عاشراً : نعمة إغاثتهم بالماء بعد أن اشتد بهم العطش :
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بنعمة من أجل نعمه عليهم ، وهي إغاثتهم في التيه بالماء بعد أن اشتد بهم العطش ، فقال تعالى :
{ وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ . . . }
الاستسقاء : طلب السقيا عند عدم الماء أو حبس المطر ، وذلك عن طريق الدعاء لله - تعالى - في خشوع واستكانة ، وقد سأل موسى ربه أن يسقى بني إسرائيل الماء بعد أن استبد بهم العطش ، عندما كانوا في التيه ، فعن ابن عباس أنه قال : " كان ذلك في التيه ، ضرب له مموسى الحجر ، فصارت منه اثنتا عشرة عيناً من ماء ، لكل سبط منهم عين يشربون منها .
وهذه النعمى كانت نافعة لهم في دنياهم ؛ لأنها أزالت عنهم الحاجة الشيديدة إلى الماء ولولاه لهلكوا ، وكانت نافعة لهم في دينهم ؛ لأنها من أظهر الأدلة على وجود الله . وعلى قدرته وعلمه ، ومن أقوى البراهين على صدق موسى - عليه السلام - في نبوته .
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل وقت أن أصاب آباءكم العطش الشديد وهم في صحراء مجدبة ، فتوسل إلينا نبيهم موسى - عليه السلام - في خشوع وتضرع أن أمدهم بالماء الذي يكفيهم ، فأجبناه إلى ما طلب ، إذ أوحينا إليه أن اضرب بعصاك الحجر . ففعل ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بمقدار عدد الأسباط ، وصار لكل سيط منهم مشرب يعرفه ولا يتعداه إلى غيره ، وقلنا لهم : تمتعوا بما من الله به عليكم من مأكول طيب ومشروب هنيء رزقكم الله إياه من غير تعب ولا مشقة ، { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } فتتحول النعم التي بين أيديكم إلى نقم وتصبحوا على ما فعلتم نادمين .
وقوله تعالى : { وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ } يفيد أن الذي سأل ربه السقيا هو موسى - عليه السلام - وحده ، لتظهر كرامته عند ربه لدى قومه ، وليشاهدوا بأعينهم إكرام الله - تعالى - له ، حيث أجاب سؤاله ، وفجر الماء لهم ببركة دعائه .
واللام في قوله تعالى - { لِقَوْمِهِ } للسببية ، أي لأجل قومه .
والفاء في قوله - تعالى - { فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر } عطفت الجملة بعدها على محذوف ، والتقدير : فأجبناه إلى ما طلب ، وقلنا اضرب بعصاك الحجر .
وآل في { الحجر } لتعريف الجنس أي اضرب أي حجر شئت بدون تعيين ، وقيل للعهد ، ويكون المراد حجراً معيناً معروفاً لموسى - عليه السلام - بوحى من الله تعالى . وقد أورد المفسرون في ذلك آثاراً حكم المحققون بضعفها ولذلك لم نعتد بها .
والذي نرجحه أنها لتعريف الجنس ، لأن انفجار الماء من أي حجر بعد ضربه أظهر في إقامة البرهان على صدق موسى - عليه السلام - وأدعى لإِيمان بني إسرائيل وانصياعهم للحق بعد وضوحه ، وأبعد عن التشكيك في إكرام الله لنبيه موسى - عليه السلام - إذ لو كان انفجار الماء من حجر معين لأمكن أن يقولوا : إن تفجير الماء كان لمعنى خاص بالحجر لا لكرامة موسى عند ربه - تعالى - .
والفاء في قوله تعالى : { فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ } كسابقتها للعطف على محذوف تقديره : فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وقد حذفت هذه الجملة المقدرة لوضوح المعنى .
وكانت العيوم اثنتي عشرة عيناً ؛ لأن بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطاً ، والاسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب . وهم ذرية أبناء يعقوب - عليه السلام - الاثني عشر ، ففي انفجار الماء من اثنتي عشرة عيناً إكمال للنعمة عليهم ، حتى لا يقع بينهم تنازع وتشاجر :
وقال - سبحانه - : { فانفجرت } وقال في سورة الأعراف ( فانبجست ) والانبجاس خروج الماء بقلة . والانفجار خروجه بكثرة ، ولا تنافي بينهما في الواقع ؛ لأنه ابنجس أولا . ثم افنجر ثانياً ، وكذا العيون يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه .
