ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان القسم الرابع من أقسام المؤمنين في العهد النبوى فقال : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ . . } .
أى : والذين آمنوا من بعد المؤمنين السابقين إلا الإيمان والهجرة ، وهاجروا إلى المدينة ، وجاهدوا مع المهاجرين السابقين والأنصار من أجل إعلاء كملة الله ، فأولئك الذين هذا شأنهم { مِنكُمْ } أى : من جملتكم - أيها المهاجرون والأنصار في استحقاق الموالاة والنصرة ، واستحقاق الأجر من الله ، إلا أن هذا الأجر ينقص عن أجركم ، لأنه لا يتساوى السابق في الإِيمان والهجرة والجهاد مع المتأخر في ذلك .
قالوا : والمراد بهذا القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، أهل الهجرة الثانية التي وقعت بعد الهجرة الأولى ، وقيل المرد بهذا القسم المهاجرون بعد صلح الحديبية ، أو بعد غزوة بدر ، أو بعد نزول هذه الاية ، فيكون الفعل الماضى { آمَنُواْ } وما بعده بمعنى المستقبل .
وقوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله . . } بيانا لحقوق الأقارب بالنسب .
والأرحام جمع رحم ، وأصله رحم المرأة الذي هو موضع تكوين الولد في بطنها ، وسمى به الأقارب ، لأنهم في الغالب من رحم واحدة وأولا الأرحام في اصطلاح علماء الفرائض : هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب .
أى : وذوو القرابة بعضهم أولى في التوارث وفى غير ذلك مما تقتضيه مطالب الحياة من التكافل والتراحم .
وقوله : { فِي كِتَابِ الله } أى : في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين ، وأوجب به عليهم صلة الأرحام في هذه الآية وغيرها .
قال الآلوسى : " أخرج الطيالسى والطبرانى وغيرها عن ابن عباس قال : آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه ، وورث بعضعه من بعض حتى نزلت هذه الآية فتكروا ذلك وتوارثوا بالنسب .
أى أن هذه الآية الكريمة نسخت ما كان بين المهاجرين والانصار من التوارث بسبب الهجرة والمؤاخاة .
وقوله : { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تذييل ختمت به السورة الكريمة لحض المؤمنين على التمسك بما اشتملت عليه من آداب وتشريعات وأحكام لينالوا رضاه وثوابه .
أى : إن الله - تعالى - مطلع على كل شئ مما يدور ويجرى في هذا الكون ، ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء ، وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت المهاجرين والأنصار مدحا عظيما ، كما مدحت المؤمنين من بعدهم ، وحضت على الجهاد في سبيل الله ، وأمرت بالوفاء بالعهود ، وبالوقوف صفا واحدا في وجه الكفار حتى تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
وبعد : فهذا ما وفق الله إليه في تفسيره سورة الأنفال ، أو سورة بدر - كما سماها ابن عباس - لأنها تحدثت باستفاضة عن أحداث هذه الغزوة وعن أحوال المشتركين فيها ، وعن باشارت النصر التي تقدمتها وصاحبتها وعن غنائمها وأسراها .
كما تحدثت عن صافت المؤمنين الصادقين ، وعن الأقوال والأعمال التي يجب عليهم أن يتمسكوا بها لينالوا رضا الله ونصره ، وعن رذائل المشركين ومسالكهم القبيحة لمحاربة الدعوة الاسلامية ، وعن المبادئ التي جيب أن يسير عليهم المسلمون في حربهم وسلمهم ، وعن سنن الله في خلقه التي لا تتغير ولا تتبدل ، والتى من أهمها :
أنه - سبحانه - لا يسلب نعمة عن قوم إلا بسبب معاصيهم وتنكبهم الطريق القويم ، قال - تعالى - :
{ ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } وأنه - سبحانه - قد جعل العاقبة الحسنة للمؤمنين ، والعاقبة السيئية للفاسقين ، وأخبر المنمحرفين عن صراطه بأنه سيغفر لهم ما سلف من خطاياهم متى أقلعوا عنها ، وأخلصوا له العبادة .
قال - تعالى - { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وختاما : نسأل الله - تعالى - أن يوفقنا للمداومة على خدمة كتابه ، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا ، وأن يتم لنا نورنا ويغفر لنا إنه على كل شئ قدير .
