراض عن مسامرتها أو منادمتها، أو الرغبة عن مناغاتها ومباعلتها، والواجب عليها أن تتبين وتتثبت فيما تراه من أمارات النشوز والإعراض، فإذا ظهر لها أن ذلك لسبب خارجي لا لكراهتها والرغبة عن معاشرتها بالمعروف فعليها أن تعذر الرجل وتصبر على ما لا تحب من ذلك، وإن ظهر لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها. {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا}... وإنما يحل للرجل ما تعطيه من حقها إذا كان برضاها لاعتقادها أنه خير لها من غير أن يكون ملجئا إياها إليه بما لا يحل له من ظلمها أو إهانتها... [إذ] المقصد هو التراضي والمعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}... يؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح...

بقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ ْ} أي: جبلت النفوس على الشح... أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك. فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لقد نظم المنهج -من قبل- حالة النشوز من ناحية الزوجة؛ والإجراءات التي تتخذ للمحافظة على كيان الأسرة [وذلك في أوائل هذا الجزء] فالآن ينظم حالة النشوز والإعراض حين يخشى وقوعها من ناحية الزوج، فتهدد أمن المرآة وكرامتها، وأمن الأسرة كلها كذلك. إن القلوب تتقلب، وإن المشاعر تتغير. والإسلام منهج حياة يعالج كل جزئية فيها، ويتعرض لكل ما يعرض لها؛ في نطاق مبادئه واتجاهاته؛ وتصميم المجتمع الذي يرسمه وينشئه وفق هذا التصميم...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف لبقية إفتاء الله تعالى. وهذا حكم اختلال المعاشرة بين الزوجين، وقد تقدّم بعضه في قوله: {واللاتي تخافون نشوزهنّ} [النساء: 34] الآية، في هذه السورة، فذلك حكم فصْل القضاء بينهما، وما هنا حكم الانفصال بالصلح بينهما،... وصيغة {فلا جناح} من صيغ الإباحة ظاهراً، فدلّ ذلك على الإذن للزوجين في صلح يقع بينهما. وقد علم أنّ الإباحة لا تذكر إلاّ حيث يظنّ المنع،... ويحتمل أن تكون صيغة {لا جناح} مستعملة في التحريض على الصلح، أي إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة، فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية؛ شبّه حال من ترك الصلح واستمرّ على النشوز والإعراض بحال من ترك الصلح عن عمد لظنّه أنّ في الصلح جناحاً. فالمراد الصلح بمعنى إصلاح ذات البين، والأشهر فيه أن يقال الإصلاح. والمقصود الأمر بأسباب الصلح، وهي: الإغضاء عن الهفوات، ومقابلة الغلظة باللين، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله: {وإن يتفرّقا يغن الله كلاّ من سعته}...

والتعريف في قوله: {والصلح خير} تعريف الجنس وليس تعريف العهد، لأنّ المقصود إثبات أنّ ماهية الصلح خير للناس، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه، وليس المقصود أنّ الصلح المذكورَ آنفاً، وهو الخلع، خير من النزاع بين الزوجين، لأنّ هذا، وإنّ صحّ معناه، ألاّ أنّ فائدة الوجه الأوّل أوفر، ولأنّ فيه التفادي عن إشكال تفضيل الصلح على النزاع في الخيرية مع أنّ النزاع لا خير فيه أصلاً...