وقوله تعالى : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } إرشاد وتنبيه إلى حكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عيناً أي : قد عرف كل سبط من أسباط بني إسرائيل مكان شربه ، فلا يتعداه إلى غيره ، وفي ذلك ما فيه من استقرار أمورهم ، واطمئنان نفوسهم ، وعدم تعدى بعضهم على بعض .
وقوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله } مقول لقول محذوف تقديره : وقلنا لهم : كلوا واشربوا من رزق الله .
وقد جمع - سبحانه - بين الأكل والشرب - وإن كان الحديث عن الشراب - لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى ، وقد قيل هنالك : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } فلما أتبع ذلك بنعمة تفجير الماء لهم اجتمعت المنتان .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } تحذير لهم من البطر والغرور واستعمال النعمى في غير ما وضعت له ، بعد أن أذن لهم في التمتع بالطيبات ، لأن النعمى عندما تكثر قد تنسى العبد حقوق خالقه فيهجر الشريعة ، ويعيث في الأرض فساداً . قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى . أَن رَّآهُ استغنى } والمعنى : ولا تسعوا في الأرض مفسدين ، وتقابلوا النعم بالعصيان فتسلب عنكم قال ابن جرير - رحمه الله - : ( وأصل العثا شدة الإِفساد بل هو أشد الإِفساد ، يقال منه : عثى فلان في الأرض : إذا تجاوز الحد في الإِفساد إلى غايته ، يعثى ، عثاً مقصوراً ، ويقال للجماعة يعثون . . ) .
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى ، عليه السلام ، حين استسقاني لكم ، وتيسيري لكم الماء ، وإخراجه لكم من حَجَر يُحمل معكم ، وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينًا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها ، فكلوا من المن والسلوى ، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد ، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك . { وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ } ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها . وقد بسطه المفسرون في كلامهم ، كما قال ابن عباس : وجُعِل بين ظهرانيهم حجر مربَّع وأمر موسى ، عليه السلام ، فضربه بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ، في كل ناحية منه ثلاث{[1879]} عيون ، وأعلم كل سبط عينهم ، يشربون منها لا يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك معهم{[1880]} بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول .
وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وهو حديث الفتون الطويل{[1881]} .
وقال عطية العوفي : وجُعل لهم حجر مثل رأس الثور يحمل على ثور ، فإذا نزلوا منزلا وضعوه فضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ، فإذا ساروا حملوه على ثور ، فاستمسك الماء .
وقال عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه : كان لبني إسرائيل حجر ، فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا .
وقال قتادة : كان حجرًا طوريًا ، من الطور ، يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه .
[ وقال الزمخشري : وقيل : كان من رخام وكان ذراعًا في ذراع ، وقيل : مثل رأس الإنسان ، وقيل : كان من أسس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى . وله شعبتان تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار ، قال : وقيل : أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه ، حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا ، وقيل : هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل ، فقال له جبريل : ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته . قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد ، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ، وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجرًا بعينه ، قال : وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس ، فقالوا : إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا ، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون ]{[1882]} .
وقال يحيى بن النضر : قلت لجويبر : كيف علم كل أناس مشربهم ؟ قال : كان موسى يضع الحجر ، ويقوم من كل سبط رجل ، ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا فينضح من كل عين على رجل ، فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين .
وقال الضحاك : قال ابن عباس : لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهارًا .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ذلك في التيه ، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه{[1883]} اثنتا عشرة عينًا من ماء ، لكل سِبْط منهم عين يشربون منها .
وهذه القصة شبيهة بالقصة المذكورة في سورة الأعراف ، ولكن تلك مكية ، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب ؛ لأن الله تعالى يقص ذلك{[1884]} على رسوله صلى الله عليه وسلم عما فعل بهم . وأما في هذه السورة ، وهي البقرة فهي{[1885]} مدنية ؛ فلهذا كان الخطاب فيها متوجهًا إليهم . وأخبر هناك بقوله : { فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } [ الأعراف : 160 ] وهو أول الانفجار ، وأخبر هاهنا بما آل إليه الأمر{[1886]} آخرًا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار{[1887]} هاهنا ، وذاك هناك ، والله أعلم .
وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الرازي في تفسيره وأجاب عنها بما عنده ، والأمر في ذلك قريب والله تبارك وتعالى أعلم بأسرار كتابه .
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 60 )
{ وإذ } متعلقة بفعل مضمر تقديره اذكر ، و { استسقى } معناه طلب السقيا ، وعرف استفعل طلب الشيء ، وقد جاء في غير ذلك كقوله تعالى : { واستغنى الله }( {[655]} ) [ التغابن : 6 ] بمعنى غني ، وقولهم : استعجب بمعنى عجب ، ومثل بعض الناس في هذا بقولهم استنسر البغاث( {[656]} ) ، واستنوق الجمل ، إذ هي بمعنى انتقل من حال إلى حال( {[657]} ) ، وكان هذا الاستسقاء في فحص التيه ، فأمره الله تعالى بضرب الحجر آية منه ، وكان الحجر من جبل الطور ، على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق( {[658]} ) ويرحل به ، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم وضربه موسى عليه السلام ، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى ، وهذا أعظم في الآية ، ولا خلاف أنه كان حجراً منفصلاً مربعاً تطرد( {[659]} ) من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى صلى الله عليه وسلم ، وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون ، وفي الكلام حذف تقديره فضربه { فانفجرت } ، والانفجار انصداع شيء عن شيء ، ومنه الفجر ، والانبجاس في الماء أقل من الانفجار( {[660]} ) .
و { اثنتا } معربة( {[661]} ) دون أخواتها لصحة معنى التثنية ، وإنما يبنى واحد مع واحد ، وهذه إنما هي اثنان مع واحد ، فلو بنيت لرد ثلاثة واحداً( {[662]} ) ، وجاز اجتماع علامتي التأنيث في قوله { اثنتا عشرة } لبعد العلامة من العلامة ، ولأنهما في شيئين ، وإنما منع ذلك في شيء واحد ، نحو مسلمتات( {[663]} ) وغيره .
وقرأ ابن وثاب وابن أبي ليلى وغيرهما : «عَشِرة » بكسر الشين ، وروي ذلك عن أبي عمرو ، والأشهر عنه الإسكان ، وهي لغة تميم ، وهو نادر ، لأنهم يخففون كثيراً ، وثقلوا في هذه ، وقرأ الأعمش «عشَرة » بفتح الشين وهي لغة ضعيفة ، وروي عنه كسرها وتسكينها ، والإسكان لغة الحجاز .
و { عيناً } نصب على التمييز ، والعين اسم مشترك ، وهي هنا منبع الماء .
و { أناس } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ومعناه هنا كل سبط ، لأن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب ، وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب السلام .
والمشرب المفعل موضع الشرب ، كالمشرع موضع الشروع في الماء ، وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها ، وفي الكلام محذوف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المنفجر من الحجر المنفصل ، وبهذه الأحوال( {[664]} ) حسنت إضافة الرزق إلى الله تعالى ، وإلا فالجميع رزقه وإن كان فيه تكسب للعبد .
{ ولا تعثوا } معناه ولا تفرطوا في الفساد ، يقال عثى الرجل يعثي وعثي يعثى عثياً إذا أفسد أشد فساد ، والأولى هي لغة القرآن والثانية شاذة وتقول العرب عثا يعثو عثواً ولم يقرأ بهذه اللغة لأنها توجب ضم الثاء من { تعثوا } ، وتقول العرب عاث يعيث إذا أفسد ، وعث يعث كذلك ، ومنه عثة( {[665]} ) الصوف ، وهي السوسة التي تلحسه .
و { مفسدين } حال ، وتكرر المعنى لاختلاف اللفظ ، وفي هذه الكلمات( {[666]} ) إباحة النعم وتعدادها ، والتقدم في المعاصي والنهي عنها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
" وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ": وإذ استسقانا موسى لقومه: أي سألنا أن نسقي قومه ماء. فترك ذكر المسؤول ذلك، والمعنى الذي سأل موسى، إذ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك. وكذلك قوله: "فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا "مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه. وذلك أن معنى الكلام، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر، فضربه فانفجرت. فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه. وكذلك قوله: "قَدْ عَلِمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ" إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم، فترك ذكر (منهم) لدلالة الكلام عليه. وقد دللنا فيما مضى على أن الناس جمع لا واحد له من لفظه، وأن الإنسان لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية. وقوم موسى هم بنو إسرائيل الذين قصّ الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات، وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه.