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا ، عطف بذكر ما لهم في الآخرة ، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان ، كما تقدم في أول السورة ، وأنه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوب إن كانت ، وبالرزق الكريم ، وهو الحسن الكثير الطيب الشريف ، دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي ، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه .
ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الآية [ التوبة : 100 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] وفي الحديث المتفق عليه ، بل المتواتر من طرق صحيحة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المرء مع من أحب " ، وفي الحديث الآخر : " من أحب قوما حُشر معهُم " {[13215]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة " . قال شريك : فحدثنا الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن هلال ، عن جرير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
تفرد به أحمد من هذين الوجهين{[13216]}
وأما قوله تعالى : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } أي : في حكم الله ، وليس المراد بقوله : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة ، الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة ، بل يُدْلون بوارث ، كالخالة ، والخال ، والعمة ، وأولاد البنات ، وأولاد الأخوات ، ونحوهم ، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية ، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة ، بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات . كما نص ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة وغير واحد : على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أو لا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص . ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصِيَّة لوارث " ، قالوا : فلو كان ذا حق لكان له فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا ، والله أعلم .
آخر [ تفسير ]{[13217]} سورة " الأنفال " ، ولله الحمد والمنة ، وعليه{[13218]} [ الثقة و ]{[13219]} التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل .
ثم ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهن ويتسم بسمتهم فقال : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار . { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } في التوارث من الأجانب . { في كتاب الله } في حكمه ، أو في اللوح أو في القرآن واستدل به على توريث ذوي الأرحام . { إن الله بكل شيء عليم } من المواريث والحكمة في إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة ، أولا واعتبار القرابة ثانيا .
وقوله تعالى : { وجاهدوا معكم } لفظ يقتضي أنهم تبع لا صدر ، قوله { فأولئك منكم } كذلك ، ونحوه قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مولى القوم منهم{[5495]} وابن أخت القوم منهم »{[5496]} ، وقوله { وأولو الأرحام }{[5497]} إلى آخر السورة ، قال من تقدم ذكره هي في المواريث وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره من أن يرث المهاجري الأنصاري ، ووجب بهذه الآية الأخيرة أن يرث الرجل قريبه وإن لم يكن مهاجراً معه ، وقالت فرقة منها مالك بن أنس رحمه الله : إن الآية ليست في المواريث ، وهذا ِفرار عن توريث الخال والعمة ونحو ذلك ، وقالت فرقة : هي في المواريث إلا أنها نسخت بآية المواريث المبينة ، وقوله { في كتاب الله } ، معناه القرآن أي ذلك مثبت في كتاب الله ، وقيل المعنى في كتاب الله السابق في اللوح المحفوظ ، و { عليم } صفة مناسبة لنفوذ هذه الأحكام ، كمل تفسير سورة الأنفال .
{ { والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم }
بعد أن منع الله ولاية المسلمين للذين آمنوا ولم يهجروا بالصراحة ، ابتداءً ونفى عن الذين لم يهاجروا تحقيق الإيمان ، وكان ذلك مثيراً في نفوس السامعين أن يتساءلوا هل لأولئك تمكن من تدارك أمرهم بِرأبِ هذه الثَّلمة عنهم ، ففتح الله باب التدارك بهذه الآية : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } .
فكانت هذه الآية بياناً ، وكان مقتضى الظاهر أن تكون مفصولة غير معطوفة ، ولكن عدل عن الفصل إلى العطف تغليباً لمقام التقسيم الذي استوعبته هذه الآيات .
ودخول الفاء على الخبر وهو { فأولئك منكم } لتضمين الموصول معنى الشرط من جهة أنّه جاء كالجواب عن سؤال السائِل ، فكأنّه قيل : وأمّا الذين آمنوا من بعد وهاجروا الخ ، أي : مهما يكن من حال الذين آمنوا ولم يهاجروا ، ومن حال الذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا ، ف { الذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } وبذلك صار فعل { آمنوا } تمهيداً لما بعده من { هاجروا وجاهدوا } لأن قوله : { من بعد } قرينة على أنّ المراد : إذا حصل منهم ما لم يكن حاصلاً في وقت نزول الآيات السابقة ، ليكون أصحاب هذه الصلة قسماً مغايراً للأقسام السابقة . فليس المعنى أنّهم آمنوا من بعد نزول هذه الآية ، لأنّ الذين لم يكونوا مؤمنين ثم يؤمنون من بعد لا حاجة إلى بيان حكم الاعتداد بإيمانهم ، فإنّ من المعلوم أنّ الإسلام يجُبُّ ما قبَله ، وإنّما المقصود : بيان أنّهم إن تداركوا أمرهم بأن هاجروا قُبلوا وصاروا من المؤمنين المهاجرين ، فيتعيّن أنّ المضاف إليه المحذوفَ الذي يشير إليه بناء { بعدُ } على الضمّ أن تقديره : من بعد ما قلناه في الآيات السابقة ، وإلاّ صار هذا الكلام إعادة لبعض ما تقدّم ، وبذلك تسقط الاحتمالات التي تردّد فيها بعض المفسّرين في تقدير ما أضيف إليه ( بعد ) .