{وأحضرت الأنفس الشحّ}... هذا التعقيب تنفيراً من العوارض المانعة من السماحة والصلح، ولذلك ذيّل بقوله: {وإن تحسنوا وتتّقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً} لما فيه من الترغيب في الإحسان والتقوى...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

الواجب الديني على المرأة والرجل أن يعملا بأنفسهما على إصلاح ما بينهما فتتطامن المرأة للعاصفة ويقرب الرجل امرأته إليه، ويترك شماسه وإعراضه ويتطامن لأهله، ويعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، وإن التطامن من الرجل لزوجه لتكون العشرة على مودة ورحمة هو عين العزة فالكريم لا يذل أهله والذليل هو الذي يهين أهله، وقد لوحظ في التعبير أمور ثلاثة. أولها: أنه عبر عن طلب الصلح بقوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما} وذلك ترفق في الإيجاب، فعبر عنه بنفي الإثم لكيلا يتوهم أحدهما أن في التساهل عن بعض حقه إثما. والصلح يقتضي أن يتسامح أحد الفريقين في جزء من حقه، لينال خيرا أكثر مما تسامح فيه، فإذا تركت المرأة بعض حقها لتدوم العشرة بالمعروف فذلك لا إثم فيه. بل فيه الخير. ثانيها: أنه أكد الصلح بقوله "صلحا "للإشارة إلى أن الصلح في هذا المقام لا يكون صلحا ظاهرا، بل يكون نفسيا بحيث تتلاقى القلوب وتصفو النفوس، ويحل الوئام محل الخصام، فليس الصلح في هذه الحال إنهاء لمشكلة فقط، بل هو تلاقي القلوب على المودة والرحمة. ثالثها: أن الله تعالى أكد الصلح بقوله تعالى أولا "والصلح خير "أي أنه في ذاته خير يعم الطرفين من تسامح يناله من الخير بمقدار ما تسامح أو بأضعاف ما تسامح، فهو قد أعطى ليأخذ وتساهل لتلزم ولتدوم نعمة الزوجية...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ورتب الحق الحكم على مجرد الخوف من النشوز لا حدوث النشوز بالفعل، وهذه لفتة لكل منا ألا يترك المسائل حتى تقع، بل عليه أن يتلافى أسبابها قبل أن تقع، لأنها إن وقعت ربما استعصى عليه تداركها وإن رأت المرأة بعضا من ملامح نشوز الزوج فعليها أن تعالج الأمر...

"فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا "والصلح هنا مهمة الاثنين معا، لأن كل مشكلة لا تتعدى الرجل والمرأة يكون حلها يسيرا، والذي يجعل المشكلات صعبة هم هؤلاء الذين يتدخلون في العلاقة بين الرجل والمرأة وليس بينهما ما يبن الرجل والمرأة والرجل قد يختلف مع المرأة ويخرج من المنزل ويهدأ ويعود، فتقول له الزوجة كلمة تنهي الخلاف لكن إن تدخل أحد الأقارب فالمشكلة قد تتعقد من تدخل من لا يملك سببا أو دفعا لحل المشكلة...

وبعد ذلك يتابع الحق: "وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا" يوضح لنا سبحانه: أنا خالقكم وأعلم طبائعكم وسجاياكم وأعلم أنني عندما أطلب من المرأة أن تتنازل عن شيء من نفقتها كمهرها أو هدية الخطبة الأولى (الشبكة)، أو أن تتنازل له عن ليلتها لينام عند الزوجة الأخرى. وأعلم أن هذا قد يصعب على النفس، وكذلك يصعب على الرجل أن يتنازل عن مقاييسه إياكم أن يستولي الشح على تصرفاتكم بالنسبة لبعضكم البعض،...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

يمكننا أن نفهم أن التنازل الذي يراد من الزوجة تقديمه ليس في مقابل إقناع الزوج بالقيام بحقها الشرعي الذي فرضه الله عليه؛ فإن ذلك أمر واجب لا يتحدث القرآن عن الدخول في مفاوضات الصلح من أجله، لأن الانحراف عنه غير شرعي، بل هو في مقابل تنازل الزوج عن حقه في الطلاق، الأمر الذي يجعل الدعوة إلى الصلح، دعوةً إلى بناء الحياة الزوجية على أساس التراضي والوفاق، في الحالات التي تتحرك الظروف في اتجاه تهديمها وإزالتها من حياة الطرفين...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الصّلح خير:

لقد قلنا سابقاً في هامش الآيتين (34 و35) من نفس سورة النساء إِنّ كلمة «نشوز» مشتقة من المصدر «نشز» بمعنى «الأرض المرتفعة» وحين تستخدم هذه العبارة في شأن الرجل والمرأة تعني ذلك «التكبر» و«الطغيان».