" قَدْ عَلِمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ": فإنما أخبر الله عنهم بذلك، لأن معناهم في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أن تأويل الكلام: فَقُلْنَا اضْرِبْ بعَصَاكَ الحَجَرَ فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، فقيل لهم: "كلوا واشربوا من رزق الله"؛ أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المنّ والسلوى، وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور الذي لا قرار له في الأرض ولا سبيل إليه لمالكيه يتدفق بعيون الماء ويزخر بينابيع العذب الفرات بقدرة ذي الجلال والإِكرام، ثم تقدم جل ذكره إليهم مع إباحتهم ما أباح وإنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء، بالنهي عن السعي في الأرض فسادا والعثا فيها استكبارا فقال جل ثناؤه لهم: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين".
{ولا تعثوا في الأرض مفسدين}: يعني بقوله لا تعثوا: لا تطغوا ولا تسعوا في الأرض مفسدين... وأصل العثا: شدة الإفساد، بل هو أشد الإفساد، يقال منه عثى فلان في الأرض إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَقُلْنَا اضْرِب بعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَا}... والانفجارُ: الانشقاق، والانبجاسُ أضيق منه، لأنه يكون انبجاساً ثم يصير انفجاراً. والعين من الأسماء المشتركة: فالعين من الماء مُشَبَّهَةٌ بالعين من الحيوان، لخروج الماء منها، كخروج الدمع من عين الحيوان. فأمر موسى عند استسقائه، أن يضرب بعصاه حجراً... فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً...
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} يعني أن لكلِّ سبطٍ منهم عيناً، قد عرفها لا يشرب من غيرها، فإذا ارتحلوا انقطع ماؤه...
{وَلاَ تَعْثَوْا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ} فيه تأويلان:
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... عطشوا في التيه، فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له: {اضرب بّعَصَاكَ الحجر} واللام... للجنس، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر. وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة...
والعثيّ: أشدّ الفساد، فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر، وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وحسبك به، فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد، فأنَّى نسقى، لكن قد قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا) الحديث...
[و] سنة الاستسقاء الخروج إلى المصلى... والخطبة والصلاة، وبهذا قال جمهور العلماء
قلت: ما أوتي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة، فإنا نشاهد الماء يتفجر من الأحجار آناء الليل وآناء النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم يخرج الماء من بين لحم ودم. روى الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد ماء فأتي بتَوْرٍ، فأدخل يده فيه فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه ويقول: (حي على الطهور) قال الأعمش: فحدثني سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال ألفا وخمسمائة. لفظ النسائي.
قوله تعالى:"كلوا واشربوا من رزق الله" في الكلام حذف تقديره، وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر المنفصل...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا بيان لحال آخر من أحوال بني إسرائيل في هجرتهم وعناية الله تعالى بهم فيها. أصابهم الظمأ فعادوا على موسى باللائمة أن أخرجهم من أرض مصر الخصبة المتدفقة بالأمواه، وكانوا عند كل ضيق يمنون عليه أن خرجوا معه من مصر ويجهرون بالندم. فاستغاث موسى بربه واستسقاه لقومه كما قصه الله تعالى علينا بقوله {وإذ استسقى موسى لقومه} أي طلب السقيا لهم من الله تعالى {فقلنا اضرب بعصاك الحجر} قال الأستاذ الإمام: أمره أن يضرب بعصاه حجرا من حجارة تلك الصحراء بتلك العصا التي ضرب بها البحر فضربه {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} بعدد أسباطهم وذلك قوله عز وجل {قد علم كل أناس مشربهم}.
(قال) وكون هذا الحجر هو الذي روي أنه تدحرج بثوب موسى يوم كان يغتسل كما قال المفسر (الجلال) لا دليل عليه، وقصة الثوب ليست في القرآن فيحمل تعريف الحجر على أنه المعهود في القصة، وإنما يفهم التعريف أن الحجر الذي ضرب فتفجرت منه المياه حجر مخصوص له صفات تميزه عندهم ككونه صلبا أو عظيما تتسع مساحته لتلك العيون ويصلح أن تكون منه موارد لتلك الأمم [أو كونه يقع تحت أعينهم منفردا عن غيره ليس في محلتهم سواه، وقد يكون التعريف للدلالة على الجنس ليفيدنا بُعد المرغوب عن التناول، وعظمة القدرة الإلهية وأثرها الجليل في تقريبه وتحصيله] ...