وفي قوله : { معكم } إيذان بأنّهم دُون المخاطبين الذين لم يستقرّوا بدار الكفر بعد أن هاجر منها المؤمنون ، وأنّهم فرطوا في الجهاد مدة .
والإتيان باسم الإشارة للذين آمنوا من بعدُ وهاجروا ، دون الضمير ، للاعتناء بالخبر وتمييزهم بذلك الحكم .
و« من » في قوله : { منكم } تبعيضية ، ويعتبر الضمير المجرور بمن ، جماعة المهاجرين أي فقد صاروا منكم ، أي من جماعتكم وبذلك يعلم أنّ ولايتهم للمسلمين .
{ وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } .
قال جمهور المفسّرين قوله : { فأولئك منكم } أي مثلكم في النصر والموالاة ، قال مالك : إنّ الآية ليست في المواريث ، وقال أبو بكر بن العربي : قوله : { فأولئك منكم } « يعني في الموالاة والميراث على اختلاف الأقوال ، أي اختلاف القائلين في أنّ المهاجر يرث الأنصاري والعكس ، وهو قول فرقة .
وقالوا : إنّها نسخت بآية المواريث .
عطف جملة على جملة فلا يقتضي اتّحاداً بين المعطوفة والمعطوف عليها ، ولكن وقوع هذه الآية بإثر التقاسيم يؤذن بأنّ لها حظّاً في إتمام التقسيم ، وقد جعلت في المصاحف مع التي قبلها آية واحدة .
فيظهر أنّ التقاسيم السابقة لمّا أثبتت ولاية بين المؤمنين ، ونفت ولايةً من بينهم وبين الكافرين ، ومِن بينهم وبين الذين آمنوا ولم يهاجروا حتّى يهاجروا ، ثم عادت على الذين يهاجرون من المؤمنين بعد تقاعسهم عن الهجرة بالبقاء في دَار الكفر مدّة ، فبيّنت أنّهم إن تداركوا أمرهم وهاجروا يدخلون بذلك في ولاية المسلمين ، وكان ذلك قد يشغل السامعين عن وَلاية ذوي أرحامهم من المسلمين ، جاءت هذه الآية تذكّر بأنّ ولاية الأرحام قائمة وأنّها مرجّحة لغيرها من الولاية فموقعها كموقع الشروط ، وشأن الصفات والغايات بعد الجُمل المتعاطفة أنّها تعود إلى جميع تلك الجمل ، وعلى هذا الوجه لا تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضته الآيات قبلها من الولاية بين المهاجرين والأنصار بل مقيّدةً الإطلاقَ الذي فيها .
وظاهر لفظ { الأرحام } جَمْعُ رَحِم وهو مقّر الولد في بطن أمّه ، فمن العلماء من أبقاه على ظاهره في اللغة ، فجعل المراد من أولي الأرحام ذوي القرابة الناشئة عن الأمومة ، وهو ما درج عليه جمهور المفسّرين ، ومنهم من جعل المراد من الأرحام العصابات دون المولودين بالرحم . قاله القرطبي ، واستدلّ له بأنّ لفظ الرحم يراد به العصابة ، كقول العرب في الدعاء « وصلتْك رحم » ، وكقول قُتَيّلة بنتتِ النضر بن الحارث :
ظَلّتْ سيوف بني أبيه تَنوشه *** للَّه أرحام هناك تمزّق
حيث عَبرت عن نَوش بني أبيه بتمزيق أرحام .