وقد بيّنت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة، وفي هذه الآية إِشارة لنشوز الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إِذا أحست من زوجها التكبر والإِعراض عنها، وتبيّن أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها، وتتصالح مع زوجها، من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع، فتقول: (وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً).

ولمّا كانت المرأة تتنازل عن بعض حقوقها طوعاً وعن طيب خاطر ومن غير إِكراه فلا ذنب في هذا العمل، حيث عبّرت الآية عن ذلك بعبارة «فلا جناح» أي لا ذنب، للدلالة على الحقيقة المذكورة.

وعند النظر إِلى سبب نزول الآية، نستخلص منها مسألتين فقهيتين:

الأُولى: إِنّ حكماً مثل تقسيم أيّام الأُسبوع بين الزوجات، له طابع الحق أكثر من طابع الحكم، ولذلك فبإِمكان المرأة التخلي عن هذا الحق بشكل تام إِذا شاءت أو بصورة جزيئة.

والمسألة الثّانية: إِنّ التراضي والتصالح لا يشترط أن يكون بالمال، بل يصح أن يكون بالتنازل عن حق من الحقوق.

بعد ذلك تؤكد الآية على أنّ الصلح خير وأحسن، حيث تقول: (والصلح خير) وهذه الجملة الصغيرة مع أنّها جاءت في مجال الخلافات العائلية، لكنها تبيّن قانوناً كلياً عاماً شاملا، وتؤكد أنّ الصلح هو المبدأ الأوّل في كل المجالات، وأنّ الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإِنسانية السليمة، ولذلك فلا تسوغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إِلاّ في الحالات الاستثنائية الطارئة.

وهذا الأمر على عكس ما يصوّره الماديون من أنّ الصراع من أجل البقاء هو الأصل في حياة الموجودات الحيّة، ويزعمون أن التكامل يحصل من خلال هذا الصراع.

وقد كان هذا النوع من التفكير سبباً في بروز الكثير من النزاعات الدّموية والحروب في القرون الأخيرة، لكن الإِنسان لا يقاس بالحيوانات الأخرى المفترسة بسبب ما يملكه من عقل وإِحساس، وإِنّ تكامله يتمّ في ظل التعاون وليس في ظل النزاع، ومن حيث المبدأ فإِن الصراع من أجل البقاء حتى في الحيوانات لا يعتبر مبدأ مقبولا للتكامل.

وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إِلى أنّ الإِنسان بسبب غريزة حبّ الذات التي يمتلكها تحيط به أمواج البخل، بحيث أنّ كل إِنسان يسعى إِلى نيل حقوقه دون التنازل عن أقل شيء منها، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع، تقول الآية: (وأحضرت الأنفس الشح).

ولذلك فلو أحسّ كلّ من الزوجين بأنّ البخل هو منبع الكثير من الخلاف وأدركوا حقيقة البخل وأنّه من الصفات القبيحة، وسعوا لإِصلاح ذات بينهم وأبدوا العفو والصفح، فسوف لا يؤدي هذا إِلى زوال الخلاف والنزاع العائلي فحسب، بل سيؤدي أيضاً إِلى إِنهاء الكثير من الصراعات الاجتماعية.

ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم الوارد في الآية، وجه الخطاب إِليهم في نهايتها ودعوا إِلى فعل الخير والتزام التقوى، ونبهوا إِلى أنّ الله يراقب أعمالهم دائماً فليحذروا الانحراف عن جادة الحق والصواب، تقول الآية في هذا المجال: (وإِن تحسنوا وتتقوا فإِن الله كان بما تعملون خبيراً).