... ولو علم الله تعالى أن لنا فائدة في أكثر مما دل عليه هذا الخطاب من التعيين لما تركه.
ثم أراد أن يصور حال بني إسرائيل في هذه النعمة واغتباطهم بما منحهم من العيش الرغد في مهاجرهم فقال {كلوا واشربوا من رزق الله} فعبر عن الحال الماضية بالأمر ليستحضر سامع الخطاب أولئك القوم في ذهنه ويتصور اغتباطهم بما هم فيه حتى كأنهم حاضرون والآن والخطاب يوجه إليهم. وهذا ضرب من ضروب إيجاز القرآن التي لا تجارى ولا تمارى ثم قال {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي لا تنشروا فسادكم في الأرض وتكونوا في الشرور قدوة سيئة للناس. يقال عثا إذا نشر الشر والفساد وأثار الخبث فهو أخص من مطلق الإفساد ولذلك مع كون "مفسدين "حالا من ضمير "تعثوا".
قال الأستاذ الإمام: إن كثيرا من أعداء القرآن يأخذون عليه عدم الترتيب في القصص ويقولون هنا إن الاستسقاء وضرب الحجر كان قبل التيه وقبل الأمر بدخول تلك القرية فذكرها هنا بعد تلك الوقائع. والجواب عن هذه الشبهة يفهم مما قلناه مرارا في قصص الأنبياء والأمم الواردة في القرآن. وهو أنه لم يقصد بها التاريخ وسرد الوقائع مرتبة بحسب أزمنة وقوعها وإنما المراد بها الاعتبار والعظة ببيان النعم متصلة بأسبابها لتطلب بها. وبيان النقم بعللها لتتقى من جهتها. ومتى كان هذا هو الغرض من السياق فالواجب أن يكون ترتيب الوقائع في الذكر على الوجه الذي يكون أبلغ في التذكير وأدعى إلى التأثير.
إن الباحثين في التاريخ لهذا العهد قد رجعوا إلى هذا الأسلوب في التقديم والتأخير وقالوا ستأتي أيام يستحيل فيها ترتيب الحوادث والقصص بحسب تواريخها لطول الزمن وكثرة النقل مع حاجة الحاضرين. وقالوا إن الطريق إلى ذلك هو أن ننظر في كل حادثة من حوادث الكون كالثورات والحروب وغيرها ونبين أسبابها ونتائجها من غير تفصيل ولا تحديد لجزئيات الوقائع بالتاريخ، فإن ترتيب الوقائع هو من الزينة في وضع التأليف فلا يتوقف عليه الاعتبار، بل ربما يصد عنه بما يكلف الذهن من ملاحظته وحظه – هذا ضرب من ضروب الإصلاح العلمي جاء به القرآن وأيده سير الاجتماع في الإنسان.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كان بنو إسرائيل يعيشون مع موسى عليه السلام في معجزات حسية مستمرة، ولو كانت قوة الدليل وحسيته سببا للإيمان لكان بنو إسرائيل أشد الناس إيمانا وأقواهم يقينا، ولكن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلوب الأتقياء فيدركون الحق، ويذعنون له، ويطمئنون إليه. وقد أرانا الله تعالى آياته في بني إسرائيل، فكلما أتاهم بدليل وكلما أتتهم آية كفروا بها، فلو كانوا يذعنون للحق لأذعنوا لبعض هذه الآيات، ولكنهم قوم معاندون، مناقضون الحس.
شكوا إلى موسى أنهم لا يجدون الماء الذي يشربونه فاتجه موسى إلى ربه ضارعا يطلب الماء، ولذا قال تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه}.