وعُلم من قوله : { أولى } هو صيغة تفضيل أنّ الولاية بين ذوي الأرحام لا تعتبر إلا بالنسبة لمحلّ الولاية الشرعية فأولوا الأرحام أوْلى بالولاية ممّن ثبتت لهم ولاية تامّة أو ناقصة كالذين آمنوا ولم يهاجروا في ولاية النصر في الدين إذا لم يقم دونها مانع من كفر أو ترك هجرة ، فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء ولاية الإيمان ، وأولو الأرحام منهم بعضهم لبعض أولياء ولايةَ النسب ، ولولاية الإسلام حقوق مبيّنة بالكتاب والسنّة ، ولولاية الأرحام حقوق مبيّنة أيضاً ، بحيث لا تُزاحم إحدى الولايتين الأخرى ، والاعتناءُ بهذا البيان مؤذن بما لوشائج الأرحام من الاعتبار في نظر الشريعة ، فلذلك عَلقت أولوية الأرحام بأنّها كائنة في كتاب الله أي في حكمه .
وكتابُ الله قضاؤه وشرعه ، وهو مصدر ، إمّا باق على معنى المصدرية ، أو هو بمعنى المفعول ، أي مكتوبة كقول الراعي :
وجَعْلُ تلك الأولوية كائنة في كتاب الله كنايةٌ عن عدم تعبيره ، ا لأنّهم كانوا إذا أرادوا توكيد عهد كتبوه . قال الحارث بن حِلَّزة :
حَذر الجَوْر والتَّطَاخِي وهل ينْ *** قُض ما في المهارق الأهواء
فتقييد أولوية أولي الأرحام بأنّها في كتاب الله للدلالة على أنّ ذلك حكم فطري قدّره الله وأثبته بما وضع في الناس من الميل إلى قراباتهم ، كما ورد في الحديث : « إن الله لما خلق الرحِمَ أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت : هذا مقام العائذِ بك من القَطيعة » الحديثَ . فلمّا كانت ولاية الأرحام أمراً مقرراً في الفطرة ، ولم تكن ولاية الدين معروفة في الجاهلية بيّن الله أنّ ولاية الدين لا تُبطل ولاية الرحم إلاّ إذا تعارضتا ، لأنّ أواصر العقيدة والرأي أقوى من أواصر الجسد ، فلا يغيّره ما ورد هنا من أحكام ولاية الناس بعضهم بعضاً ، وبذلك الاعتبار الأصلي لولاية ذوي الأرحام كانوا مقدمين على أهل الولاية ، حيث تكون الولاية ، وينتفي التفضيل بانتفاء أصلها ، فلا ولاية لأولي الأرحام إذا كانوا غير مسلمين .
واختلف العلماء في أنّ ولاية الأرحام هنا هل تشمل ولاية الميراث : فقال مالك بن أنس هذه الآية ليست في المواريث أي فهي ولاية النصر وحسن الصحبة ، أي فنقصر على موردها ولم يرها مساوية للعام الوارد على سبب خاصّ إذ ليست صيغتها صيغة عموم ، لأن مناط الحكم قوله : { أولى ببعض } .
وقال جماعة تشمل ولاية الميراث ، ثم اختلفوا فمنهم من قال : نُسِخت هذه الولاية بآية المواريث ، فبطل توريث ذوي الأرحام بقول النبي صلى الله عليه وسلم « ألْحِقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأِوْلى رجلٍ ذَكَرٍ » فيكون تخصيصاً للعموم عندهم .
وقال جماعة يرث ذوو الأرحام وهم مقدمون على أبناء الأعمام ، وهذا قول أبي حنيفة وفقهاء الكوفة ، فتكون هذه الآية مقيِّدة لإطلاق آية المواريث ، وقد علمت ممَّا تقدّم كلّه أنّ في هذه الآيات غموضاً جعلها مرامي لمختلف الأفهام والأقوال . وأيَّامّاً كانت فقد جاء بعدها من القرآن والسنة ما أغنى عن زيادة البسط .
وقوله : { إن الله بكل شيء عليم } تذييل هو مؤذن بالتعليل ؛ لتقرير أوْلويّة ذوي الأرحام بعضهم ببعض فيما فيه اعتداد بالولاية ، أي إنّما اعتبرت تلك الأولويّة في الولاية ، لأنّ الله قد علم أنّ لآصرة الرحم حقّاً في الولاية هو ثابت ما لم يمانعه مانع معتبر في الشرع ، لأنّ الله بكلّ شيء عليم وهذا الحكم ممّا علم ، الله أنّ إثباته رفق ورأفة بالأمّة .