وإذ – كما ذكرنا – دالة على الوقت، والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي استسقى فيه موسى لكم، تذكروا عطشكم في ذلك الوقت، وكيف استسقى موسى ربه لأجلكم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يضرب بعصاه الحجر، فضرب، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، هي بقدر عدد الأسباط أولاد يعقوب عليه السلام، وذريتهم من بعدهم، اذكروا ذلك وتذكروه، فإنه معجزة من الله تعالى. فكان لكل سبط عينه، يشرب منها هو ومن معه من سبطه لكيلا يتزاحم على الماء، فينال الماء القوي، ويضيع الضعيف، واستسقى؛ السين والتاء للطلب، أو السؤال، والاستسقاء الضراعة إلى الله تعالى أن ينزل الماء، فهذا الاستسقاء عبادة لأنه دعاء الله تعالى ضارعا إليه أن ينزل عليه الماء، والدعاء المتضرع عبادة، في ذاته، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جف المطر، وأجدبت الأرض استسقى.. فقد خرج إلى المصلى متواضعا، متذللا متوسلا متضرعا ودعا ربه أن يسقى المطر، فنزل مدرارا، حتى خشي الناس أن يضر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم حوالينا، ولا علينا) 146.
ولما استسقى موسى عليه السلام لم ينزل عليه مطر، ولكن قال له ربه: {اضرب بعصاك الحجر} والعصا هي آية الله تعالى، ومعجزة موسى التي انقلبت حية تسعى، والتي بها ضرب البحر فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ضرب بها الحجر، ولم يكن حجرا معينا له صفات ذاتية، بل إنه للعهد الذهني الذي ينطبق عليه اسم الحجر، كما تقول ادخل السوق، فالمراد أي شيء ينطبق عليه اسم السوق، ضرب موسى عليه السلام الحجر {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} انفجرت: انشقت، وخرجت من الحجر اثنتا عشرة عينا، والعين هي الموضع الذي يخرج منه كعين زمزم، فماء العيون لا يكون من السماء كالمطر، ولكن يكون من الأرض، أو الحجر، كما رأينا ما فعلته عصا موسى عليه السلام؛ وهنا ثلاث معجزات خارقة للعادة:
الأولى: ضرب الحجر بالعصا، فينبثق منه الماء، وهذه معجزة العصا.
والثانية: أن الضرب في الحجر الذي لا يخرج منه الماء عادة، ولا يعلم أن الماء ينبع من الأحجار، ولكن من الأرض اللينة التي لا تكون حجرا متماسكا، وقد يخرج ماء العيون من الجبال ولكن يكون من شقوق يخرج منها لا من ذات الحجر، أما الذي يخرج من ذات الحجر فإنه خاص بمعجزة موسى عليه السلام.
الثالثة كون الماء يخرج اثنتا عشرة عينا على قدر عدد الأسباط، و {قد علم كل أناس مشربهم} أي مكان شربهم، أي العين التي خصصت لهم، وقد كان الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه مكعبا له أربعة جوانب ظاهرة على الأرض، فكان في كل جانب قد انبثق فيه ثلاث عيون، فيكون عددها في كل اثنتا عشرة عينا، وعلم كل أناس العين التي يشربون منها، فكان لكل سبط منهم ثلاث عيون.
وإن هذا التوزيع بينهم لا يفرق، ولكنه يجمعهم، فالعدل يجمع ولا يفرق، وفوق ذلك فيه تسهيل للتناول فلا يتزاحمون ولا يتنازعون ولا يضيع الضعيف بينهم.
وقد بين الله تعالى أن الماء مباح لهم، كما أبيح لهم الطعام؛ ولذا قال تعالى: {كلوا واشربوا} أي أنه أبيح لهم الأكل من المن والسلوى، كما ذكرنا آنفا، أو أبيح لهم أن يأكلوا من ثمرات هذا الماء الذي يجيء إليهم من هذه العيون التي تفيض في الأرض غير مقطوعة، ولا ممنوعة.
وإن النعمة إذا كثرت على أمثال بني إسرائيل كانت مظنة الفساد، ولذا قال تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60)} العثو، من عثى يعثى بمعنى أفسد، أو بمعنى أضاع كل ما فيه من خير، فاعتدى على حق غيره، فيعثون يشمل كل فعل يؤدي إلى الاضطراب والإفزاع ومنع الخير، ويتقارب من معنى العبث، ويكون قوله تعالى: {مفسدين} ليس تكرارا للفظ لا تعثوا أو تأكيدا، إنما هو لبيان العثو، وهو القصد إلى الإفساد، فمفسدين معناها قاصدين إلى الإفساد.